تلوث المياه: أبرز أسبابه وآثاره على الإنسان والبيئة

5 دقائق
ندرة المياه العذبة على الأرض 2

تقول الحكمة الشهيرة "لا تبصق في البئر، فقد تشرب منه يوماً". ومع ذلك، لا يزال البشر يبصقون في البئر الذي يشربون منه، ولا يزال تلوث المياه أحد أخطر التهديدات البيئية التي يواجهها العالم اليوم.

وقد رأينا في الحلقة الأولى مدى ندرة المياه العذبة داخل باطن الأرض وعلى سطحها، وهي المشكلة التي تتزايد على نحو متسارع بسبب تغير المناخ والنمو السكاني المتواصل والتوسع الحضري، إلى درجة دفعت منظمة الصحة العالمية إلى التحذير من أنه بحلول عام 2025، سيعيش نصف سكان العالم في مناطق تعاني من الإجهاد المائي.

والآن، نستعرض معاً معنى تلوث المياه، وأبرز أسبابه وآثاره على الإنسان، والكيفية التي يؤثر بها على مختلف أنواع المسطحات المائية.

ما المقصود بتلوث المياه؟

لا يوجد تعريف جامع لتلوث المياه، إلا أن أحد التعريفات الشهيرة يرى أن المياه الملوثة عموماً هي المياه التي تم تغيير تركيبتها إلى الحد الذي يجعلها غير صالحة لبعض استخداماتها أو كلها. أي لا يمكن شربها أو استخدامها لأغراض أساسية مثل الزراعة، أو حتى لدعم بقاء النظم الإيكولوجية المائية.

ويحدث تلوث المياه عندما تتسرب المواد السامة إلى المسطحات المائية، مثل البحيرات والأنهار والمحيطات، وتذوب فيها على نحو يفوق قدرة المياه على تفكيكها، ما يؤدي إلى تدهور جودة المياه وجعلها سامة سواء للإنسان أو للكائنات التي تعيش فيها.

وتشمل ملوثات المياه الرئيسية كلاً من البكتيريا والفيروسات والطفيليات والأسمدة ومبيدات الآفات والنترات والفوسفات والبلاستيك والنفايات، وحتى المواد المشعة. وفي الكثير من الأحيان تكون هذه الملوثات غير مرئية، أي أنها لا تغير دائماً لون المياه؛ ولهذا السبب يتم إجراء اختبارات دورية على عينات الماء لتحديد مدى جودة المياه.

أبرز مصادر تلوث المياه

في بعض الأحيان قد يكون التلوث ناتجاً عن الطبيعة نفسها، كما هو الحال في حالات ثوران البراكين وتكاثر الطحالب. بيد أن السبب الرئيسي في معظم حالات تلوث المياه يعود إلى النشاط البشري.

وتوجد العديد من التصنيفات المستخدمة لتقسيم ملوثات المياه، وأحد هذه التقسيمات يستخدمه موقع جمعية القانون البيئي في المملكة المتحدة (UKELA)، الذي يصنف مصادر التلوث المائي الناتجة عن النشاط البشري ضمن ست فئات رئيسية:

1- مياه الصرف الصحي غير المعالجة:

وتشمل المخلفات السائلة التي يتم تصريفها من المجمعات السكنية والتجارية والصناعية والزراعية إلى مجاري المياه دون معالجة. وكما ذكرنا في الحلقة الأولى، فإن أكثر من 80% من مياه الصرف الصحي في العالم تتدفق مرة أخرى إلى البيئة دون معالجتها أو إعادة استخدامها، وفي بعض البلدان الأقل نمواً، يتجاوز الرقم 95%، بحسب تقديرات الأمم المتحدة.

2- الملوثات الزراعية:

يمكن أن تتسبب عمليات الزراعة مثل استخدام المبيدات الحشرية والأسمدة والتخلص من روث الأغنام وحراثة الأرض في تلوث المياه، وتحتوي الكثير من هذه المواد على النيتروجين والفوسفور، وإذا تم نقلها إلى البحيرات والجداول من خلال الجريان السطحي لمياه الأمطار، فإنها يمكن أن تؤدي إلى زيادة نمو الطحالب وتسميم المياه وغيرها من المشاكل البيئية الأخرى.

مدينة هو تشي منه، فيتنام
مدينة هو تشي منه، فيتنام.
مصدر الصورة: آن في عبر أنسبلاش

3- التلوث النفطي:

وقعت عدة انسكابات نفطية بارزة في التاريخ، أهمها جنوح ناقلة النفط "إكسون فالديز" قرب سواحل ألاسكا عام 1989، ما أدى إلى انسكاب حوالي 34,000 طن نفط في خليج ألاسكا. والتسرب النفطي الذي وقع في خليج المكسيك عام 2010، الذي أدى إلى انسكاب ما لا يقل عن 450,000 طن نفط في مياه الخليج، ما يجعله أكبر تسرب نفطي عرضي في التاريخ الحديث.

إضافة إلى ذلك، فإن ما يقرب من نصف مليون طن من النفط يشق طريقه إلى البيئات البحرية كل عام من مصادر برية مثل المصانع والمزارع. وقد تسبب إطلاق هذه الكميات الكبيرة من النفط في مياه البحار في خسائر هائلة ودمرت الحياة البحرية والنظم البيئية في تلك المناطق بشكل كبير.

4- النفايات المشعة:

تستخدم المواد المشعة في محطات الطاقة النووية والعمليات الصناعية والطبية والعلمية الأخرى، كما يمكن العثور عليها في الساعات المضيئة وأجهزة التلفزيون وأجهزة الأشعة السينية. وإذا لم يتم التخلص من هذه المواد بشكل صحيح، فإن النفايات المشعة تتسبب في حوادث تلوث مائي خطيرة.

5- التخلص من النفايات في الأنهار:

يمثل التخلص غير القانوني من النفايات الصناعية والمنزلية مشكلة بيئية ضخمة، لا سيما في البلدان النامية والمتخلفة. ويمكن أن تؤدي هذه النفايات إلى تدمير أو تدهور الموائل المهمة للأسماك كما يسبب تآكلاً في سواحل الأنهار والشواطئ.

6- التخلص من النفايات في البحار والمحيطات:

من بين جميع أنواع الأنشطة التي تلوث المحيط، يأتي إلقاء القمامة وغيرها من النفايات في المرتبة الأولى في القائمة. وتشير مؤسسة مياه الشرب الآمنة الكندية (SDWF) إلى أن تدفق النفايات إلى المحيطات يساهم في تكاثر الطحالب وسد الممرات المائية، ما يتسبب بدوره في موت مروج الأعشاب البحرية ونظم بيئية بأكملها.

كما تتسبب تلك النفايات في القضاء على الكائنات البحرية، حتى الكبيرة منها. على سبيل المثال، تقتل النفايات البلاستيكية كل عام مئات السلاحف البحرية التي تعتقد خاطئة أن الأكياس البلاستيكية والبالونات هي قناديل البحر -طعامها المفضل- وبمجرد ابتلاعها، يسد البلاستيك أمعاء السلاحف، ما يتسبب في موتها.

طائر يأكل قمامة من الماء الملوث
مصدر الصورة: تيم موسولدر عبر أنسبلاش

آثار تلوث المياه على الإنسان

من الناحية الصحية، ترتبط المياه الملوثة بانتقال العديد من الأمراض الخطيرة مثل الكوليرا والإسهال والدوسنتاريا والتهاب الكبد أ والتيفوئيد وشلل الأطفال. وتشير دراسة بيئية مصرية، منشورة في مجلة الأبحاث المتقدمة (Journal of Advanced Research)، إلى أن الأمراض التي تنقلها المياه مسؤولة عن أكثر من مليوني حالة وفاة وأربعة مليارات حالة إسهال في جميع أنحاء العالم سنوياً، ما يجعل تلوث المياه أحد الأسباب الرئيسية للوفاة والأمراض.

ووفقاً لمنظمة الصحة العالمية، فقد احتاج أكثر من 220 مليون شخص، في عام 2017 فقط، إلى علاج وقائي من داء البلهارسيات، وهو مرض حاد ومزمن تسببه الديدان الطفيلية التي تنتقل عن طريق المياه الملوثة.

إضافة إلى التأثيرات المباشرة وغير المباشر على صحة الإنسان، تمتد تأثيرات تلوث المياه إلى مختلف الجوانب الاقتصادية والاجتماعية. ولا يسعنا هنا ذكر كل هذه التأثيرات؛ لذا سنكتفي بالإشارة إلى تحذير البنك الدولي عام 2019 من أن المياه الملوثة تقلص النمو الاقتصادي بنسبة تصل إلى الثلث في بعض البلدان.

وأوضح البنك، في تقرير نشره على موقعه الإلكتروني، أنه اعتمد في هذا الاستنتاج إلى تجميع أكبر قاعدة بيانات في العالم عن جودة المياه، من محطات رصد ميدانية، وتكنولوجيا الاستشعار عن بُعد، والتعلم الآلي. ووجد التقرير أيضاً أنه مع زيادة ملوحة المياه والتربة تتناقص الغلات الزراعية، ويفقد العالم كل عام أغذية تكفي لإطعام 170 مليون نسمة.

الأضرار تطول مختلف المسطحات المائية

لعل أبرز مظاهر تلوث المياه وأكثرها وضوحاً بالنسبة لمعظم البشر هو تلوث الأنهار؛ فالعديد من المركبات العضوية الناتجة عن الصرف الصحي المنزلي والصناعي، والنفايات الناتجة عن الزراعة والإنتاج الحيواني، تشق طريقها في نهاية المطاف إلى مجاري الأنهار، حتى في بعض الدول المتقدمة.

ونظراً لأن الكثير من هذه المركبات العضوية السامة غير قابل للتحلل، أو يتحلل ببطء، فإنها تستمر في النظام البيئي لفترات طويلة، وتتحول في الكثير من الأحيان إلى مواد مسرطنة لا سيما عندما تتفاعل مع الكلور المستخدم في تطهير المياه، كما تؤثر على الأسماك والكائنات المائية الأخرى.

التلوث الناتج عن الأنشطة الصناعية
التلوث الناتج عن الأنشطة الصناعية.
مصدر الصورة: مؤسسة مياه الشرب الآمنة الكندية (SDWF)

لا تقتصر أضرار تلوث المياه على المياه العذبة السطحية فحسب، بل تتسرب الملوثات أيضاً إلى المياه الجوفية، التي قد تصل إلى منازلنا كمياه ملوثة نستخدمها في أنشطتنا اليومية. وتوضح منظمة "مجلس الدفاع عن الموارد الطبيعية" (NRDC) الأميركية غير الهادفة للربح، أن ما يقرب من 40% من الأميركيين يعتمدون على المياه الجوفية التي يتم ضخها إلى سطح الأرض، كمصدر للشرب.

ويثير تلوث المياه الجوفية تحديداً إشكالية معقدة؛ نظراً لصعوبة إزالة الملوثات والتكلفة العالية التي يحتاجها هذا الأمر. فبمجرد تلوث طبقة المياه الجوفية، قد تصبح غير صالحة للاستعمال لعقود أو حتى لآلاف السنين، كما أنها يمكن أن تنشر التلوث بعيداً بسبب تسربها إلى الجداول والبحيرات والمحيطات.

الأمر نفسه ينطبق على المسطحات المائية المالحة، فبحسب تقرير نشرته الإدارة الوطنية الأميركية للمحيطات والغلاف الجوي (NOAA)، الشهر الماضي، فإن 80% من تلوث البيئة البحرية في المحيطات يأتي من اليابسة. وتشمل مصادر هذا التلوث خزانات الصرف الصحي والسيارات والشاحنات والقوارب ومخلفات المزارع، التي تشق طريقها في الكثير من الأحيان إلى البحار.

في الحلقة الأخيرة من سلسلة مقالات المياه، سنستعرض معاً سبل منع تلوث المياه، وأبرز التجارب الدولية الناجحة في هذا المجال.