تكمن قوة الذكاء الاصطناعي في خلق حلول جديدة وإبداعية، وليست في نمذجة ما نعرفه بالفعل، ما يجعل الذكاء الاصطناعي الإبداعي من خلال الحوسبة التطورية "التعلم العميق التالي" المحتمل.
الذكاء الاصطناعي الإبداعي أو التعلم العميق؟
تعتمد معظم تطبيقات الذكاء الاصطناعي على النمذجة، أي التعلم الآلي للنماذج الإحصائية التي تجعل من الممكن التنبؤ بالقرار الصحيح في موقف ما. حيث يوجد كميات هائلة من البيانات الخاضعة للإشراف، والتي تحدد الإجابة الصحيحة لكل حالة إدخال. مع القدرات الحسابية الحالية، من الممكن تدريب الشبكات العصبونية الاصطناعية على الاستفادة من البيانات. لكن يوجد حالات لا تكون فيها الحلول الصحيحة أو الجيدة معروفة، ولكن يجب اكتشافها، وهنا يأتي دور الذكاء الاصطناعي الإبداعي.
يستخدم الذكاء الاصطناعي الإبداعي الحوسبة التطورية، التي تختلف عن التعلم العميق، فبينما يركز التعلم العميق على نمذجة مجموعة بيانات موجودة، تركز الحوسبة التطورية على إنشاء حلول غير موجودة بعد، وتحل المشكلات باستخدام عمليات تحاكي سلوك الكائنات الحية والتطور البيولوجي، إذ تتبع عملية انتقاء شبيهة بعملية الانتقاء الطبيعي عند الكائنات الحية؛ فهي تستبعد الخيارات الأضعف وتحتفظ بالخيارات الأفضل والأكثر قابلية للتطبيق.
تبدأ الحوسبة التطورية بإنشاء مجموعة أولية من الحلول الممكنة لمشكلة ما. ثم تتم تجربة كافة الحلول وإخضاعها لعملية تصفية أو انتخاب بحيث تتم إزالة الحلول الأضعف بشكل عشوائي وإحداث تغيرات عشوائية صغيرة في الأجيال التالية. وبعد تمرير الحلول من جيل إلى آخر تصبح منتخبة بشكل متزايد. وفي النهاية تكون الحلول الناتجة مثالية إلى أقصى حد ممكن، على الرغم من عدم فهم المقاربة المستخدمة في البداية. أي أن الخوارزمية لا تقتصر على حل معين، بل يمكن أن تقدم حلولاً محتملة متعددة لمشكلة ما.
اقرأ أيضاً: خوارزمية تطورية تتفوق على آلات التعلم العميق في ألعاب الفيديو
يمكن وصف الحوسبة التطورية بأنها الذكاء الاصطناعي الذي يمكنه التفكير خارج الصندوق، وسيشكل مستقبل الذكاء الاصطناعي. وهذه بعض الأمثلة التي أثبت فيها الذكاء الاصطناعي الإبداعي والحوسبة التطورية أهميتهما في المستقبل.
الحوسبة التطورية تصمم واجهات ويب فعالة
من الأمثلة على الحوسبة التطورية منصة أسيند (Ascend) التي طورتها شركة إيفولف (Evolv). تعمل هذه المنصة على تطوير تصميم واجهات صفحات الويب بطريقة تزيد احتمالية أن يتخذ المستخدم الإجراء المطلوب على الصفحة، مثل الاشتراك، وشراء شيء ما، أو طلب المزيد من المعلومات، وذلك بعد تحديد الخبير البشري مساحة بحث، تتكون من مجموعة من العناصر على الصفحة، مثل العنوان والحجم واللون وصورة الخلفية وترتيب المحتوى والقيم المحتملة لكل منها. بعد ذلك يمكن العمل على تحسين تصميم الصفحة باستخدام الخوارزميات الجينية.
يتم تقييم كل الاحتمالات من خلال نشرها على الويب، ثم توجيه عدد كافٍ من المستخدمين الفعليين إلى كل تصميم محتمل، وقياس مدى جودة عملية التحويل. مع وجود بضع عشرات من الاحتمالات، تكتشف (أسيند) عادةً التصميم الأفضل. تعمل المنصة على تحسين الأداء بنسبة 10-200% مقارنة بالتصميمات البشرية الأصلية. والأمر الأكثر إثارة للاهتمام في (أسيند) هو أنها تكتشف الحلول الإبداعية التي يفتقدها المصممون البشريون.
اقرأ أيضاً: "زينوبوتس": روبوتات ذات خلايا حيّة تمّ صنعها بواسطة خوارزمية تطوّرية
اكتشاف الحوسبة التطورية وصفات النمو للزراعة العمودية
من تطبيقات الحوسبة التطورية أيضاً تطوير وصفات النمو للزراعة العمودية التي يتحكم فيها الحاسوب. في هذه الزراعة يمكن التحكم في المدخلات مثل الماء ودرجة الحرارة والمغذيات والضوء حسب الرغبة، وتكمن الصعوبة في تحديد كيفية ضبط هذه المدخلات بحيث تنمو النباتات معطية صفات مرغوبة قدر الإمكان، مثل النكهة أو الحجم، وبتكلفة قليلة. وبما أن النبات يحتاج وقتاً طويلاً لينمو، يصعب تقييم الشروط المثلى للحصول على الصفات المرغوبة، لكن يمكن ذلك باستخدام نموذج بديل.
أجريت تلك التجربة على نبات الريحان بهدف تحسين النكهة، مع التركيز على متغيرات الضوء مثل الطول الموجي، ومدة التعرض له، والأشعة فوق البنفسجية. بدايةً، تم تنفيذ مئات الاحتمالات على أرض الواقع، ثم تدريب نموذج بديل على البيانات الناتجة، مع تقييم النكهة. ثم أنشِئت إنشاء حوالي مليون وصفة من خلال البحث وتقييمها. في النهاية، تم تقييم أفضلها في تجارب نمو حقيقية. كانت أفضل التجارب، تعريض النباتات للضوء لفترة 18 ساعة، وكانت هذه النتيجة مفاجأة لعلماء الأحياء في الفريق.
اقرأ أيضاً: هل يمكن للتعلم الآلي وأجهزة الاستشعار أن يُسهما في زيادة المحاصيل الزراعية؟
البحث عن استراتيجيات للتخفيف من انتشار فيروس كورونا
في بحث آخر، استطاعت الشبكات العصبونية الاصطناعية تحديد كيف يمكن للدول تنفيذ التدخلات غير الصيدلانية، مثل إغلاق المدارس وأماكن العمل، والقيود المفروضة على التجمعات وغيرها، للحد من انتشار وباء كورونا بأقل تكلفة اقتصادية. فقد تم تدريب نموذج بديل على التنبؤ بكيفية تطور عدد الحالات في المستقبل، بالنظر إلى تاريخ الحالات في بلد ما في الماضي. ثم تم تطوير الشبكات العصبونية الاصطناعية لتقييم فعالية القيود المطبقة للحد من انتشار الجائحة.
هذه العملية حققت العديد من الاكتشافات الإبداعية. فقد أدركت في وقت مبكر أن المدارس وأماكن العمل هي أهم المؤسسات التي يقضي الناس الكثير من الوقت مع أشخاص آخرين فيها، حيث من الممكن انتشار العدوى بشكل كبير، وهو ما أصبح واضحاً فيما بعد.
اقرأ أيضاً: أداة ذكاء اصطناعي جديدة تساعد بمعرفة احتمال ظهور مضاعفات خطيرة بسبب كورونا
الذكاء الاصطناعي الإبداعي يكتشف آليات التعلم في الدماغ
في أحدث دراسة في الذكاء الاصطناعي الإبداعي، عمل باحثون من معهد الفيزيولوجيا في جامعة برن ومعهد كيرشوف للفيزياء في جامعة هايدلبرغ على تطوير خوارزمية تطورية تكشف عن آليات التعلم عبر اللدونة المشبكية، في خطوة حاسمة نحو فهم كيفية عمل أدمغتنا وبناء آلات ذكية وقابلة للتكيف.
بمساعدة أدمغتنا، نتعلم أشياء جديدة يومياً، أو نخزّن ذكريات جديدة، أو نحسّن مهارة موجودة، وذلك بسبب وجود المشابك العصبية -نقاط الاتصال بين الخلايا العصبية- والتي يمكن أن تتغير بطرق مختلفة اعتماداً على كيفية استخدامها، وهذا ما يعرف باللدونة المشبكية المهمة في عمليات التعلم والذاكرة. هذا شيء غير موجود في الحواسيب الحالية، ومطلوب من أجل الذكاء الاصطناعي الإبداعي.
لذلك عمل الباحثون في هذه الدراسة على فهم عمليات الدماغ هذه بشكل أفضل، وأنشؤوا نماذج للآليات الكامنة وراءها. وأشاروا إلى النهج الذي عملوا على تطويره باسم نهج "التطور من أجل التعلم" (E2L) أو "التكيف".
واجه الباحثون الخوارزميات التطورية مع سيناريوهات التعلم التقليدية الثلاثة. في السيناريو الأول، كان على الحاسوب أن يكتشف نمطاً متكرراً في دفق مستمر من المدخلات دون تلقي ملاحظات حول أدائه. في الثاني، تلقى الحاسوب مكافآت افتراضية عند التصرف بطريقة مرغوبة. وفي الثالث الذي اعتمد "التعلم الموجه"، تم إخبار الحاسوب بدقة بمدى انحراف سلوكه عن السلوك المطلوب.
اكتشفت الخوارزميات التطورية آليات اللدونة المشبكية في السيناريوهات الثلاثة، أي أنها نجحت في حل مهمة جديدة بإبداع. على سبيل المثال، وجدت الخوارزمية نموذجاً جديداً للدونة يتم فيه دمج الإشارات التي حددها الباحثون لتكوين إشارة جديدة. ولاحظوا أن الشبكات التي تستخدم هذه الإشارة الجديدة تتعلم بشكل أسرع مما هو متعارف عليه.
وقال الباحثون إن هذا نهج واعد لاكتساب رؤى عميقة في مبادئ التعلم البيولوجي وتسريع التقدم نحو آلات التعلم الاصطناعي القوية. حيث ستوفر النتائج رؤى جديدة حول كيفية عمل العقول السليمة والمريضة. وقد تمهد الطريق أيضاً لتطوير آلات ذكية يمكنها التكيف بشكل أفضل مع احتياجات مستخدميها.