أصبحت المدن في جميع أنحاء العالم أكثر ارتباطاً وابتكاراً، وتبحث بشكل دائم عن استراتيجيات شاملة ومتعددة الأوجه يكون دائماً محورها المواطن. لتحقيق ذلك، تعد التكنولوجيا الأداة الرئيسية من خلال توفير الحلول للتحديات التي يواجهها المواطنون والحكومات.
وبالتالي، عند النظر في تطوير أو إنشاء مدينة ذكية فإن القائمين عليها يجب أن يمتلكوا دراية واسعة بالتحديات الحالية التي تواجهها المدينة، سواء كانت بنية تحتية أو ازدحاماً مروريّاً. ولكن ما الذي يجعل المدينة ذكية؟ وما هي المعايير التي توصف بناءً عليها المدن بأنها ذكية؟ وما هي التكنولوجيات المستخدمة التي تجعل المدينة ذكية بالفعل؟
كيف كانت المدن الذكية قديماً؟
على الرغم من أن مصطلح "المدن الذكية" (Smart Cities) هو مصطلح صعد بقوة نتيجة لتطور التكنولوجيا وأدواتها، إلا أن الفكرة ليست كذلك، حيث نجد أن المدن الرومانية القديمة في الواقع يمكن أن يُطلق عليها تسمية مدن ذكية بمعايير تلك الحقبة الزمنية.
فقد كانت من أوائل المدن في العالم التي تستخدم التكنولوجيا في تطوير أنظمة تصريف المياه لتسهيل حياة مواطنيها، واستخدام تقنيات هندسية مختلفة لإنشاء الطرق والأنفاق والجسور والمباني والقلاع بطرق حديثة أصبحت الأساس لما نراه الآن من تطور عمراني في جميع أنحاء أوروبا.
وقد بدأ مفهوم المدن الذكية بشكله الحالي في الانتشار منذ الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، عندما بدأ مكتب تحليل المجتمع الأميركي في استخدام قواعد البيانات والتصوير الجوي وتحليل المجموعات لجمع البيانات وإصدار التقارير، من أجل توجيه الخدمات والتخفيف من الكوارث والحد من الفقر، حيث أدى ذلك إلى إنشاء الجيل الأول من المدن الذكية.
وقد تم تقديم الجيل الأول من المدينة الذكية من قبل شركات التكنولوجيا لفهم تداعيات التكنولوجيا على الحياة اليومية، ما أدى إلى ظهور الجيل الثاني من المدن الذكية الذي نظر في كيفية قيام التكنولوجيات الذكية والابتكارات الأخرى بإنشاء حلول محلية مشتركة.
بينما أخذ الجيل الثالث من المدينة الذكية زمام الأمور بعيداً عن شركات التكنولوجيا وقادة المدن، وبدلاً من ذلك أنشأ نموذجاً يشرك الجمهور ومكّن الإدماج الاجتماعي والمشاركة المجتمعية، مثل العاصمة النمساوية "فيينا" التي أقامت شراكة مع شركة فين إنيرجي Wien Energy)) للطاقة، ما سمح للمواطنين بالاستثمار في محطات الطاقة الشمسية.
اقرأ أيضاً: كيف يمكن جعل المدن الذكية مُراعية لاحتياجات ذوي الهمم
كيف يمكن تعريف المدن الذكية حالياً؟
بالانتقال إلى العصر الحالي، فإن تعريف المدينة الذكية هو ذاته ولكن تختلف أدوات هذه المدن وغاياتها، حيث أن ما يجعل المدن الذكية في الوقت الحاضر ذكية هو قدرتها على توفير بيئة آمنة ومستدامة تتمحور حول رفاهية سكانها.
والأشياء التي يتم التركيز عليها في المدن الذكية بشكل عام هي مجالات مثل إمكانية الوصول، والنقل، وتحسين الرعاية الصحية، وتقليل هدر الطاقة والضوضاء البيئية، فضلاً عن تحسين الجودة الاجتماعية والاقتصادية.
ومع أن المفهوم الشائع هو أن المدن الذكية تتمحور أساساً حول التكنولوجيا، إلا أن هذا المفهوم غير صحيح تماماً، فعلى الرغم من أن التكنولوجيا تلعب دوراً في تحول المدن العادية إلى مدن ذكية، إلا أن هناك مجموعة من الأشياء التي تدخل في إنشاء المدن الذكية.
وبالتالي يمكن أن تُعرَف المدن الذكية على أنها ذكية من حيث الطرق التي تسخر بها حكوماتها التكنولوجيا، وكذلك في كيفية مراقبتها وتحليلها وتخطيطها وحكمها للمدينة مع ضرورة مشاركة المجتمع. أو بمعنى آخر هي عبارة عن منطقة حضرية حديثة تكنولوجيّاً تستخدم أنواعاً مختلفة من أدوات التكنولوجيا من أجل رفاهية مواطنيها مثل أجهزة الاستشعار لجمع بيانات محددة.
وتُستخدم المعلومات المكتسبة من تلك البيانات لإدارة الأصول والموارد والخدمات بكفاءة لتحسين العمليات في جميع أنحاء المدينة، ويتضمن ذلك البيانات التي تم جمعها من المواطنين والأجهزة والمباني والأصول التي تتم معالجتها وتحليلها لمراقبة وإدارة أنظمة المرور والنقل ومحطات الطاقة والمرافق وشبكات إمدادات المياه والنفايات وكشف الجرائم وأنظمة المعلومات والمدارس والمكتبات والمستشفيات والخدمات المجتمعية الأخرى.
وباستخدام هذه البيانات يمكن للحكومة أن تتصرف على الفور لحل أي مشكلة تقريباً. على سبيل المثال تستخدم المدن الذكية أجهزة استشعار في الشوارع لتحديد أماكن وقوف السيارات الفارغة والاختناقات المرورية، وتقدير المدة التي سيستغرقها وصول الحافلة التالية، وقياس جودة الهواء والماء.
حتى أن بعض المدن الذكية تتجه إلى أن تكون أكثر استدامة وصديقة للبيئة، مثل تركيب أجهزة الاستشعار التي تكتشف عدد المشاة، وبالتالي يمكن لأجهزة الاستشعار أن تقلل من كمية إنارة الشوارع في حالة عدم وجود أي أشخاص، ما يساهم في توفير الكهرباء وبالتالي يقلل من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري.
اقرأ أيضاً: حوار مع د. عائشة بن بشر: كيف تكون مدننا الذكية أكثر مرونة؟ الدروس المستفادة من وباء فيروس كورونا
ما هي أبرز التكنولوجيات المستخدمة التي تجعل المدن ذكية فعلاً؟
هناك عدد من التكنولوجيات للاختيار من بينها، وسيختلف ما يمكن رؤيته من مدينة إلى أخرى بناءً على التحديات الفريدة والمبادرات البيئية والهدف النهائي للمدينة الذكية، حيث يمكننا أن نرى المباني الذكية والرعاية الصحية الذكية والأمن الذكي والتجارة الذكية والنقل الذكي.
ومع ذلك كل هذا يتطلب بنية تحتية قائمة على التكنولوجيا مثل واجهات برمجة التطبيقات (APIs)، والذكاء الاصطناعي (AI)، والتعلم الآلي (ML)، والحوسبة السحابية، وكل هذه التكنولوجيات تحتاج إلى أن تتماشى مع التخطيط الحضري والمبادرات البيئية للمدينة الذكية حيث يريد البشر العيش والعمل.
وهناك العديد من التكنولوجيات والتفاصيل الأخرى التي تجعل المدن ذكية حقاً، إلا أنه هناك تكنولوجيات أساسية يجب استخدامها لتكون المدينة ذكية فعلاً، وهي:
1- إنترنت الأشياء
إنترنت الأشياء (Internet Of Things) هي من أهم التقنيات لتحويل المدن العادية إلى ذكية، وهي عبارة عن شبكة من الأجهزة المتصلة التي تتواصل وتتبادل البيانات ويمكن أن يشمل ذلك أي شيء من السيارات إلى الأجهزة المنزلية وأجهزة الاستشعار الموجودة في الشارع.
ويتم تخزين البيانات التي يتم جمعها من هذه الأجهزة في السحابة أو على الخوادم للسماح بإجراء تحسينات في حياة المواطنين وتقديم فوائد اقتصادية، حيث يمكن للمدن الذكية استخدام تقنية "إنترنت الأشياء" في العديد من المجالات، مثل الكشف المبكر عن الزلازل، والرعاية الصحية التلقائية في حالات الطوارئ.
2- الروبوتات
على الرغم من أننا نتوقع رؤية المزيد من الروبوتات في المستقبل، إلا أن التركيز الرئيسي ينصب حاليّاً على استخدامها في المدن الذكية في الأغراض التالية:
- روبوتات الرعاية: وهي روبوتات متخصصة تعمل من أجل المواطن مثل روبوتات الرعاية الصحية في غرف العمليات الجراحية والمستشفيات، مثل الروبوت ماكو "Mako" الذي قام بإجراء عمليات جراحية لاستبدال الركبة والورك وصل عددها إلى 76900 عملية، أو الروبوت الشرطي التابعة لوزارة الداخلية في مدينة دبي بالإمارات العربية المتحدة.
- روبوتات الصيانة: يمكن أن تقوم هذه الروبوتات بمهام الصيانة الصعبة والخطرة التي تشكل خطراً على البشر، بالإضافة إلى العمل لساعات طويلة بدون توقف وضمان درجات معينة من الدقة والجودة.
- روبوتات الخدمة: تعمل المطاعم بالفعل على استخدام الروبوتات في تبسيط عمليات طلب الطعام وأنظمة الدفع، كما ظهر مصطلح "مطاعم الروبوتات" (Robot Restaurants) المؤتمتة بالكامل التي تقوم بكل شيء وفي فترة زمنية وجيزة.
3- شبكات الجيل الخامس
تعتبر شبكات "الجيل الخامس" (5G) أكثر من مجرد زيادة لسرعة الاتصال بالإنترنت. حيث يتعلق المفهوم بشكل خاص بزيادة السعة مع دخول تكنولوجيات متقدمة مثل إنترنت الأشياء والواقع الافتراضي وتكنولوجيا السيارات ذاتية القيادة والرعاية الصحية.
من خلال زيادة السعة يمكن إجراء العمليات الجراحية عن بُعد وتبادل البيانات في وقت واحد مع اتصال أكثر استقراراً، ما يعني أنه يمكنها التعامل مع الكثير من الأجهزة المتصلة وقادرة على استخدام ترددات مختلفة مع تداخل أقل.
كما تتيح شبكات الجيل الخامس الفرصة للتكنولوجيات الصاعدة مثل المنازل الذكية وإدارة الطاقة وخدمات النقل لأن تعمل بسلاسة بالإضافة إلى أنظمة تعليمية أكثر ذكاءً.
4- التطبيقات والخدمات الآلية
تتمحور العديد من رؤى المدن الذكية في أنها تتفهم احتياجاتك بسرعة، على سبيل المثال يمكن استخدام تطبيق مخصص لإخبارك بأقرب مكان لركن سيارتك بدلاً من القيادة لفترة طويلة من أجل العثور على مكان لوقوف السيارات، أو استخدام الخدمات الآلية لاكتشاف الطرق المعطوبة وإصلاحها والاهتمام بجميع أعمال الصيانة الوقائية.
5- تكنولوجيا الجغرافيا المكانية
وجود تقنيات "الجغرافيا المكانية" هو الذي يحول المدن الذكية إلى حقيقة واقعة، حيث توفر تقنيات الجغرافيا المكانية تخطيطاً ملائماً وفعالاً ومتكاملاً باستخدام التحليلات والبيانات في الوقت الفعلي، وهذا من شأنه أن يحل عدداً من التحديات التي قد تواجهها المدن الذكية. مثل المساعدة في العثور على أسرع طريق للعودة إلى المنزل، وتحسين خدمات النقل، وبالتالي فإن التقنيات الجغرافيّة المكانية تعتبر العامل الأكثر أهمية عند تصميم مدينة ذكية، ويتيح الجمع بينها وبين تقنية إنترنت الأشياء اتخاذ قرارات أفضل ورسم حلول أكثر ملائمة للمدينة الذكية.
اقرأ أيضاً: الشبكة العالمية للمدن الذكية: أول مجتمع عالمي يختص بالمدن الذكية
لماذا تعتبر المدن الذكية هي المستقبل؟
مع وجود أكثر من 54% من سكان العالم في المدن الحضرية الآن وتوقع أن ترتفع هذه النسبة إلى 68% بحلول عام 2050 ما يضيف 2.5 مليار شخص إلى سكان المدن خلال العقود الثلاثة القادمة، فإن هذا النمو السكاني المتوقع يتطلب حلولاً استراتيجية لإدارة الاستدامة البيئية والاجتماعية والاقتصادية للموارد.
وبالتالي تتيح المدن الذكية للمواطنين والسلطات الحكومية المحلية العمل معاً لإطلاق المبادرات واستخدام التكنولوجيات الذكية لإدارة الأصول والموارد في البيئات الحضرية المتنامية، فمن شأن المدن الذكية أن توفر بيئة حضرية توفر جودة عالية من الحياة للسكان مع تحقيق النمو الاقتصادي.
اقرأ أيضاً: كيف يمكن لتوظيف التكنولوجيا أن يبني المدن الذكية بمفهومها الحضري؟
ما هي أبرز التحديات التي تواجه المدن الذكية؟
على الرغم من أن المدن الذكية تقدم العديد من المزايا إلا أن هناك أيضاً تحديات يجب التغلب عليها، من ضمنها أهمية إشراك السكان في تقييم مشاريع المدن الذكية، بالإضافة إلى الحاجة للقطاعين العام والخاص للعمل معاً بشكل شفاف بحيث يمكن للجميع المساهمة بشكل إيجابي في تطوير المجتمع.
وربما يكون التحدي الأكبر هو الاتصال، إذ ستبرز الحاجة في المدن الذكية إلى الآلاف أو حتى الملايين من أجهزة إنترنت الأشياء التي تتطلب الاتصال والعمل في انسجام تام. ومع ذلك وبصرف النظر عن التكنولوجيا، تحتاج المدن الذكية أيضاً إلى مراعاة العوامل الاجتماعية التي توفر نسيجاً ثقافياً جذاباً للسكان وتوفر إحساساً بالمكان، وهو مهم بشكل خاص لتلك المدن التي يتم إنشاؤها من الألف إلى الياء وتحتاج إلى جذب السكان.