نُشرت هذه المقالة من قبل على Undark. يمكنك قراءة المقال الأصلي هنا.
إذا كان كتاب الطبيعة مكتوباً بلغة الرياضيات، كما قال جاليليو فيما مضى، فإن وباء كوفيد-19 أكد على هذه المسألة بالنسبة لرياضيي العالم، الذين يعملون بشكل محموم مع تزايد سرعة انتشار الفيروس.
ففي هذه السنة، شارك الرياضيون في كل شيء يتعلق بالوباء، بدءاً من كشف مدى قدرة الفيروس على الانتشار، وتحديد المسافة الآمنة للتباعد الاجتماعي، والزمن الذي قد يستغرقه الشخص المصاب حتى يشفى، وصولاً إلى كيفية انتشار سلالة واحدة من أوروبا إلى نيويورك واختراقها لكافة الولايات المتحدة، وكيف يمكن تسطيح منحنى الإصابات لإنقاذ مئات الآلاف من الأرواح. كما ساعدت النمذجة على إقناع مراكز السيطرة على الأوبئة والوقاية منها بأن الفيروس يمكن أن ينتقل في الهواء، كما يمكن أن ينتقل بواسطة الرذاذات التي تبقى معلقة في الهواء لعدة ساعات.
وفي الوقت الحالي، بدأ الكثيرون يدرسون مسألة بحثية طارئة -وشائكة أيضاً- على وجه الخصوص، وهي: نمذجة الأسلوب الأمثل لإعطاء اللقاح. ونظراً لمحدودية كميات اللقاح في البداية، فإن القرارات المتعلقة بهويات من سيحصلون عليه أولاً قد تنقذ عشرات الآلاف من الأرواح. لقد أصبحت هذه المسألة حساسة للغاية، خصوصاً مع ظهور نتائج مبكرة واعدة حول لقاحين محتملين يمكن أن يتمتعا بفعالية عالية؛ واحد من شركتي فايزر وبيو إن تك، وآخر من شركة مودرنا، ما قد يدفع بالشركات إلى تقديم طلب الترخيص الطارئ من إدارة الغذاء والدواء الأميركية.
ولكن تحديد كيفية توزيع اللقاحات -التي بلغ عددها حوالي 50 في التجارب السريرية- على المجموعات الصحيحة في الوقت الصحيح يمثل "معضلة معقدة للغاية"، كما تقول إيفا لي، وهي مديرة مركز أبحاث العمليات في الطب والرعاية الصحية في معهد جورجيا للتكنولوجيا. قامت "لي" بنمذجة إستراتيجيات التوزيع للقاحات والتجهيزات الطبية لمكافحة أوبئة زيكا وإيبولا والأنفلونزا، وتعمل حالياً على كوفيد-19. وتقول: "إن فيروس كورونا أكثر قدرة على الانتقال وأكثر قدرة على قتل المرضى بكثير مقارنة بالأنفلونزا". وتضيف: "لم يسبق لنا أن شهدنا تحدياً مشابهاً لهذا الفيروس".
أيضاً، يقول هاورد فورمان، وهو بروفسور مختص بالصحة العامة في جامعة يال، إن آخر مرة قمنا فيها "بإجراء عمليات تلقيح واسعة النطاق باستخدام لقاحات جديدة" كانت لمواجهة مرضى الجدري وشلل الأطفال. ويضيف: "لقد دخلنا في وضع جديد وغير مألوف"؛ حيث إن جميع اللقاحات الأخرى في العقود المنصرمة كانت قيد الاختبار لسنوات أو طُرحت بشكل بطيء للغاية.
ولكن نظراً لكون كوفيد-19 مميتاً على وجه الخصوص لمن تجاوزت أعمارهم 65 ومن يعانون من مشاكل صحية أخرى، مثل السمنة المفرطة والسكري والربو، وفي نفس الوقت سريع الانتشار على نطاق واسع من قبل الراشدين الشباب الأكثر قدرة على الشفاء، فقد أصبح الرياضيون الآن في مواجهة أولويتين متضاربتين عند نمذجة كيفية توزيع اللقاحات: هل يتعين التركيز على منع الوفيات أم على إبطاء انتشار العدوى؟
يُجمع أغلب المنمذجين على أنه يجب على المسؤولين إعطاء الأولوية لكبار السن إذا كان الهدف الرئيسي تخفيض معدلات الوفيات، أما إذا كان الهدف إبطاء انتشار الفيروس، فيجب أن يركزوا على تلقيح الراشدين الشباب.
يقول مارك ليبسيتش، وهو مختص بالأوبئة من هارفارد: "مهما حاولت، ستحصل على نفس الإجابة". ويضيف أن من الأفضل تلقيح كبار السن أولاً لمنع الوفيات، ومن ثم الانتقال إلى مجموعات أصغر سناً وأكثر صحة، أو إلى العامة. قامت إحدى الدراسات بنمذجة كيفية انتشار كوفيد-19 في ستة بلدان: الولايات المتحدة، والهند، وإسبانيا، وزيمبابوي، والبرازيل، وبلجيكا، واستنتجت أنه إذا كان الهدف الرئيسي تخفيض معدلات الوفيات، فيجب إعطاء أولوية التلقيح المباشر للبالغين فوق سن الستين. ما زالت هذه الدراسة في مرحلة ما قبل النشر، ما يعني أنها لم تتجاوز مرحلة التحكيم العلمي، وتتضمن في مجموعة مؤلفيها ليبسيتش، ودانييل لاريمور وكيت بوبار من جامعة كولورادو بولدر. بطبيعة الحال، فإن تأثير كوفيد-19 الكبير على الأقليات، خصوصاً التجمعات السكانية من أفارقة الأصل واللاتينيين، يضيف اعتبارات أخرى إلى دراسة أولويات التلقيح.
يوافق معظم المنمذجين على أن "كل شيء يتغير مع فيروس كورونا بسرعة الضوء"، كما تقول أخصائية الرياضيات التطبيقية لورا ماتراجت، وهي باحثة مساعدة في مركز فريد هاتشنسون لأبحاث السرطان، في رسالة بالبريد الإلكتروني. تشمل هذه التغيرات السريعة معلوماتنا عن كيفية انتشار الفيروس، وكيفية مهاجمته للجسم، وكيف تزيد خطورة الإصابة بوجود أمراض أخرى في الجسم في نفس الوقت، والعوامل المؤدية إلى حالات الانتشار الفائق.
وحتى الآن، كشف البحث عن بعض النتائج المفاجئة. وعلى سبيل المثال، يحظى الأطفال بالأولوية لدى التلقيح ضد الأنفلونزا، ولكن الخبراء يقولون إن هذه الشريحة يجب أن تحظى بأولوية أقل بالنسبة للقاحات كوفيد-19 في الولايات المتحدة؛ لأن البالغين من الشباب يمثلون حتى الآن العامل المحرك الأساسي لانتشار الفيروس. من الجدير بالذكر أن هذا لا ينطبق على كافة بلدان العالم، وعلى سبيل المثال، يبين بحث جديد أنه في الهند -حيث تعيش عدة أجيال سوياً في أغلب الأحيان في مساحة صغيرة- كان معظم انتشار الفيروس في الولايتين اللتين شملتهما الدراسة يُعزى إلى الأطفال والبالغين من الشباب.
إضافة إلى ذلك، تشير عدة نماذج إلى أنه يمكن تحقيق الكثير في مواجهة الوباء حتى مع استخدام منخفض للقاح محدود الفعالية. وتؤكد عدة نماذج أخرى على أهمية الإصابات المحلية ومعدلات الانتشار. وفقاً للباحثة لي، التي قدمت تقديرات مبكرة مذهلة الدقة لأصل الوباء وشدة انتشاره ومساره العالمي المحتمل، يمكن لمدينة نيويورك أن تحتوي الفيروس إذا تم تلقيح حوالي 40% من السكان؛ لأن الانتقال المحلي للفيروس منخفض بشكل واضح، ويبلغ قيمة أقل من 3% حتى نوفمبر 16، كما أن الفيروس أصاب نسبة تقدر بنحو 20%.
يقول لاريمور: "كلما زادت نسبة السكان الذين تحتوي أجسادهم على الأجسام المضادة، كلما كان الوضع أفضل"، حيث يمكنك أن تمنح أولوية التلقيح لمن لا يمتلكون الأجسام المضادة.
تقول "لي" إن جميع هذه النتائج هامة "لأننا في المحصلة لن نصنع من اللقاح ما يكفي لجميع السكان"، ناهيك عن وجود العديد من الأميركيين ممن سيرفضون أخذه. وفي الواقع، فإن منظمة الصحة العالمية توقعت مؤخراً أن الراشدين الشباب من ذوي الصحة الجيدة قد لا يتمكنون من الحصول على اللقاح حتى 2022، وذلك بعد تلقيح كبار السن، وعاملي الرعاية الصحية، وغيرهم من المجموعات المعرضة للخطر.
ولنمذجة عملية التلقيح، يجب أن يقوم الرياضيون بصياغة معادلات تعكس حركة وامتداد الحياة البشرية وتعقيد تفاعلاتها، وذلك عن طريق بيانات عديدة، مثل السكن والحالة الاقتصادية والاجتماعية، والعادات اليومية، والعمر، والمخاطر الصحية. ولكن يجب أولاً تحديد قدرة العدوى على الانتشار، أو معدل التكاثر، أو ما يشار إليه بمعدل التكاثر الأساسي "R-naught"، الذي يمثل عدد الأشخاص الذين يُتوقع أن تنتقل إليهم العدوى من شخص واحد مصاب.
وعندما يكتسب مجموعة ما من الناس المناعة (اعتماداً على عامل التكاثر الأساسي)، سواء بالشفاء من المرض أو عبر التلقيح، تتحقق مناعة القطيع. يعني هذا أن الوباء لن يعود إلى الانتشار على مستوى العالم مرة أخرى، على الرغم من انتشاره في بعض الأمكنة على مستوى صغير. ووفقاً لمعدل التكاثر الأساسي لفيروس سارس-كوف-2، الذي يتسبب في مرض كوفيد-19، يتعين اكتساب المناعة من قبل 65-70% من سكان العالم قبل الوصول إلى مناعة القطيع، وذلك وفقاً لتقديرات منظمة الصحة العالمية.
تتطلب نمذجة التلقيح عمليات معقدة، وفي حين أن بناء نماذج تسطح منحنى الإصابات -التي أذهلت العامة في الربيع الفائت- احتاج إلى عدة أسابيع، فإن نماذج التلقيح استغرقت العديد من الأشهر. ثمة تحديات عملية ضخمة يواجهها المنمذجون. أولاً، تحتاج الكثير من اللقاحات التي يتم تطويرها حالياً -بما فيها اللقاحان المرشحان من كل من فايزر وبيو إن تك، ومن مودرنا، إلى حقنتين يفصل بينهما عدة أسابيع، ما يحتاج إلى التسجيل والمتابعة لضمان حصول الناس على الجرعة الثانية الضرورية. وكما لحظت نيويورك تايمز في سبتمبر الماضي، فإن "الشركات قد تضطر إلى نقل قوارير زجاجية صغيرة لمسافة آلاف الكيلومترات مع الحفاظ عليها في جو بارد برودة القطب الجنوبي في ذروة الشتاء". أيضاً، هناك مسألة فعالية اللقاح؛ فهل سيؤمن هذا اللقاح أو ذاك مناعة قوية، ولجميع الشرائح؟ أم أنه سيؤدي بشكل أساسي إلى تقليص فترة الإصابة والتخفيف من الأعراض، وهو ما يحمل أيضاً قيمة كبيرة بالنسبة لتقليل الوفيات والحد من الانتشار؟ وماذا لو كان اللقاح أقل فعالية لدى كبار السن كما هي الحال بالنسبة لأغلب اللقاحات؟ حالياً، فإن اللقاحات التي تعتمد على الرنا المرسال (بما فيها لقاحات مودرنا وفايزر وبيو إن تك) "تحقق نتائج جيدة بالنسبة لكبار السن"، وفقاً لكاثلين نيوزيل، مديرة مركز تطوير اللقاحات والصحة العالمية في مدرسة الطب بجامعة ماريلاند. ويبين التحليل الأولي لكلا اللقاحين المحتملين أنهما يحققان فعالية قد تفوق 90%. أخيراً، هناك سؤال محير حول فترة استمرار المناعة بعد الإصابة. فبالنسبة لبعض الفيروسات، مثل فيروس فارسيلا-زوستر الذي يُسبب الجدري، فإن المناعة قد تدوم لعدة عقود. وبالنسبة لفيروسات أخرى، مثل عائلة الفيروسات التاجية التي تتضمن سارس-كوف-2 وفيروس الرشح الشائع، فإن الفيروس يتمتع بوتيرة تحول عالية قد تحمي السلالات الجديدة من الأجسام المضادة. إن هذا الارتياب يزيد من صعوبة التوصل إلى نموذج دقيق، ولهذا يفترض العديد من المنمذجين -في الوقت الحالي على الأقل- أن من تعافوا من الإصابة يتمتعون بالمناعة. تتذكر ماتراجت -من مركز فريد هاتشنسون لأبحاث السرطان في سياتل- بوضوح مدى صعوبة البدء ببناء النموذج من دون أي أسس مسبقة عندما بدأت تعمل مع زملائها في أبريل الماضي على نموذج التلقيح. وتستذكر أنه كان هناك "عدد كبير للغاية من العوامل غير المؤكدة". قام الباحثون معاً بتطوير خوارزميات مبنية على مجموعة ضخمة وصلت إلى 440 من التراكيب المختلفة من المعاملات، مثل وتيرة الانتقال والمناعة والمجموعات العمرية ومعدل الوفيات. استغرقت حواسيب الباحثين ما يقارب 9,000 ساعة في حساب المعادلات، ويبين النموذج الذي دخل في مرحلة ما قبل النشر في أغسطس أنه يجب تفضيل كبار السن عند وجود كميات قليلة من اللقاح في البداية إذا كان الهدف تقليل الوفيات. ولكن بالنسبة للقاحات التي تبلغ فعاليتها على الأقل 60%، فإن الانتقال إلى التركيز على الأطفال والأفراد الذين يتمتعون بصحة جيدة من 20 إلى 50 سنة سيؤدي إلى تقليل الوفيات، بشرط وجود ما يكفي من اللقاح لنصف السكان على الأقل. أيضاً، يستطيع النموذج توقع عدد الوفيات التي يمكن تفاديها مع كميات مختلفة من اللقاح. وعلى سبيل المثال، إذا تعرض 20% من السكان للإصابة واكتسبوا مناعة نتيجة لذلك، يمكن تخفيف عدد الوفيات إلى النصف بتلقيح 35% فقط من باقي السكان، شريطة أن تبلغ فعالية اللقاح 50% على الأقل. وفي النموذج الذي قامت ماتراجت ببنائه مع زملائها، يمكن تحقيق مناعة القطيع عند تحقيق المناعة لدى 60% من السكان. وتقول ماتراجت مُعلِّقة على اختلاف هذه النتيجة عن تقديرات منظمة الصحة العالمية، البالغة 65%: "من الطبيعي تماماً أن تعطي النماذج المختلفة نتائج مختلفة". غير أن النموذج يقوم "بعمل جيد للغاية من حيث دراسة عدد كبير من الحالات المحتملة" وفقاً لمايكل سبرينجبورن، وهو اقتصادي مختص بالبيئة والموارد في جامعة كاليفورنيا ديفس، وقد أنهى العمل على نموذجه الخاص مع زميله في نفس الجامعة جاك بوكنر، وجيراردو تشاويل، وهو مختص في رياضيات الأوبئة في جامعة جورجيا الحكومية. تشير دراستهم، التي دخلت أيضاً في مرحلة ما قبل النشر، إلى أهمية توجيه إعطاء اللقاحات في تقليل الوفيات. ويشير نموذجهم إلى أن مجرد إعطاء لقاح فعال بصورة جزئية إلى نسبة من السكان "يمكن أن يؤثر إلى حد كبير في التقليل من الإصابات والوفيات"، كما يقول سبرينجبورن.
أما نموذج "لي"، الذي بنته باستخدام برنامج طورته في 2003 -بالتعاون مع مراكز السيطرة على الأوبئة والوقاية منها- لتوزيع الإمدادات في الكوارث الطبيعية والأوبئة، فيقوم بتحليل كيفية احتواء الوباء ضمن مناطق متباينة من حيث معدلات الإصابة مع كميات أولية قليلة من اللقاح؛ ففي مدينة نيويورك، التي ضربها الوباء بعنف في الربيع، توقع نموذجها أن احتواء الوباء قد يتطلب من حوالي 60% من السكان اكتساب المناعة. وعلى افتراض إصابة 20% من السكان، يجب تلقيح حوالي 40% من غير المصابين. وفي سان دييجو، حيث كانت معدلات الإصابة أقل، يشير نموذج "لي" إلى أن 65% من السكان يتعين عليهم اكتساب المناعة، سواء عن طريق الإصابة أو التلقيح. أما في هيوستن، فقد يصل هذا الرقم إلى 73%؛ لأن الوباء حافظ على انتشاره بشكل يوصف بأنه "احتراق بطيء"، إضافة إلى وجود شريحة مهمشة كبيرة من الأميركيين من أصل أفريقي ولاتيني، والمعرضين للإصابة أكثر من الشرائح الأخرى.
غير أن "لي" تحذر من أن هذه النتائج لا تعني إمكانية حضور مباراة لكرة القدم في هيوستن أو عرض مسرحي في برودواي في نيويورك على الفور، ولكنها تعني أنه يمكن احتواء الفيروس ضمن النسب التي قدمها نموذجها عن طريق إجراءات احترازية مستمرة حتى وصول المزيد من اللقاحات.
على الرغم من تباين النتائج، فإن معظم النماذج تتفق على الأهمية الخاصة لبعض العوامل، وبالتحديد الشريحة العمرية، التي تؤثر على احتمال التقاط الفيروس ونشره والوفاة بسببه. ولكن ليس من الممكن توقع ما سيحدث على الدوام، وعلى سبيل المثال، فإن مرض أنفلونزا الخنازير أثر على كبار السن بدرجة أقل إلى حد ما من سارس-كوف-2 الذي أثر بشدة على من تجاوزوا 65 سنة. يمثل كبار السن ممن تجاوزوا 65 سنة نسبة 16% من تعداد السكان في الولايات المتحدة، ولكنهم يمثلون أيضاً حوالي 80% من وفيات كوفيد-19.
إضافة إلى ذلك، فإن العمر يؤثر مباشرة على أنماط الانتقال. في 2009، نشر أخصائيا الأوبئة أليسون جالفاني وجان ميدلوك من جامعة يال نموذجاً رياضياً في مجلة ساينس، وبينوا أن التركيز على الأطفال والراشدين الشباب في التلقيح ضد الأنفلونزا (إضافة إلى كبار السن) كان يمكن أن يقلل إصابات أنفلونزا الخنازير من 59 مليون إلى 44 مليون، وبالنسبة للأنفلونزا الموسمية، يمكن أن تتراجع الإصابات من 83 مليون إلى 44 مليون. وقد تبين أن الأطفال ينقلون الأنفلونزا بنسبة كبيرة مقارنة بالشرائح الأخرى، وبالتالي فإن حمايتهم ستُسهم في حماية المجتمع إلى حد كبير.
وقد أوحت هذه الدراسة ومثيلاتها بإجراء عدة تغييرات في سياسة مراكز السيطرة على الأوبئة والوقاية منها لإعطاء الأولوية للأطفال في التلقيح. يقول لاريمور: "لقد كانت هذه ثورة في طريقة تفكيرنا باللقاحات". بدأت نماذج التلقيح الآن، وبشكل روتيني، بدراسة احتمالات الحماية غير المباشرة للشرائح الأكثر عرضة للإصابة بتلقيح الشرائح الأكثر نشراً للفيروس.
أيضاً، يتقاطع عامل العمر بطرق معقدة للغاية مع عامل التواصل الاجتماعي في مناطق مختلفة. وعلى سبيل المثال، تعرضت التجمعات السكانية الأميركية الأفريقية واللاتينية في الولايات المتحدة إلى الكثير من الإصابات على نحو خاص، ويعود هذا جزئياً إلى انتشار تشارك عدة أجيال لنفس السكن. ويعتبر كبار السن أكثر الشرائح عرضة للاحتكاك بالبالغين من الشباب، الذين يمثلون بدورهم الشريحة الأكثر حملاً للفيروس.
إن نمذجة التواصل تتطلب رسم شبكات تمثل أسلوب حياتنا وحركتنا بين بعضنا البعض. في 2008، قدم أحد الأبحاث الشهيرة مخططاً شبكياً ما زال أخصائيو الأوبئة يستخدمونه حتى اليوم. يتضمن المخطط الشبكي تصنيف الناس إلى مجموعات وفق العمر، بدءاً من الولادة وحتى عمر 70 سنة وأكثر. في هذه الدراسة، قام 7,000 شخص بتسجيل معلومات يومية حول احتكاكاتهم اليومية، التي وصل عددها إلى حوالي 98,000، على مدى يوم واحد. تم تصنيف الاحتكاكات حسب المكان (المنزل، المدرسة، العمل، أوقات الفراغ) وحسب طبيعتها (جسدية أو غير جسدية، طويلة أو وجيزة). وجد النموذج أن الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم من 5 سنوات إلى 19 سنة هم الأكثر عرضة للإصابة عندما يبدأ وباء جديد بالانتشار في مجموعة سكانية معرضة تماماً للإصابة، ويعود هذا على الأرجح إلى احتكاكهم الفيزيائي المتكرر مع الآخرين. بيَّن البحث أيضاً كيف يمكن أن تؤثر شبكة التواصل في المجتمع على انتقال الوباء.
تم توسيع نطاق النموذج إلى المستوى العالمي في 2017، حيث يشمل معدلات الاحتكاك من 152 دولة. تقول ماتراجت: "إنه النموذج الذي نعتمد عليه جميعاً؛ لأنه أفضل أداة متوافرة لتحديد كيفية احتكاك الناس مع بعضهم البعض". قامت ماتراجت بإدماج شبكة التواصل ضمن نموذجها الخاص.
وعلى سبيل المثال، وكما يقول لاريمور: "إذا كان الأطفال يمثلون محاور التجمع بالنسبة للمجتمع، فإن تلقيحهم يعني تفتيت شبكة انتقال الفيروس، وهو ما يعطينا وجهة نظر مختلفة تماماً حول عملية التلقيح".
كان المخطط الشبكي الأصلي يعتمد على اليوميات المسجلة. أما اليوم، فإن قدرتنا على جمع البيانات في الزمن الحقيقي عبر نشاط الهاتف الخليوي والإنترنت أعظم من ذي قبل.
عندما انتشر التباعد الاجتماعي على نطاق واسع في الربيع الماضي، أدى إلى تغيير كبير في مدخلات النموذج التقليدي لانتقال الفيروس، كما يقول سبرينجبورن. وتثبت بيانات معهد القياسات والتقييم الصحي في جامعة واشنطن الأثر الكبير للتباعد الاجتماعي في إبطاء انتقال الفيروس. وقد قال سبرينجبورن في رسالة بالبريد الإلكتروني إن شبكات التواصل في الدراسات السابقة "تعود إلى زمن ما قبل الوباء. فنحن ندرك أن معدلات الاحتكاك مختلفة للغاية في ظل التباعد الاجتماعي، ونريد أن نأخذ هذا العامل بعين الاعتبار. ونتوقع أن تخف صرامة إجراءات التباعد الاجتماعي مع تراجع عدد الإصابات. إنها الطبيعة البشرية: فمع تراجع الخطر، تتراجع السلوكيات الهادفة إلى التخفيف منه".
علينا أن ننمذج هذه المسألة أيضاً. وستؤثر على توقعاتنا بالنسبة لنجاح عملية التلقيح. وفي الواقع، تقول "لي" إنه إذا التزمنا بارتداء الكمامات والتباعد الاجتماعي بنسبة 90% حالياً، فيمكننا عندها احتواء الفيروس دون لقاح.
وفي الدراسة التي أجراها سبرينجبورن وبوكنر وتشاويل، تمت نمذجة التباعد الاجتماعي بفئات عمرية للعاملين الأساسيين وغير الأساسيين. ويتعرض العاملون الأساسيون -مثل العاملين في الرعاية الصحية وعاملي محلات البقالة والكثير من أساتذة المدارس وغيرهم- إلى خطر الإصابة أكثر من غيرهم، لأنهم غير قادرين على تطبيق التباعد الاجتماعي. وقد وجد هذا النموذج أن عدد الوفيات، إضافة إلى عدد السنوات المتوقعة المفقودة نتيجة الموت المبكر، يتراجعان إلى حد كبير عندما يُعطى العاملون الأساسيون الأولوية في التلقيح. ويجب إعطاء الأولوية إلى العاملين الأساسيين الذين تتراوح أعمارهم بين 40 و59 سنة بالتحديد إذا رغبنا في تقليل الوفيات، وفقاً لمؤلفي البحث.
يقول سبرينجبورن إنه إذا لم يظهر اللقاح، فقد يموت نحو 179,000 شخص خلال الأشهر الستة الأولى من 2021. ويشير نموذج فريقه إلى أن أعداد الوفيات قد تتراجع إلى حوالي 88,000 إذا أُجريت عملية التلقيح تدريجياً، بحيث يتم تلقيح نسبة 10% من السكان كل شهر، وبشكل منتظم للجميع دون تفضيل أي من الشرائح. ولكن التوزيع الموجه للقاحات بناء على الأعمار والانتماء إلى فئة العاملين الأساسيين قد ينقذ من 7,000 إلى 37,000 شخص، اعتماداً على متحولات أخرى.
توجد أساليب أخرى تتجاوز اليوميات والبيانات الخلوية لاستنباط بنية تواصلنا الاجتماعي؛ حيث إن عملية الإحصاء السكاني وغيرها من البيانات يمكن أن تعكس العمر والاختصاص والوضع الاجتماعي الاقتصادي، وقد قامت "لي" بتضمين هذه المعلومات في نماذجها. تضيف "لي": "يحمل الرمز البريدي كمية هائلة من المعلومات".
يمكن لبيانات الصحة العامة حول انتشار الفيروس ودخول المصابين إلى المشافي أن تعبر أيضاً عن الأمراض الأخرى التي يعاني منها مصابو كوفيد-19، إضافة إلى الأمراض في منطقة ما. وحتى المعلومات حول السكن في مدينة ما، سواء أكانت مؤلفة من ناطحات السحاب أو المنازل المستقلة، يمكن أن تقدم أدلة حول مدى التقارب بين السكان واحتمال تفاعلهم مع بعضهم البعض. ويمكن باستخدام هذه البيانات كمدخلات توجيه عملية التلقيح بحيث تتناسب مع الظروف المحلية لكل منطقة. ستحتاج "لي" إلى نمذجة حوالي 500 مدينة تمثل كافة أنحاء الولايات المتحدة، حتى تحصل على نموذج دقيق للبلاد.
وعلى الرغم من القدرات الكبيرة للنماذج، فإنها ليست بالدليل المثالي. ومن المحتم أنها ستتقاطع مع مخاوف اجتماعية عميقة وواسعة الانتشار؛ فقد أثر الوباء -سواء من حيث الإصابات أو الوفيات- بشكل خاص على الأقليات والطبقات الأقل دخلاً. ولهذا السبب، بدأت عدة مجموعات بدراسة المبادئ الأخلاقية التي يجب أن تؤطر توزيع اللقاح، وذلك وفقاً لهانا نوهاينيك، وهي نائب مدير وحدة السيطرة على الأمراض المعدية واللقاحات في المعهد الفنلندي للصحة والصالح العام، كما أنها عضو مجموعة سيج SAGE التابعة لمنظمة الصحة العامة، والتي تعمل على لقاحات كوفيد-19.
وفي الولايات المتحدة، بدأت الأكاديميات الوطنية للعلوم والهندسة والطب بنمذجة طريقة توزيع عادلة للقاح. إضافة إلى ذلك، فقد ظهر نموذجان آخران هامان، أحدهما من مدرسة الطب في جامعة بنسلفانيا، والآخر من جامعة جونز هوبكنز. يتعلق كلا النموذجين بالمخاوف الأخلاقية، والعدالة، وزيادة الفوائد إلى أقصى حد ممكن، وبناء الثقة، والصالح العام الأعلى.
ولكن بناء الثقة قد يكون أمراً صعباً. وعلى سبيل المثال، فقد أصبح من المسلَّم به على نطاق واسع أن ذوي البشرة السمراء دخلوا المستشفيات وفقدوا حياتهم بمعدلات أعلى بكثير من ذوي البشرة البيضاء. ولكن، عندما يبدأ أخصائيو الأخلاقيات بالتحدث عن منح أولوية التلقيح لذوي البشرة السمراء، يمكن أن يُفسر هذا على أنه محاولة لإجراء التجارب عليهم بدفعهم إلى أخذ اللقاح أولاً. وإذا كانت هناك مخاوف لدى أوساط الأميركيين من أصل أفريقي، فهي ردة فعل منطقية على "تاريخ يمتد لعدة قرون من الإساءة إلى الأميركيين من أصل أفريقي في المسائل الطبية"، وذلك وفقاً لأخصائية الأخلاقيات الطبية هارييت واشنطن، مؤلفة كتاب Medical Apartheid.
وفي المحصلة، فإن النماذج الأخلاقية والرياضية يجب أن تتعامل مع الحقائق العملية للعالم الحقيقي. يقول ليبسيتش، أخصائي الأوبئة من هارفارد: "إنه أمر صعب؛ لأن الحساب يعتمد أولاً وأخيراً على مقدار المنفعة". ولكن، يقول لاريمور إن هذه النماذج ستساعد على إرشادنا في الفترة الأولى المليئة بالارتيابات والعوامل غير المؤكدة. ويضيف: "ستحتاج عملية التلقيح بعض الوقت حتى تبدأ، ولا يمكننا التهاون في العمل عند الإعلان عن اللقاح".