كيف ومتى سينتهي الحجر الصحي وتعود الحياة إلى طبيعتها؟
عندما طرح د. سلمان الصُّباح، رئيس قسم الجراحة في مشفى جابر بالكويت، هذا السؤال على مسامع أحمد نبيل، كان كفيلاً بإشعال جذوة الابتكار لديه. وبعد ساعات كان أحمد قد شرع في العمل على ابتكار جديد اسمه "الجواز الصحي" من شأنه أن يسرّع عودة الحياة إلى طبيعتها و"يوفر علاجاً تكنولوجياً لوباء كوفيد-19" على حدّ وصفه.
كان أحمد نبيل، الطبيب والباحث في إمبريال كولدج لندن، قد حاز على جائزة مبتكرون دون 35 العالمية من إم آي تي تكنولوجي ريفيو التي تنظم بالشراكة مع مؤسسة دبي للمستقبل عن اختراعه لتقنية كلينز في عام 2019، كما سبق له أن طور عدة تطبيقات حققت شهرة واسعة في الكويت. لكنه يقول إن الابتكار الجديد الذي أطلقه لمواجهة كوفيد-19 كان أضخم المشاريع وأكثرها تطوراً، والتي أنجزها خلال مدة زمنية قصيرة جداً.
الحاجة أمّ الابتكار
اضطر صنّاع القرار حول العالم إلى فرض إجراءات صارمة للعزل والحجر الصحي وتقييد الحركة لمواجهة وباء كوفيد-19، مما أدى إلى تأثيرات واسعة النطاق على مستوى الأفراد والأنظمة الصحية والقطاعات الاقتصادية. وفي ظل عدم توافر علاج في المدى المنظور، انبثقت حاجة كبرى إلى وسائل فعالة تمكن من إعادة إطلاق الاقتصاد وتتيح عودة الأشخاص إلى العمل من دون تعريض حياتهم للخطر وتحول دون خروج الوباء عن السيطرة أو اندلاع موجة جديدة من العدوى.
واستجابة لهذه الحاجة، قام الدكتور نبيل -بالتعاون مع وزارة الصحة الكويتية- بجمع فريق من 40 عالماً وخبيراً من اختصاصات متعددة (مثل علم البيانات وعلم الأوبئة وتصميم النماذج والتعلم الآلي والمحاكاة وتمثيل وأمن البيانات والخصوصية وغيرها) يعملون في عدة دول منها الكويت والمملكة المتحدة وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة وغيرها. وقاد الفريق لتطوير منصة "الجواز الصحي".
ما هي منصة "الجواز الصحي"؟
منصة قائمة على الذكاء الاصطناعي وتستند إلى آخر الأبحاث العلمية حول فيروس كورونا وأحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة.
وتستخدم المنصة تقنيات الشبكات العصبونية والشبكات التوليدية التنافسية في بناء نظام مرمّز بالألوان لتقييم درجة خطورة إصابة كل شخص بناء على بيانات وزارة الصحة الكويتية حول الإصابات المؤكدة بالإضافة إلى تاريخ ونمط تنقلات الشخص، واحتكاكه بالآخرين ومدة الاحتكاك، والأعراض التي يصرّح عنها، عبر التطبيق المرتبط بالمنصة وغيرها من العوامل. فاللون الأحمر يعني أن درجة خطورة الإصابة مرتفعة وقد يكون المستخدم قد التقط العدوى بالفعل، واللون الأصفر يشير إلى درجة خطورة متوسطة قد تتطلب حجراً صحياً ذاتياً، أما اللون الأخضر فهو يعني أن خطورة التقاط المستخدم للعدوى منخفضة.
ومن الجدير بالذكر أن خوارزمية الذكاء الاصطناعي تستمر في تحديث درجة الخطورة بناء على أي معطيات جديدة؛ فعلى سبيل المثال، إذا كانت حالة المستخدم باللون الأصفر ثم أجرى اختبار الإصابة وتبين أنه غير مصاب، سيتم عندها تلقائياً تحديث حالته إلى اللون الأخضر. أو إذا كانت حالته باللون الأخضر ثم التقى بشخص إصابته مؤكدة لدى وزارة الصحة، عندها سيتم تعديل حالته إلى اللون الأصفر أو الأحمر بناء على العوامل المذكورة آنفاً.
ولا يقتصر نظام تعيين مستوى الخطورة على الأشخاص وإنما يشمل المناطق أيضاً؛ حيث يتم تقسيم الكويت إلى مربعات كل منها بمساحة 1 كيلومتر مربع. ويتم تعيين درجة خطورة كل مربع بناء على عدد حالات الإصابة المؤكدة بكوفيد-19 ونسبة التنقل والكثافة السكانية في المربع.
ما أهم مميزات المنصة الجديدة؟
توفر هذه المنصة للمسؤولين تمثيلاً مرئياً لهذه البيانات في الزمن الحقيقي على هيئة منحنيات بيانية توضح تغير أعداد الإصابات الكلي أو في منطقة معينة، ومستوى الطاقة الاستيعابية للمستشفيات على سبيل المثال. وتعرض أيضاً خرائط حرارية لتوزع مستوى الخطورة في منطقة بعينها أو عبر البلاد، بالاستناد إلى بيانات الموقع الجغرافي لهواتف المستخدمين. مما يمكّن السلطات من اتخاذ إجراءات تستهدف بؤر تفشي الوباء، مثل عزل الحالات المؤكدة أو تكثيف إجراء الاختبارات.
والأهم من ذلك، تقوم المنصة بإجراء عشرات الآلاف من عمليات المحاكاة يومياً بشكل تلقائي باستخدام أحدث البيانات المتوافرة من وزارة الصحة وبيانات المستخدمين لتقديم تنبؤات عالية الدقة حول تطور الوباء وتوزع الحالات، مما يتيح لصناع السياسات إجراء تدخلات مستندة إلى الوضع الحقيقي للحد من انتشار الوباء. ووفقاً للدكتور نبيل، فقد تم اختبار هذه الميزة باستخدام بيانات بداية شهر أبريل لمحاكاة انتشار الوباء بحلول منتصف الشهر، وجاءت النتائج ذات دلالة إحصائية عالية ودقة قريبة للغاية من الانتشار الفعلي للمرض.
ومن خلال التطبيق المرتبط بالمنصة، يجري تتبع الاحتكاك بين الأشخاص عن طريق تقنية البلوتوث وبيانات الموقع الجغرافي، ليتم استخدام هذه المعطيات كأحد مدخلات خوارزمية تقييم درجة الخطورة، وبذلك يتم، على سبيل المثال، تعديل درجة خطورة أحد المستخدمين من الأخضر إلى الأصفر إذا ما التقى بشخص مصاب. كما يفيد تتبع الاحتكاك في مراقبة مدى امتثال المستخدمين لإجراءات الحجر الصحي، ويساعد في إجراء الاختبارات بطريقة تستهدف أولئك الذين احتكوا بالمصابين وفقاً لبيانات وزارة الصحة، والذين يحتمل التقاطهم للعدوى.
ويقول الدكتور نبيل -الذي طوّر واجهات المستخدم بنفسه- إن التطبيق مصمم بعناية وبالاعتماد على تقنيات علم النفس السلوكي؛ حيث يتسم بالوضوح عبر نظام الترميز الملون ويحتوي على نصائح صحية سهلة الفهم ومدروسة، تحض المستخدم على اتباعها إلى أن تتغير درجة خطورة إصابته إلى اللون الأخضر وبالتالي تسريع العودة إلى الحياة الطبيعية.
كما يحتوي التطبيق على كود QR يتيح لسلطات فرض القانون التحقق من حالة المستخدم، مما يشكل وسيلة هامة بيد السلطات لتصريح حركة الأشخاص السليمين، وبالتالي -على نطاق أوسع- تسريع العودة إلى أماكن العمل وإعادة دوران عجلة الاقتصاد.
أهم فوائد منصة "الجواز الصحي"
بحسب الدكتور نبيل، يمكن القول إن ابتكار الجواز الصحي يحقق العديد من الفوائد على مستويين:
- على مستوى الحكومات:
توفر المنصة أداة قيّمة بين أيدي صناع السياسات تعتمد على أحدث نماذج علم الأوبئة وعلى بيانات واقعية في الزمن الحقيقي، مما يمكنهم من إدارة الوباء والتنبؤ بمسار تطوره والاستجابة الاستباقية لتأثيراته المحتملة في ضوء الطاقة الاستيعابية للنظام الصحي. بالإضافة إلى مراقبة تأثير إجراءات الوقاية والعزل ومدى امتثال الأفراد لها، كما تتيح هذه المنصة استشراف تأثير سيناريوهات مختلفة لتخفيف هذه الإجراءات على مستوى المناطق والبلاد بأكملها، قبل تطبيقها بشكل فعلي، واستناداً إلى بيانات في الزمن الحقيقي. علاوة على ذلك، تتيح المنصة للسلطات تطبيق إجراءات استهدافية لاختبار أو حجر أو التحقق من حالة أشخاص بعينهم أو تقييد التنقل ضمن منطقة معينة. وهذا من شأنه أن يساهم في تسريع العودة إلى العمل وتجنب اندلاع موجة تفشٍّ جديدة للوباء.
على سبيل المثال، يمكن للسلطات في إمارة دبي أن تفرض حظراً على أحياء معينة داخل المدينة بينما تتابع الأحياء الأخرى نشاطها بشكل طبيعي، أو يمكن تقييد حركة فئة عمرية معينة مثل كبار السن في حال تواجدهم ضمن بؤرة تفشي للوباء.
- على مستوى الأفراد:
يتيح التطبيق للمستخدم الاطلاع على حالته الصحية ومستوى الخطورة الحالية لالتقاط عدوى كوفيد-19، ويوفر تحديثاً مستمراً لهذا المستوى ونصائح صحية حول كيفية تخفيضه بناء على بيانات وزارة الصحة في الزمن الحقيقي. كما يمكّن المستخدمين من الاطلاع على درجة خطورة منطقة أو مركز تجاري عبر "خريطة الجوار" قبل الذهاب إليه فيساعدهم في تجنب التقاط العدوى.
على سبيل المثال، لو اضطر شخص ما ذو حالة خضراء اللون للخروج إلى المتجر فإنه يستطيع باستخدام التطبيق أن يعرف ما إذا كان قد خالط شخصاً مصاباً من خلال تغيير حالته إلى اللون الأصفر، كما ستصله رسالة بشكل تلقائي تنبهه إلى الأمر. وإثر ذلك سيقدم التطبيق توصية بالتزام الحجر المنزلي لفترة أسبوعين، يتم خلالها متابعة حالته وتطور الأعراض من قِبل السلطات الصحية، مما يساهم في الحد من انتقال العدوى وتسطيح منحنى الإصابات.
كيف تتعامل منصة "الجواز الصحي" مع مسألة خصوصية وسرية البيانات؟
لا شك أن نجاح منصة من هذا النوع يتوقف إلى حد كبير على مدى ثقة المستخدمين في قدرتها على حماية خصوصيتهم وبياناتهم بما يشجعهم على استخدام التطبيق واتباع الإرشادات التي يقدمها؛ إذ كلما كان عدد المستخدمين أكبر، ازدادت فعالية المنصة وارتفعت دقة خوارزمياتها.
وقد كانت هذه المسألة أحد أهم النقاط التي حرص الدكتور نبيل على التعامل معها؛ حيث أكد أن المنصة لن تستخدم إلا البيانات اللازمة لتحسين عملها. وقام باتباع مجموعة من الخطوات لضمان خصوصية المستخدمين وحماية بياناتهم منها:
- جمع بيانات الموقع الجغرافي فقط في حالة حدوث احتكاك وليس طوال الوقت.
- تقييد إمكانية مستخدمي التطبيق من تكبير خريطة الجوار بحيث لا يتم تحديد المكان الدقيق.
- تشفير كامل للبيانات أثناء نقلها وتخزينها.
- أتمتة معظم عمليات المنصة بحيث يكون عدد الأشخاص الذين يطلعون على البيانات محدوداً وخاضعاً للتدقيق.
- إغفال هوية الأشخاص، كما يتم تخزين البيانات بطريقة لا تسمح بالتعرف على هوية صاحبها باستخدام الهندسة العكسية.
وعند سؤال الدكتور نبيل عن احتمال شعور الأشخاص بتقييد حريتهم عند استخدام التطبيق، أوضح أن حرية الشخص مقيدة بالفعل نتيجة إجراءات العزل وحظر التجول المفروضة حالياً، بينما سيوفر التطبيق إمكانية الحصول على "جواز" صحي بحريّة التنقل والحركة في حال كانت حالة المستخدم خضراء اللون. وحتى لو كانت حمراء أو صفراء، فهي فترة عزل مؤقتة، وسيتم تحديثها بمجرد انخفاض درجة الخطر أو تأكيد عدم الإصابة عبر الاختبار.
منصة "الجواز الصحي" قابلة للتوسع وخفيفة الأثر الكربوني
تتسم المنصة الجديدة بقدرتها على استيعاب كميات هائلة من البيانات لعدد ضخم من المستخدمين. فقد تم تصميم بنيتها التحتية بشكل شبيه لمنصة نتفليكس؛ أي إنها -وفقاً للدكتور نبيل- تستخدم تكنولوجيا سحابية (AWS) قابلة للتوسع، مما يتيح إمكانية استخدامها في أي بلد بغض النظر عن عدد السكان. كما يساهم ذلك في ملاءمة استخدام قدرات المعالجة وتخزين البيانات حسب الحاجة بما يساهم في تخفيض البصمة الكربونية.
ويرى الدكتور نبيل إنه حتى بعد انتهاء الوباء يمكن إعادة تكييف خوارزميات المنصة لاستخدامها كسلاح فعال في مواجهة أي أوبئة أو أمراض قد تتفشى في المستقبل. ويضرب مثالاً على ذلك من خلال التساؤل عن الدور الكبير الذي كان يمكن أن تلعبه منصة كهذه في القضاء على فيروس كورونا منذ بداية انتشاره في الصين لو كانت قائمة في حينه.
يأمل الدكتور نبيل أن تحمل منصة "الجواز الصحي" فوائد كبيرة خلال أزمة وباء كوفيد-19. ويشير إلى إمكاناتها الواعدة في التخفيف من إجراءات الحظر الشامل والاعتماد بدلاً عن ذلك على إجراءات استهدافية لمناطق أو لأفراد معينين، وذلك بالاعتماد على قوة الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي المستمر في تحليل البيانات الضخمة في الزمن الحقيقي، وتحويلها إلى شكل مرئي لمساعدة صناع القرار في رسم الإستراتيجيات المثلى للقضاء على الوباء، ومساعدة الأفراد في تجنب التعرض لخطر الإصابة والحفاظ على حالة خضراء اللون، وبالتالي تعزيز مساهمتهم في جهود الحفاظ على الصحة العامة وتسريع عودتهم إلى العمل والحياة الطبيعية.