مع بزوغ فجر الثورة الصناعية الرابعة، والمعروفة بثورة البيانات والذكاء الاصطناعي، ستختلف توجهات الدول في التعامل مع هذه الثورة. ومع أن أغلب دول العالم تطمح إلى أن يكون لها نصيب من عائدات هذه الثورة، التي يتوقع أن تضيف إلى الاقتصاد العالمي أكثر من 15 تريليون دولار بحلول عام 2030، وذلك لتسهم إيجاباً في تنميتها واقتصادها. إلا أن الأمر لن يكون بمجرد الرغبة فقط. فهناك عوامل ممكنة لكل دولة تحدد مسارها، ولكل مسار هناك مخاطر وسلبيات وإيجابيات.
وبهذه الممكنات والمخاطر ستنقسم دول العالم إلى مجموعات في تعاطيها مع هذه الثورة. ولفهم أنماط تعاطي الدول مع ثورة الذكاء الاصطناعي سأحاول أن ألخص ذلك في مجموعات كالتالي:
المجموعة الأولى: مجموعة المتأخرين
وهي الدول التي ستتخلف عن تبني كل تقنيات الذكاء الاصطناعي أو أغلبها.
سيكون هناك دول لن تكون قادرة على استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، ناهيك عن تطويرها. وهذه الدول لديها في الغالب واحد من سببين:
- السبب الأول: عدم وجود البنية التحتية اللازمة لذلك. ومن أمثلة البنية التحتية المقصودة: عدم وجود أنظمة إلكترونية في القطاع الحكومي أو الخاص قادر على جمع البيانات اللازمة لكثير من أنظمة الذكاء الاصطناعي. وهذه ضريبة كبيرة للتأخر في التحول الرقمي وأتمتة الأعمال التي كانت على أشدها في المرحلة السابقة. وكذلك قد تكون البنية التحتية الرقمية غير جاهزة أو غير ناضجة لتبني أنظمة الذكاء الاصطناعي، كغياب الشبكات ووسائل الاتصال الرقمية وغيرها من ضروريات الرقمنة. كما أن غياب العنصر البشري المؤهل ونقص الكفاءات القيادية القادرة على قيادة التحول سيكون عائقاً كبيراً كذلك. فليس من الممكن، نظرياً، لدولة ليس لديها المستوى المقبول من الأتمتة والبنية التحتية أو ضعف كبير في تأهيل الكفاءات البشرية أن تقفز لتبني تقنيات الذكاء الاصطناعي مباشرة.
- السبب الثاني: أن بعض الدول ستضع قوانين وتشريعات وأنظمة حوكمة صارمة على استخدامات الذكاء الاصطناعي، ما قد يسبب تعثر مشاريعها في هذا المجال؛ فمثلاً، قد تعيق أنظمة خصوصية البيانات الطبية في دولة ما كثيراً من مشاريع الذكاء الاصطناعي في الجانب الطبي. ولو تأملنا في توجه بعض الدول، كالصين وأميركا مثلاً، فإننا نجد أنها بدأت منطلقة في أبحاث الذكاء الاصطناعي دون الالتفات بنفس المستوى لجانب الأنظمة والتشريعات والأخلاقيات؛ أي أنهم لم يلتفتوا كثيراً في البداية للأخلاقيات والمخاطر المحتملة. وهذا سباق واضح لامتلاك السيادة التقنية في هذا المجال، بعكس بعض الدول التي بدأت تحدِّد الأُطر الأخلاقية لمشاريع الذكاء الاصطناعي قبل تطوير الأنظمة الذكية وتبنيها، وهذا سيؤدي غالباً إلى تأخرهم عن ركوب الموجة على أقل تقدير. وكما علمنا التاريخ من الثورات الصناعية الثلاث السابقة أن من تأخر عن سباق تبني التقنيات وتطويرها فسيخسر كثيراً من الفرص التي يمكن أن لا تعود إلا بعد عقود طويلة. وستكون الخسارة هنا على المستويات السياسية والتنموية والاقتصادية والثقافية.
إنني شخصياً أجد نفسي مؤيداً للفريق الذي انطلق في التطوير والتنفيذ وبناء الإستراتيجيات اللازمة لذلك قبل فرض الكثير من القيود وقبل تضخيم المخاوف والمخاطر. وأتمنى أن لا أجد كثيراً من الدول العربية في هذه المجموعة.
المجموعة الثانية: مجموعة الاستخدام
وهي الدول التي ستستخدم الذكاء الاصطناعي بشرائه مباشرة من الشركات وخاصة الشركات العملاقة.
هذه الدول هي الدول التي لديها الإمكانات اللازمة لتشغيل أنظمة ذكاء اصطناعي، من البنية التحتية والأنظمة والبيانات المحوكمة والقدرة المالية اللازمة لذلك. وستقوم الدول في هذه المجموعة بشراء أنظمة جاهزة إما مطورة مسبقاً، أو أن يقوموا بطلب تطوير وتعديل أنظمة مخصصة حسب الطلب. ويكون في هذه الحالة تطوير وتنفيذ النظام من قبل شركة أو (مورّد) عالمي خارجي. أي أن الدولة في هذه المجموعة ستكون دولة مستهلكة.
قد تكون هذه الطريقة هي الطريقة الأسهل والأسرع في التنفيذ ورؤية النتائج، ولكن هناك سلبيات كثيرة لهذه الطريقة، وهي كالتالي:
- لن تتمكن الدول في هذه المجموعة من نقل وتوطين المعرفة والتقنية؛ لأنها لن تمتلكها، فالمنتج في هذه الحالة سيكون -في الغالب- ملكاً لشركة من الشركات العملاقة في هذا المجال، التي يعتقد أنها ستكون تابعة لإحدى دول المجموعة الرابعة (مجموعة التطوير).
- لن يتم التطوير والتعديل محلياً لأن مراكز الأبحاث والتطوير والابتكار لهذه الشركات خارج الدولة المستفيدة من الخدمة. وأغلب هذه الشركات لا تقوم بالتطوير على المنتج حسب الطلب بسهولة، وخاصة إذا كان هذا المنتج يُستخدم من قبل عدد كبير من العملاء.
- في حال طلب التعديل على النظام ففي الغالب سيكون الأمر مكلفاً وبطيئاً. وهذا بلا شك لايتناسب مع سرعة التطور التقني الذي تتطلبه المرحلة الحالية.
- كما تنطوي على استخدام أنظمة موردين عالميين مخاطر كبيرة منها:
- مخاطر تسرب البيانات الوطنية؛ حيث إن أغلب أنظمة الذكاء الاصطناعي تعتمد على البيانات لبناء النماذج، وللأسف فإن أغلب الموردين اليوم يطلبون الحصول على وصول كامل للبيانات من قبل الخوارزمية، وربما الموظفين. بل ربما يتجاوز الأمر ذلك إلى نقل البيانات لسيرفرات خارج الدولة المستفيدة المالكة للبيانات. وفي هذه الحالة سيسهل استهداف مواطني هذه الدول سواءً سياسياً أو اجتماعياً أو تجارياً عن طريق الهندسة الاجتماعية.
- وهناك مخاطر مرتبطة بوضع الشركة سياسياً أو اقتصادياً، حيث يمكن أن تفلس أو يتم إيقاف التعامل معها. وهذا يقود إلى فقد جهد كبير وخسارة أموال طائلة للجهة المستفيدة من الخدمة، وربما إعادتها للمربع الأول.
- أن مجرد الاستخدام -حتى لو أسهم في رفع جودة الحياة والخدمات المقدمة للمستفيد وتقليل التكاليف التشغيلية ورفع كفاءة العمل- لا يعني أننا استطعنا أن نستفيد كثيراً من الثورة الصناعية الرابعة بالشكل المطلوب؛ لأننا سنكون ما زلنا في دائرة المستهلك.
المجموعة الثالثة: مجموعة التنفيذ
وهي الدول التي ستنفذ وتبني نماذجها الخاصة.
إن تنفيذ نماذج وأنظمة ذكاء اصطناعي معقدة ومتطورة ليس بالصعوبة التي يعتقدها الكثير؛ حيث إنه أصبح الآن متاحاً وأسهل من ذي قبل. وعليه فهذه المجموعة تستطيع أن تكون فيها كثير من دول العالم. وأعتقد أنها أسرع وأسهل المجموعات نجاحاً. نجد أن كثيراً من أنظمة الذكاء الاصطناعي التي ظهرت اليوم سواء من مراكز الأبحاث الجامعية المرموقة أو حتى الشركات العملاقة متاحة للاستخدام مجانا ومفتوحة المصدر. تصور أن كثيراً من المشاريع التي تصرف عليها شركات عملاقة من جوجل وفيسبوك وغيرها ملايين الدولارات ويتطلب بناءها خبرات عالمية كبيرة وتم الاستثمار فيها سنين طويلة، يمكنك من أي مكان في العالم الحصول عليها مجاناً وإعادة استخدامها وتطويرها والتعديل عليها بما يناسبك في غضون دقائق ودون قيود تذكر.
إن الخوارزمية التي استخدمت لتطوير نظام ذكي يستطيع الرسم، والتي قامت برسم لوحة فنية بيعت في إحدى المزادات الفنية بقرابة نصف مليون دولار، كانت خوارزمية مفتوحة المصدر وكان لأيٍّ منا حرية استخدامها وتعديلها كما يشاء.
هذه المجموعة تحتاج إلى فريق عمل مؤهل فقط لبدء استخدام هذه التقنيات. وأهم ميزات هذه المجموعة هي أنها:
- يمكن أن تسرع العمل وتقلل وقت تحويل الفكرة إلى منتج.
- لا تحتاج إلى أي مزود خدمة عالمي، ولو احتاجت فسيكون بشكل محدود جداً. أي أنها ستتجنب المخاطر التي ذكرناها في المجموعة الثانية.
- ستتمكن من نقل التقنية وتوطينها.
- يمكن لهذه الدول دعم بعضها وكسر احتكار كبار اللاعبين للتقنيات.
- يمكن لهذه المجموعة أن تبدأ بالاستخدام المباشر ومن ثم تتطور لتصبح مطورة لتقنيات الذكاء الاصطناعي؛ وذلك ببناء مراكز بحثية حكومية وخاصة وتشجيع البحث والابتكار في هذا المجال. وهذا ما حدث مع الصين تماماً عندما بدأت مشوارها في الصناعة.
إن بداية الصناعة في الصين بدأت بالتقليد، فقد اعتمدت نموذج عمل "وأنا كذلك" (Me Too). والمقصود هنا أن الصين بدأت تقلد كل شيء، وشعارها أن أي شيء يصنع في أي مكان في العالم يمكن لي أن أصنعه أنا كذلك. ولكن الأمر تطلب من الصين معرفة المواصفات للمنتج لتتمكن من صناعته. وبعد أن أثبتت نجاحاً كبيراً في الصناعة بالتقليد، توجهت نحو الابتكار وتطوير المنتجات. وبهذا أصبحت قادرة على تقليد أي منتج ولكن بمواصفاتها الخاصة بها. وأخيراً تحولت الصين بدعم مراكز الأبحاث والإنفاق على البحث والابتكار، إلى دولة مطوِّرة لتقنياتها الخاصة بها. بل إنها سبقت كل دول العالم في تقنيات مثل شبكات الجيل الخامس.
إن هذه المجموعة (مجموعة التنفيذ) هي المجموعة التي يمكن أن نركز كل اهتمامنا وعملنا فيها. وبذلك يمكن لنا أن ننجح بالإمكانات التي لدينا من بنية تحتية وكفاءات بشرية وموارد مالية، وبذلك نرفع الفائدة ونسرع التحول وتبني تقنيات الثورة الصناعية الرابعة، ونتجنب المخاطر الكبيرة التي ذكرناها في المجموعة الثانية (مجموعة الاستخدام).
كما أن العائد الاستثماري لهذه المجموعة سيكون مناسباً، خاصة إذا وضعنا في حسباننا أن السوق المحلية والإقليمية ستكون كافية لاستهدافها في المرحلة الأولى. ثم إن هذه المجموعة لا بد لها أن تخلق مراكز ومجموعات عمل مؤهلة تستطيع أن تكون نواة لمراكز بحث وتطوير وابتكار حقيقية تساعد على الحصول على حصة جيدة مع المجموعة الرابعة (مجموعة التطوير).
المجموعة الرابعة: مجموعة التطوير
وهي الدول التي ستطور وتبتكر أنظمة ذكاء اصطناعي.
هذه الدول ستكون لديها الإمكانات الكبيرة والكثيرة لتطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي وقيادة العالم في هذه الثورة الصناعية. وهي بكل تأكيد ستكون أحد مراكز هذه الثورة، وسبيل تطورها، وبالتالي فستكون الرابح الأكبر من بين المجموعات الأخرى؛ ولذلك فإن عدد الدول سيكون محدوداً بشكل كبير.
ولن أكون مبالغاً إذا قلت إن الولايات المتحدة الأميركية والصين هما الدولتان الأكثر حظاً من بين دول العالم لتكون ضمن هذه المجموعة. ولن يكون لأحد -على الأقل خلال 20 سنة قادمة- القدرة على المنافسة هنا بشكل كبير غير هاتين الدولتين، حتى الاتحاد الأوروبي لن يكون لديه القدرة على منافسة هذين العملاقين، إلا إن اتحد بشكل كامل وأخر مرحلة أخلاقيات الذكاء الاصطناعي وتنازل عن قيود تطوير أنظمته قليلاً. أما دولة مثل روسيا، فإنه في الأغلب ستركز على الاستخدامات العسكرية للذكاء الاصطناعي؛ وذلك لأسباب، أهمها أنها حتى لو عملت في مجالات أخرى فلن يكون لديها القدرة الكبيرة على تسويقها عالمياً بشكل كبير كما تفعل الصين وأميركا؛ فروسيا مثلاً ليست ضمن أول 10 دول في عدد الشركات الأكبر في العالم.
كل ذلك بعكس الصين وأميركا؛ حيث إن لديهما كل إمكانات النجاح التي تحتاجانها في هذا المسار، بدءاً بوجود الشركات العملاقة وخاصة في الجانب التقني، ووجود الجامعات ومراكز الأبحاث المتقدمة، والإنفاق الهائل على البحث والابتكار والموارد البشرية المؤهلة، والحصة السوقية الكبيرة من السوق العالمية. كما أن وجود البيانات التي يمكن استخدامها في تطوير أنظمة ذكية سيكون مفصلياً هنا. والذي يميز هاتين الدولتين عن كثير من دول العالم، أن كثيراً من الدول لديها بيانات مواطنيها فقط، أما أميركا والصين فلديهما بيانات مواطنيهم ومواطني دول العالم الأخرى.
إن على الدول التي لديها القدرة على أن تكون ضمن هذه المجموعة أن تضاعف أعداد مراكز الأبحاث، وتنشئ مركزاً بحثياً داخل كل جهة سواء حكومية أو شبه حكومية أو خاصة. كما ينبغي أن تسعى لاستقطاب الكفاءات من دول العالم المختلفة والتوسع في الإنفاق على دعم البحث والابتكار ودعم المشاريع الناشئة وتسويقها عالمياً ومنحها كل الإمكانات اللازمة للنجاح.