تقليدياً، تُعدّ زراعة الأشجار الطريقة الأكثر فاعلية لمحاولة التكيُّف مع تغيّر المناخ وموجات الحر التي تضرب المدن، لكن اليوم طُوِّرت تقنيات وأدوات جديدة لتبريد المدن. تستخدم بعض هذه التقنيات مواد بناء تمتص كميات أقل من الحرارة وألوان تعكس أشعة الشمس، فيما تعتمد بعض المدن على معالجة البيانات والذكاء الاصطناعي لاتخاذ قرارات فعّالة في مواجهة موجات الحر.
المدن هي المناطق الأكثر تضرراً من ارتفاع الحرارة
وفقاً لبيانات الأرصاد الجوية، غالباً ما تكون المدن أكثر سخونة بمقدار 10 - 15 درجة مئوية من المناطق الريفية المحيطة بها، يعود ذلك إلى ما يُعرف بتأثير الجزر الحرارية (Heat Island Effect)، وهي مناطق حضرية تشهد درجات حرارة أعلى من المناطق النائية، يعود ذلك إلى أسباب عديدة مثل البناء الزائد وغياب المساحات الخضراء والأراضي الخالية من المياه وسوء التهوية.
وفقاً لدراسة نُشِرت سابقاً في مجلة بلوس ون (PLOS One)، سوف يصبح فصلا الصيف والشتاء في أوروبا أكثر دفئاً بحلول عام 2050، وسيبلغ متوسط ارتفاع درجة الحرارة في المدن الأوروبية نحو 3.5 - 4.7 درجات مئوية عن معدلاتها، هذا يعادل نقل المدن مسافة 1000 كيلومتر نحو الجنوب باتجاه خط الاستواء.
بحسب دراسة أخرى نُشِرت في المجلة نفسها عام 2025، ستكون العاصمة البريطانية لندن الواقعة في شمال قارة أوروبا رطبة وباردة شتاءً وحارة وجافة صيفاً مثل مدينة برشلونة الإسبانية اليوم التي تقع في جنوب قارة أوروبا.
اقرأ ايضاً: كيف نهيئ المدن والناس لمزيد من موجات الحر القاتلة
زراعة الأشجار: السلاح الأول لخفض حرارة المدن
أول سلاح مفيد لمحاولة الحد من تأثير الجزر الحرارية هو زراعة الأشجار. ووفقاً للتقديرات، يمكن أن تسهم الأشجار في تبريد المدن بنحو 12 درجة مئوية.
لذلك، تمتلك معظم المدن الكبرى برامج خاصة بزراعة الأشجار وزيادة المساحات الخضراء. على سبيل المثال، يهدف مشروع الرياض الخضراء الذي بدأ عام 2019 إلى زراعة أكثر من 7.5 ملايين شجرة في العاصمة السعودية الرياض، وزيادة مساحة الغطاء الأخضر للمدينة بنسبة 9%، ورفع نصيب الفرد من المساحة الخضراء من 1.7 متر مربع إلى 28 متراً مربعاً، أي ما يعادل 16 ضعفاً.
إن زراعة الأشجار أثبتت فاعليتها في خفض درجة حرارة المدن، حيث تعمل الأشجار كمكيفات هواء بطريقتين:
- الظل: تحجب الأشجار ضوء الشمس عن الشوارع والمباني، وهذا يحافظ على برودة هذه الأسطح. يسهم ذلك في جعل درجة حرارة الأسطح منخفضة، حيث يمكن أن تكون المناطق المظللة أكثر برودة بمقدار 11 - 25 درجة مئوية مقارنة بالمناطق غير المظللة.
- التبخر: تمتص الأشجار الماء من التربة، لكن معظم هذا الماء لا يبقى فيها، بل تُطلقه على شكل بخار الماء عن طريق أوراقها، ما يسهم في تبريد الهواء المحيط. يمكن لشجرة واحدة كبيرة أن تُطلق عدة لترات من بخار الماء يومياً، ويزداد ذلك عند ارتفاع درجات الحرارة، هذا يعني أن وجود آلاف الأشجار في المدينة سيسهم في تبريد هوائها بشكلٍ فعّال.
تساعد هذه التأثيرات على تقليل تأثير الجزر الحرارية، وتجعل درجة حرارة المدن مماثلة لحرارة المناطق الريفية القريبة منها.
اقرأ ايضاً: أداة جديدة من جوجل تساعد على تبريد المدن
عكس أشعة الشمس
عام 2018، قامت بلدية مدينة لوس أنجلوس الأميركية بطلاء مئات الكيلومترات من الشوارع باللون الأبيض. استُخدِم طلاء أبيض خاص قادر على عكس الإشعاع الشمسي بشكلٍ جيد، أسهم ذلك بشكلٍ فعّال في خفض درجة حرارة الهواء وتقليل كمية الحرارة التي يمتصها الأسفلت.
إليك كيف تساعد الأسطح المطلية باللون الأبيض على تبريد المدن:
- عكس ضوء الشمس: تعكس الأسطح البيضاء نسبة أعلى من ضوء الشمس مقارنة بالأسطح الداكنة. هذا يعني امتصاص حرارة أقل في المباني والشوارع، ما يجعلها أكثر برودة. تخيل أنك ترتدي قميصاً أبيض في يوم مشمس، وقارن ذلك بارتداء قميص أسود.
- خفض انبعاث الحرارة: من خلال امتصاص كمية أقل من أشعة الشمس، تبعث الأسطح البيضاء حرارة أقل إلى الهواء المحيط. هذا يساعد على منع ارتفاع درجة حرارة الهواء الذي يلامس هذه الأسطح.
هذا الأسلوب فعّال بشكلٍ خاص على الأسطح التي تتعرض كثيراً لأشعة الشمس المباشرة، وإذا التزمت المدن بتغيير أسطحها الداكنة لتكون ذات ألوان فاتحة أو بيضاء، يمكنها تجنب درجات الحرارة المرتفعة بشكلٍ فعّال. هذا ما أكدته دراسة أجراها المركز الوطني لأبحاث الغلاف الجوي في الولايات المتحدة الأميركية.
في الدراسة، وجد الباحثون أن جعل 90% من الأسطح عاكسة للضوء يمكن أن يقلل من تأثير الجزيرة الحرارية بمقدار الثُلث تقريباً.
المحاكاة باستخدام البيانات والذكاء الاصطناعي
تساعد البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي على تقييم حالة المدن وتخطيطها بشكلٍ أفضل بهدف خفض درجة حرارتها، وذلك عن طريق إنشاء توأم رقمي لأي مدينة، يسمح هذا التوأم بتحديد الأماكن الأكثر حرارة والأكثر تأثراً بدرجات الحرارة، ودراسة الأسباب بهدف إيجاد حلول فعّالة لموجات الحرارة.
اقرأ ايضاً: تغيّر المناخ يدفع هذه الدولة لإنشاء توأمها الرقمي في الميتافيرس
يمكن لتحليل البيانات الضخمة باستخدام الذكاء الاصطناعي أن يساعدنا أيضاً على التنبؤ بنتائج عملية التشجير ونشر الأسطح البيضاء في المدن وتطبيق تقنيات التبريد الأخرى، وتحديد الأماكن الأفضل والأكثر فاعلية لتطبيق هذه التقنيات بهدف تحقيق أقصى تأثير ممكن، ما يجعل عملية التخطيط واتخاذ القرارات أسرع وأفضل، خاصة خلال موجات الحر المفاجئة التي تتطلب تدخلاً عاجلاً لحماية السكان منها.