يحدث الذكاء الاصطناعي تحولاً جذرياً في طريقة تقديم المؤسسات والشركات خدماتها، حيث باتت التقنيات الحديثة مثل بوتات الدردشة المدعومة بالذكاء الاصطناعي قادرة على تقديم حلول واستجابات سريعة، مع إمكانية توسيع استخدامها على نطاق واسع، وهو ما كان يعد ضرباً من الخيال قبل عدة سنوات.
وعلى الرغم من هذا التقدم اللافت، لا يزال العملاء يعتبرون "الثقة" العامل الأهم في تقييم جودة الخدمة. الثقة لا تمنح تلقائياً، بل تبنى بين البشر، وليس بين البشر والآلات، وهنا تتجلى مفارقة عصر الذكاء الاصطناعي: كلما ازداد اعتمادنا على التكنولوجيا، تعاظمت أهمية العنصر البشري.
اقرأ أيضاً: 6 طرق يغير بها الذكاء الاصطناعي خدمة العملاء
الإنسان مقابل الذكاء الاصطناعي في خدمة العملاء: ما الذي يفضله العملاء؟
بحسب استطلاع أجرته مؤسسة إم إن فورس MNForce الأوروبية المتخصصة في جمع البيانات وأبحاث السوق، يفضل 60.9% من العملاء التواصل مع موظف بشري، بينما قال 28.2% إنهم لا يكترثون بمن يتواصلون معه، في حين يفضل 11% فقط التواصل مع بوت دردشة.
لكن هذه النسبة ليست ثابتة. على سبيل المثال، رداً على السؤال: "هل تفضل الانتظار مدة 3 أيام للحصول على رد من موظف بشري أو 3 دقائق من بوت الدردشة؟"، صوت 79.5% من المشاركين لصالح بوت الدردشة، بينما صوت 11.8% فقط لصالح الموظف البشري.
تبين هذه النتائج أن السرعة تعتبر عاملاً مهماً يسهم بشكل كبير في تقييم خدمة العملاء، لكنها ليست العامل الرئيسي، إذ يجب أن نأخذ جودة الخدمة والاستجابة بعين الاعتبار. فبوتات الدردشة يمكن أن تجعل الخدمة سريعة للغاية، لكن البشر يجعلونها موثوقة. وعندما يتلقى العملاء خدمة رائعة، نادراً ما يهتمون بسرعة الاستجابة. ويتذكرون كيف عوملوا وكيف شعروا؛ أي أن اللمسة الإنسانية هي الفارق الأبرز الذي يحدد ما إذا كانت خدمة العملاء رائعة.
اقرأ أيضاً: ما الذي يجب مراعاته قبل استخدام بوتات الدردشة لخدمة العملاء؟
مجالات خدمة العملاء التي تتطلب لمسة بشرية
هناك العديد من مجالات خدمة العملاء التي يصعب استبدال العنصر البشري فيها، حتى مع تطور الذكاء الاصطناعي. إليك أبرز هذه المجالات:
1. التعامل مع الحالات المعقدة أو الحساسة
تشمل المواقف التي لا يمكن حلها وفق سيناريوهات جاهزة أو ردود آلية. مثلاً، عميل غاضب بسبب خطأ في فاتورة أو فقدان بيانات مهمة. في هذه الحالة، يحتاج إلى موظف يفهم مشاعره ويعتذر بصدق ويبحث عن حل مخصص له. فالذكاء الاصطناعي قد يقدم معلومات، لكنه لا يستطيع أن يظهر التعاطف الحقيقي أو يقدر السياق العاطفي.
2. الدعم الفني المتقدم
عندما يواجه العميل مشكلة غير معتادة، فإن الشرح يتطلب فهماً عميقاً للمشكلة وطرح أسئلة متتابعة، وربما مشاركة الشاشة أو تنفيذ خطوات مباشرة. هذه المهام تتطلب خبرة بشرية، خاصة عندما تكون المشكلة غير موثقة سابقاً ولا تنطبق عليها الحلول الآلية.
3. بناء العلاقات والولاء
في قطاعات مثل الضيافة والبنوك والخدمات الصحية، يعد التواصل البشري عاملاً حاسماً في بناء الثقة والولاء. مثلاً، موظف خدمة عملاء يتذكر اسم العميل أو يهنئه بمناسبة شخصية أو يقدم له عرضاً خاصاً بناءً على تاريخه مع الشركة. هذه اللمسات الشخصية تعزز الولاء، وهو ما لا تستطيع البوتات الآلية محاكاتها.
4. التفاوض أو تقديم عروض مخصصة
في حالات البيع أو تجديد العقود، قد يحتاج العميل إلى مناقشة تفاصيل العرض وطلب خصومات والتفاوض على شروط الدفع. الموظف البشري يستطيع تقييم الموقف وفهم احتياجات العميل والتفاعل معه بمرونة. فالذكاء الاصطناعي قد يقدم عروضاً جاهزة، لكنه لا يستطيع التفاوض أو اتخاذ قرارات خارج النطاق المبرمج عليه.
5. التعامل مع الفئات غير المتمكنة رقمياً
كبار السن أو الأشخاص الذين يعانون صعوبات في القراءة أو استخدام التكنولوجيا يحتاجون إلى التحدث مع موظف بشري بشكل مباشر. مثلاً، عميل يريد فتح حساب بنكي لكنه لا يعرف كيف يستخدم التطبيق أو يملأ النموذج الإلكتروني. هنا، الموظف البشري يرشده خطوة بخطوة ويبسط الإجراءات له.
اقرأ أيضاً: 6 طرق حسّنت فيها بوتات المحادثة تجربة العملاء
تحقيق التوازن بين خدمة العملاء البشرية والآلية
لتحقيق التوازن بين خدمة العملاء البشرية والآلية، تحتاج الشركات إلى استراتيجية واضحة تدمج بين الكفاءة التقنية والتعاطف البشري. إليك أبرز النصائح لتحقيق هذا التوازن:
- تحديد المهام المناسبة لكل طرف: يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي في المهام الروتينية مثل جدولة المواعيد أو الرد على الأسئلة الشائعة، بينما تترك الحالات المعقدة أو العاطفية للبشر.
- استخدام الذكاء الاصطناعي كخط الدعم الأول: يجب أن تتعامل بوتات الدردشة مع كل الطلبات الأولية وتقيم ما إذا كانت قادرة على الاستجابة لها بشكل مستقل أو تصعيد الطلب إلى موظف بشري.
- التصعيد الذكي إلى الموظفين البشر: عندما يرصد بوت الدردشة حالة معقدة لم يتعامل معها سابقاً أو لم يتدرب عليها، يجب أن ينقل العميل إلى موظف بشري مع نقل كامل للمعطيات والبيانات المتعلقة بالطلب، لتجنب تكرار الأسئلة وضمان استمرارية الحوار.
- التعاون بين الموظف البشري والذكاء الاصطناعي: يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعد الموظف في أثناء استجابته في الرد على طلبات العملاء في الوقت الفعلي، حيث يتولى تنفيذ مهام مثل البحث عن حل أو تحليل بيانات الطلب بينما يركز الموظف على التواصل مع العميل وتقديم دعم له.
- التحسين المستمر لخدمة العملاء: يجب استخدام بيانات الطلبات السابقة والتفاعلات مع العملاء لتحسين جودة بوتات الدردشة وأداء الموظفين البشر.
اقرأ أيضاً: كيف تحدث بوتات الدردشة الذكية تحولاً في القطاع المصرفي؟
هل نحتاج إلى قوانين لتنظيم هذا التوازن؟
في ظل التوسع السريع في استخدام بوتات الدردشة والذكاء الاصطناعي بخدمة العملاء، بدأت تظهر دعوات تنظيمية تطالب بالحفاظ على اللمسة البشرية كجزء أساسي من تجربة الدعم. وفقاً لتقرير حديث من شركة غارتنر، من المتوقع أن يقر الاتحاد الأوروبي عام 2028 تشريعاً يمنح العملاء ما يعرف باسم "الحق في التحدث إلى موظف"، في خطوة تهدف إلى حماية المستهلكين من الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي. هذا التوجه يسلط الضوء على أهمية التوازن بين التكنولوجيا والبشر، ويؤكد أن الحفاظ على اللمسة البشرية ليس خياراً، بل ضرورة لضمان الثقة والاستجابة في الحالات التي يفشل فيها الذكاء الاصطناعي.