أتساءل دائماً إذا استطاع أحدهم الرجوع بالزمن إلى الوراء نحو 150 عاماً مثلاً، فكيف سيكون رد فعل أجدادنا تجاه ما سنخبرهم به عن نمط حياتنا في 2023، وعن التغيير الذي ألحقته التكنولوجيا بالمجالات كافة من حولنا، بداية من طرق التواصل مع الآخرين، وتقديم الخدمات المختلفة، وحتى طرق التعليم والرعاية الصحية. ربما يتهموننا بالجنون! أما نحن الآن، فقد شهدنا تغيير القطاعات بالكامل أكثر من مرة خلال سنوات قليلة، مع ظهور كل تقنية. وها نحن على موعدٍ مع تغيير آخر سيقلب كل شيء مجدداً، وهو الميتافيرس.
تغيير شكل التواصل: مصافحة حقيقية عن بُعد!
نجحت التقنية خلال السنوات الأخيرة في تطوير التواصل مع الآخرين، من الصوت فقط عبر الهاتف، إلى الصوت والصورة عبر تطبيقات الفيديو، ونستعد الآن إلى التواصل عبر تقنية الميتافيرس، التي ستمنحنا "حضوراً كاملاً مع شخصٍ آخر في مكان آخر"، وفقاً لمؤسس شركة ميتا، مارك زوكربيرغ؛ إذ ستكون هناك نسخة افتراضية مني ومنك، ومن مدارسنا وجامعاتنا وأماكن الرعاية الصحية والنوادي التي نرتادها، ومدننا أيضاً مثلما أعلن وزير خارجية توفالو، سيمون كوفي، عن خطة بلاده في إنشاء توأم رقمي في الميتافيرس من أجل نسخ جزرها الجميلة افتراضياً والحفاظ على ثقافتها الغنية.
لن يقتصر التواصل عبر ميتافيرس على اعتباره بيئة افتراضية تتفاعل فيها النسخ الرقمية من المستخدمين و"يدخلون إليها بدلاً من مجرد النظر إليها" وفقاً لوصف مارك، وإنما من المرجح أن نشعر باللمسة الجسدية للأشخاص الذين نتواصل معهم، عبر أجهزة مخصصة مثل ألواح تعمل بالموجات فوق الصوتية، أو أذرع رقمية.
ففي بحثٍ شارك فيه رئيس قسم الرؤية الحاسوبية بجامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي، الأستاذ عبدالمطلب الصديق، صمم خلاله ذراعين آليتين أطلق عليهما اسم روبو توين (Robo Twin)، للتوسط في المصافحة الجسدية بين شخصين في مواقع منفصلة، وزوِّدت هاتان الذرعان بمستشعرات درجة الحرارة ومحركات القوة الاهتزازية، كي يشعر المستخدم بأنهما حقيقيتان تماماً، وقد عبّر المشاركون عن آرائهم الإيجابية بشأن التجربة، وقدّموا توصياتهم لتجربة أكثر فاعلية في المستقبل.
فأدرج البحث الذي حمل عنوان: "الأذرع الروبوتية الرقمية المزدوجة الحسية: إلى المصافحة في ميتافيرس" بعض التوصيات بناءً على آراء المشاركين. فعلى سبيل المثال، اقترحت مجموعة من الإناث المشاركات تعديل حجم اليد ليتناسب مع مقاسات يد الذكور والإناث، إذ شعرن بأن اليد الآلية كانت ضخمة كيد الرجل، كما اقترح البحث أن تضم النسخة القادمة من اليد مستشعرات درجة حرارة لاستشعار مناطق اليد جميعها التي تلامسها في أثناء إجراء المصافحة، بدلاً من مجرد استشعار درجة حرارة راحة اليد والإبهام فقط مثل النسخة الحالية.
نسخ بشرية واقعية في الطريق إلينا
ويبدو أن الوقت الذي ستكون فيه لكل منا نسخة افتراضية تتصرف نيابةً عنا، وتسافر إلى أماكن لا يمكننا السفر إليها جسدياً وحضور مناسبات بدلاً منا ليس بعيداً. منذ إعلان مارك في يوليو/ تموز 2021 عن تغيير اسم شركته فيسبوك إلى ميتا، وتأكيده أنه يخصص العقد الحالي من العمل لنقل الميتافيرس إلى حيز التحقيق الفعلي، بدأ الكثير من المؤسسات الكبرى بالاستعداد إلى مواكبة هذا العالم، مثل جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي التي أطلقت في وقتٍ مبكر مختبر الميتافيرس، الذي يضم أبرز العلماء في هذا المجال، ويركّز على الأبحاث التطبيقية لتطوير تقنيات غامرة مدعومة بالذكاء الاصطناعي.
يُعنى الآن مختبر الميتافيرس بتطوير خوارزميات الذكاء الاصطناعي من الجيل التالي لإنشاء نسخ بشرية افتراضية واقعية، ورقمنة البيئات الديناميكية، وإنشاء محتوى مكاني وثنائي الأبعاد. فيقول الأستاذ في قسم الرؤية الحاسوبية ومدير مختبر الميتافيرس، هاو لي: "ينصبُّ تركيزنا بشكلٍ خاص على تحقيق الرقمنة الكاملة للمشهد في الوقت الفعلي، وتعزيز موثوقية تقنيات الالتقاط المتاحة للمستخدمين، مثل كاميرات الهواتف الذكية، وتحسين القدرة على رقمنة البيئات الديناميكية الواسعة النطاق".
يرسم لي صورة للمستقبل القريب قائلاً: "بوجود نسخة افتراضية عن أنفسنا، ستستغرق زيارة رؤسائنا في العمل أو زملائنا في مجالات الأبحاث أو مراجعة أطباء على الجانب الآخر من الكوكب دقائق فحسب، عوضاً عن استغراقها أياماً، تخيّلوا مذيع أخبار يعمل بالذكاء الاصطناعي ويمكنه التحدث بأي لغة ويتم تحديثه دائماً عبر تزويده بآخر الأخبار، أو إمكانية إعادة الشخصيات التاريخية إلى الحياة والتفاعل معها في قاعات الدراسة".
مستقبل التعليم في الميتافيرس
شهد قطاع التعليم بالفعل تغييراً كبيراً في أثناء جائحة كوفيد-19 بالانتقال إلى التعلم عن بُعد الذي سيتطوَّر بصورةٍ أكبر على يد الميتافيرس. فيقول لي: "ماذا لو استطعت التعلّم على أيدي أفضل الأساتذة حول العالم بغض النظر عن مكان إقامتك أو ظروفك المالية؟ وماذا لو تمكنت من التعاون مع زملائك عن بُعد باستخدام صور رمزية (أفاتار) ثلاثية الأبعاد؟".
هذا هو المستقبل الذي يَعد به الميتافيرس لقطاع التعليم، خاصةً أن قطاع التعليم يقع في صميم رؤية شركة ميتا لمستقبل الإنترنت القائم على الواقع الافتراضي، إذ أعلنت ميتا أنها تتعاون مع منصات رائدة في مجال التعليم عن بُعد مثل كورسيرا (Coursera) وإيدكس (edX)، للمساعدة على إنشاء منهج تعليم يشمل تجارب مدعومة بتكنولوجيا كلٍّ من الواقع المعزز والافتراضي.
كما عرضت ميتا رؤيتها للتعليم من خلال فيديو مدته 75 ثانية تظهر خلاله طالبة تدرس مادة الفيزياء الفلكية عبر التحكّم بصورة افتراضية عملاقة للمجموعة الشمسية، والتكبير لرؤية تفاصيل الكواكب، وطالب وهو يتجول في مدينة روما القديمة كما كانت قبل ألفي سنة.
وعلى أرض الواقع، أعلن المعهد الكوري الجنوبي المتقدم للعلوم والتكنولوجيا كايست (KAIST) افتتاحه حرماً جامعياً افتراضياً في دولة كينيا هذا العام ليكون بديلاً عن الجامعة التي تقع على بُعد 60 كيلومتراً من العاصمة الكينية نيروبي.
زعزعة مجال تقديم الرعاية الصحية على يد الميتافيرس
على الرغم من أن الميتافيرس لا يزال في مراحله الأولى من التطور، فإن معظم مجالات الرعاية الصحية يشهد بالفعل تأثيره، إذ قُدّرت قيمة سوق الرعاية الصحية في ميتافيرس من حيث الإيرادات بنحو 9.5 مليارات دولار عام 2023، ومن المتوقع أن تصل إلى 79.6 مليار دولار بحلول عام 2028.
وتشمل التغييرات التي يحملها الميتافيرس لقطاع الرعاية الصحية المجالات كافة بدءاً من التعلم والتدريب في المجالات الطبية عبر إتاحة تدريب الطلاب والأطباء في بيئات افتراضية واقعية، والتحول في التجارب السريرية اللامركزية عن طريق كسر الحاجزين المادي والجغرافي، والتطبيب عن بُعد، وطرق العلاج سواء العلاج الطبيعي أو الجسدي أو النفسي.
حيث استطاعت دائرة الصحة- أبوظبي تطوير "منظومة علوم الحياة للرعاية الصحية في الميتافيرس" لخلق نسخة افتراضية لمنظومة الرعاية الصحية بالإمارة تجمع بين رواد الأعمال، والمستثمرين، ومقدمي الرعاية الصحية لتبادل المعارف والخبرات.
كما دشنت السعودية مستشفى صحة الافتراضي، الذي يُعنى بتسهيل الحصول على الخدمات الصحية، ويتضمن تقديم خدمات الاستشارات الافتراضية للرعاية الحرجة، والعيادات التخصصية الافتراضية، واللجان الافتراضية المتعددة التخصصات، والخدمات الافتراضية الطبية المساندة، وخدمات الرعاية المنزلية.
وعود الميتافيرس بمستقبل أكثر استدامة
يقدّم الميتافيرس وعوداً بمستقبل أكثر استدامة عبر دعم التحضر المستدام، وتقليل الزحف العمراني، وتقليل الأثر البيئي للتحضر عندما ينتقل الكثير من الأحداث اليومية إلى الواقع الافتراضي، مثل المدارس والجامعات والأسواق والحفلات، إذ سيتعين على عدد أقل من البشر التنقل أو السفر، إضافة إلى تقليل الحاجة إلى البنية التحتية المادية مثل مباني المكاتب والمؤتمرات، وبالتالي تقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري.