فرض وباء كوفيد-19 تحدّيات صحية واقتصادية واجتماعية غير مسبوقة على البشرية جمعاء. وعلى الرغم من أهمية إجراءات الابتعاد الاجتماعي والحجر الصحي في تخفيف انتشار العدوى، إلا أنها تُلقي بتكاليف وتبعات اقتصادية واجتماعية هائلة على عاتق المجتمعات.
وفي ظل عدم توافر أي دواء فعال حتى الآن، يعتقد الخبراء أن اللقاح يمثّل أفضل الآمال للقضاء على الوباء. لكن تكمن مشكلة اللقاحات في أن اختبارها وتجهيزها يستغرق 18 شهراً على الأقل، لذا برزت فكرة إجراء "تجربة التحدّي" لتسريع هذه العملية.
فما هي تجربة التحدي؟ ولماذا يستغرق تطوير اللقاحات كل هذا الوقت؟
يمر تطوير اللقاح بثلاث مراحل رئيسية لاختباره قبل إعطائه للبشر على نطاق واسع؛ ففي المرحلة الأولى يتم اختبار اللقاح على مجموعة صغيرة من الأشخاص الأصحاء للتأكد من سلامته. وفي المرحلة الثانية، يتمحور الهدف حول إثبات قدرته على توليد الاستجابة المناعية المطلوبة. وأخيراً، يتم في المرحلة الثالثة اختبار فعالية اللقاح وقدرته على منح الحصانة للأشخاص ضد التقاط عدوى المرض.
وتستغرق المرحلة الثالثة القدر الأكبر من وقت الأبحاث والتطوير، وهي أهم مرحلة؛ حيث يتم فيها تقديم اللقاح إلى المئات أو الآلاف من الأشخاص من دون تطعيم الآخرين أو إعطائهم لقاحاً وهمياً. ثم سيتعين على الباحثين الانتظار حتى يصاب الأشخاص المشاركين في الدراسة بالعدوى عن طريق الصدفة، في محاولة لإثبات أن أولئك الذين تم تطعيمهم لن يصابوا بالمرض أو سيعانون من أعراضٍ أخف إذا ما تعرضوا للإصابة.
غير أن الانتظار حتى يصاب الناس بالعدوى بشكل طبيعي قد يستغرق وقتاً طويلاً؛ إذ إنه مع تراجع فيروس كورونا في مدن مثل نيويورك -حيث انخفض عدد الحالات الجديدة من أكثر من 6000 في اليوم إلى أقل من 600- فإن تلك الجهود الناجحة لتثبيط المرض قد تجعل اختبار اللقاح أصعب.
وهذا ما دفع مجموعة من الأكاديميين إلى اقتراح فكرة إجراء "تجربة التحدي" ضمن مقالة منشورة في مجلة الأمراض المعدية. وتنطوي تجربة التحدي على إعطاء اللقاح لمجموعة من المتطوعين ثم نقل العدوى إليهم عمداً لاختصار عدة شهور من المرحلة الثالثة لاختبار لقاح محتمل، وربما إنقاذ آلاف الأرواح. وقد وقَّع على هذا الاقتراح كلٌّ من مارك ليبشيتش، وهو عالم أوبئة من جامعة هارفارد، ونير إيال، وهو اختصاصي بأخلاقيات علم الأحياء من جامعة روتجرز، وبيتر سميث، وهو عالم إحصاء من كليّة لندن للصحة وطب المناطق المدارية.
لا تمثل تجارب التحدي فكرة جديدة؛ فقد تم استخدامها في تطوير العديد من اللقاحات لأمراض الحصبة والحمى والصفراء والملاريا والكوليرا. لكن اللجوء إليها لتطوير لقاح مضاد لكوفيد-19 قد أثار الكثير من الجدل بين المؤيدين لهذه الفكرة والمعارضين لها.
الجوانب الإيجابية لتجربة التحدي
يعتبر تسريع عملية التوصل إلى فعالية اللقاح أهم فوائد تجربة التحدي؛ حيث يتم إعطاء المتطوعين اللقاح الفعال أو اللقاح الوهمي ثم تتم إصابتهم بالفيروس بشكل متعمد. وبالتالي، يتم تقليل وقت الانتظار لمراقبة تأثيرات العدوى وفعالية اللقاح وبعدد أقل من المشاركين. وعلاوة على ذلك، يبقى المتطوعون في منشأة صحية متخصصة طوال فترة التجربة من أجل تجنب نقل العدوى إلى أشخاص آخرين وتأمين الرعاية الطبية اللازمة في حال احتاجوا إليها.
وبالإضافة إلى اختصار وقت تطوير اللقاح، توفّر تجربة التحدي مجموعة من الفوائد الأخرى، منها:
- اختبار فعالية عدة لقاحات مرشّحة؛ إذ إن هناك حالياً أكثر من 100 لقاح مرشّح ضد كوفيد-19 يجري العمل على تطويرها. وبالتالي، تتيح تجربة التحدي اختيار اللقاحات الواعدة منها لاختبارها في دراسات أوسع.
- استبعاد اللقاحات غير الفعالة بشكل أسرع وتوفير الجهد والمال اللازمين لاختبارها على نطاق واسع.
- جمع معلومات قيّمة حول آلية إصابة البشر بالعدوى وكيفية اكتسابهم للمناعة ضد فيروس كورونا، ما يحسن من فهم السلطات الصحية للوباء ويرفع فعالية استجابتها.
- إتاحة إمكانية اختبار اللقاح في حال كان من الصعب إجراء المرحلة الثالثة من الاختبارات عندما ينحسر الوباء على سبيل المثال.
الانتقادات التي تواجهها تجارب التحدي
يوافق مايرون ليفين، وهو أحد خبراء تجارب التحدي من جامعة ماريلاند، على أن تجربة هذا النوع من التحدي "قد تختصر الوقت"، لكنه لا يعتقد أن اللجوء إلى هذه الفكرة مبررٌ بعد. ويرى غيره من العلماء أن تجارب التحدي لا يمكن أن تحل محل المرحلة الثالثة المعتادة من تطوير اللقاح لعدة أسباب، منها:
- تجربة التحدي تتم ضمن نطاق ضيق لا يضم إلا مجموعة صغيرة من الأشخاص، وبالتالي قد لا توفر ما يكفي من البيانات حول سلامة وفعالية اللقاح لمنحه الترخيص الطبي لاستخدامه على نطاق واسع.
- إصابة المشاركين في التجربة عمداً بالفيروس لا تحاكي الإصابة الطبيعية بالعدوى.
- توفر تجربة التحدي معلومات محدودة تتعلق بالاستجابة المناعية لدى متطوعين شباب أصحاء لا يمثلون شريحة تمثيلية لكافة السكان.
- قد يستغرق التحضير والإعداد لتجربة التحدي والحصول على الموافقات الصحية اللازمة وقتاً لا بأس به، وهو ما يقلل من أهمية ميزتها الأساسية في تسريع اختبار اللقاحات.
الإشكالية الأخلاقية لتجربة التحدي
علاوة على كل ما سبق، تطرح تجارب التحدي إشكالية أخلاقية كبرى؛ فعلى الرغم من الفائدة التي تقدمها -والمتمثلة في تسريع تطوير اللقاح المضاد لكوفيد-19 لإنقاذ أكبر عدد من الأرواح- فإن إصابة مجموعة من الأشخاص عمداً بفيروس كورونا قد تؤدي إلى أعراض خطيرة وربما مميتة. فهل يعتبر السماح للمتطوعين بالتقاط عدوى خطيرة -عن سابق معرفة وقصد- أمراً مقبولاً من الناحية الأخلاقية؟
من ناحية، يقول مناصرو إجراء تجارب التحدي إن خطورة فيروس كورونا هي في حدودها الدنيا لدى الشباب الأصحاء، وإنها مخاطَرة مبرَّرة عند مقارنتها بالمنافع الكبيرة التي تحققها.
ويرى المؤلفون الثلاثة لاقتراح التحدي أنه يمكن للبالغين الشباب -الذين لا يعانون عادة من أشكال خطيرة من المرض- أن يتخذوا خياراً واعياً ليكونوا بمنزلة فئران التجارب التي ستساعد في إنقاذ العالم من مرض كوفيد-19. ويقولون في اقتراحهم: "قد يبدو من غير المسموح أن تطلب من الناس تحمّل مخاطر الإصابة بمرض خطير أو الموت، حتى ولو كانت الغاية وراء ذلك هي تحقيق مكاسب جماعية كبيرة. ولكننا في الواقع نطلب من الناس القيام بهذا النوع من المخاطرة من أجل تحقيق منفعة مباشرة للآخرين في كل مرة نطلب فيها من رجال الإطفاء المتطوعين الاندفاعَ إلى المباني المحترقة".
ومن ناحية أخرى، يردّ المعارضون بالقول إنه بالإضافة إلى خطر الموت، فإن المتطوعين في تجارب التحدي معرضون لخطر الإصابة بأعراض خطيرة مثل الجلطات الدموية والدماغية وتضرر الرئتين وأعضاء أخرى في الجسم مثل الكلى والقلب والجهاز المناعي والجهاز الهضمي وظهور أعراض شبيهة بداء كاواساكي عند الأطفال.
أضف إلى ذلك عدم توفر علاج مثبت علمياً للمرض، وعدم توفر فهم كامل -بعد حوالي ستة أشهر من اكتشاف المرض- لتأثيراته على جسم الإنسان على المدى المتوسط والبعيد.
وقد كانت منظمة الصحة العالمية قد وضعت قائمة بالشروط التي يجب أن تحققها أي تجربة تحدي لاختبار لقاحات مضادة لكوفيد-19 حتى تكون مقبولة من الناحية الأخلاقية. وعلى رأس هذه القائمة يأتي التبرير العلمي؛ أي إثبات الفائدة العلمية من تجربة كهذه. وأكدت المنظمة على ضرورة أن يتم تصميم تجربة التحدي بعناية فائقة وإجراؤها بشكل يقلّل خطر تضرّر المتطوعين إلى الحد الأدنى، وبصورة تحافظ على ثقة الجمهور في البحث العلمي.
وبالنسبة للمتطوعين، فإن تسريع إنتاج اللقاح بمقدار يوم واحد قد ينقذ آلاف الأرواح. وهذا يمثل حجة كافية لإقناعهم بالمشاركة في تجارب التحدي. وحتى وقت كتابة هذا المقال، سجَّل أكثر من 26,000 شخص من 102 دولة على موقع ون داي سونر للتعبير عن استعدادهم للتطوع في هذه التجارب.