قبل عدة سنوات، أجرى باحثون في جامعة البوليتكنيك في كاتالونيا وجامعة كامبريدج سلسلة من التجارب البسيطة التي يمكن أن تقود إلى نتائج وتأثيرات هائلة في مجال التكييف والتبريد.
وفي تلك التجارب، وضعوا بلورات بلاستيكية من مادة نيوبنتيل جليكول -وهي مادة كيميائية شائعة تستخدم في إنتاج الدهانات ومواد التشحيم- في حجرة، وأضافوا إليها الزيت، ثم استخدموا مكبس لزيادة الضغط في الحجرة. مع تزايد الضغط المطبق وانضغاط السائل، ارتفعت درجة حرارة البلورات بنحو 40 درجة مئوية.
وعندما نُشرت النتائج في ورقة بحثية في مجلة نيتشر كومينيكيشنز العام الماضي، مثَّلت أكبر تحول في درجة الحرارة تم تسجيله على الإطلاق وناجم عن تعريض المواد للضغط. بينما كان لتخفيف الضغط تأثير معاكس؛ حيث أدى إلى انخفاض حرارة البلورات وتبريدها بشكل كبير.
قال فريق البحث إن النتائج تسلط الضوء على أسلوب واعد لاستبدال مواد التبريد التقليدية، وهو ما قد يوفر “تبريداً صديقاً للبيئة مع الحفاظ على نفس مستوى الأداء”. تعد مثل هذه التطورات ذات أهمية كبرى؛ لأن زيادة الثروة وتزايد عدد السكان وارتفاع درجات الحرارة يمكن أن يرفع الطلب على الطاقة اللازمة للتبريد الداخلي بمقدار ثلاثة أضعاف بحلول عام 2050 إذا لم يتم تحقيق تحسينات تقنية كبيرة، حسب توقعات الوكالة الدولية للطاقة.
كان التغير في درجة الحرارة لهذه المواد متقارباً مع التغير الحراري الذي يحدث في مركبات الهيدروفلوروكربون المسؤولة عن التبريد في أنظمة تكييف الهواء والثلاجات المعيارية. غير أن مركبات الهيدروفلوروكربون تعد إحدى غازات الدفيئة الأكثر تأثيراً على البيئة.
يستند هذا العمل البحثي إلى ظاهرة معروفة منذ زمن طويل، ومألوفة لك إذا كنت قد قمت بمدّ بالون ولمسه بشفتيك، حيث تقوم المواد الحرورية بإطلاق الحرارة عند وضعها تحت الضغط أو الإجهاد. كما أن إخضاع مواد معينة لمجالات مغناطيسية وكهربائية، أو مزيج من هذه القوى يؤدي إلى نفس النتيجة في بعض الحالات.
عمل العلماء على تطوير مبرِّدات مغناطيسية على أساس هذه المبادئ لعقود، لكنها تتطلب مغناطيسات كبيرة وقوية ومكلفة. ومع ذلك، يحقق الباحثون تقدماً كبيراً في هذا المجال، وفقاً لورقة مراجعة منشورة في مجلة ساينس يوم 12 نوفمبر، وأعدها إكزافييه مويا وإن دي. ماثور، عالما المواد في جامعة كامبريدج اللذَيْن عملا على التجارب المذكورة آنفاً.
نوّه المؤلفان إلى أن فرق البحث تنجح في التحديد الدقيق للعديد من المواد الحرورية التي تخضع لتغيرات كبيرة في درجات الحرارة، ثم تستخدمها في نماذج أولية لأجهزة التدفئة والتبريد. إن المواد والأجهزة التي يمكنها إطلاق ونقل كميات كبيرة من الحرارة بالاعتماد على الكهرباء والإجهاد والضغط -وهي التقنيات التي لم تشهد انطلاقاً فعلياً إلا منذ أكثر من عقد بقليل- تحقق مستوى من الأداء يضاهي ذلك الذي تحقق خلال عقود من العمل في مجال أجهزة التبريد القائمة على المغنطة.
بالإضافة إلى تقليل الحاجة إلى مركبات الهيدروفلوروكربون، ينعقد الأمل في أن هذه التكنولوجيا قد تكون في نهاية المطاف أكثر كفاءة في استخدام الطاقة من أجهزة التبريد المعيارية، بالنظر إلى الحرارة المنبعثة قياساً إلى كمية الطاقة اللازمة لإحداث التغير في درجة الحرارة. يتمثل الاختلاف الجوهري في هذه التقنية في أن المواد تظل في حالة صلبة، بينما تعمل مواد التبريد التقليدية، مثل الهيدروفلوروكربونات، عن طريق التحول بين حالتي الغاز والسائل.
إطلاق التغيير في حالة المادة
إليك كيفية عمل هذه التقنية:
تُظهر العديد من المواد تغيرات صغيرة في درجات الحرارة عند تعريضها لقوى معينة. لكن العلماء كانوا في سعي دؤوب لاكتشاف مواد تخضع لتغيرات كبيرة في الحرارة، وفي حالة مُثلى، نتيجة أدنى قدر ممكن من الطاقة. ومن بين العديد من المواد، أظهرت بعض السبائك المعدنية نتائج واعدة تحت الإجهاد، بينما تستجيب بعض أنواع السيراميك والبوليمرات بشكل جيد للحقول الكهربائية، وتبدو الأملاح غير العضوية والمطاط مواد واعدة عند تعريضها للضغط.
تؤدي هذه القوى أو الحقول إلى اصطفاف الذرات أو الجزيئات داخل المواد بطرق أكثر تنظيماً، ما يؤدي إلى تغيير في الحالة مشابه لما يحدث عندما تتحول جزيئات الماء المتدفقة إلى بلورات ثلجية مضغوطة. (في حالة المواد الحرورية، يحدث تغيير الحالة بينما تظل المواد في حالة صلبة، لكنها حالة تكون فيها المواد أكثر صلابة من ذي قبل). تؤدي هذه العملية إلى إطلاق حرارة كامنة كافية لتعادل فرق الطاقة بين الحالتين. عندما تعود المواد إلى حالتها الأصلية بعد إيقاف إخضاعها للقوى الأخرى، فإنها تنتج انخفاضاً في درجة الحرارة يمكن استغلاله بعد ذلك في التبريد.
يشبه هذا الأسلوب طريقة عمل أجهزة التبريد اليوم؛ فهي تخفِّض ضغط الهيدروفلوروكربونات إلى الحد الذي تتحول فيه من الحالة السائلة إلى الحالة الغازية. لكن قد يكون أسلوب التبريد مع إبقاء المادة في الحالة الصلبة أكثر كفاءة في استخدام الطاقة، على الأقل جزئياً؛ لأنك لست مضطراً لتحريك الجزيئات بنفس القدر لإحداث تغيير في الحالة، كما يقول جون كوي، كبير العلماء في مختبر أميس.
الانتقال إلى مرحلة الإنتاج والتسويق
يكمن الحل لتقديم أجهزة تجارية تنافسية في تحديد المواد ذات الأسعار المعقولة التي تخضع لتغيرات كبيرة في درجات الحرارة، ويمكنها بسهولة العودة إلى حالتها السابقة، وتتحمل الدورات الممتدة من هذه التغييرات دون أن تتعطل (يمكن تشغيل الثلاجات التجارية لملايين الدورات)، وذات ثمن رخيص.
تقترب بعض المواد وحالات الاستخدام من الوصول إلى السوق التجارية، كما يقول إيشيرو تيكوشي، عالم المواد في جامعة ماريلاند. وقد أطلق تيكوشي شركة لإنتاج أجهزة تبريد من مواد تستجيب للإجهاد منذ حوالي عقد من الزمن، تسمى ميريلاند إنيرجي آند سينسور تكنولوجي (Maryland Energy & Sensor Technology).
وطورت مجموعته البحثية نموذجاً أولياً لجهاز تبريد يقوم بزيادة وتخفيض الضغط على الأنابيب المصنوعة من النيكل والتيتانيوم لحثّها على التسخين والتبريد. يقوم الماء الذي يمر عبر الأنابيب بامتصاص الحرارة خلال المرحلة الأولية، ثم تُجرى العملية عكسياً لتبريد الماء الذي يمكن استخدامه لتبريد وعاء أو غرفة معيشة.
تخطط الشركة لإنتاج مبرِّد نبيذ لا يتطلب نفس طاقة التبريد التي تحتاجها ثلاجة كبيرة أو وحدة تكييف مثبتة على النافذة، كمنتج أولي باستخدام مادة غير محددة ولكنها أقل تكلفة.
كما شارك مويا، أحد مؤلفي الورقة البحثية العلمية، في تأسيس شركته الخاصة منذ حوالي عام ونصف. وقدمت هذه الشركة، واسمها باروكال ومقرها كامبريدج بإنجلترا، نموذجاً أولياً لمضخة حرارية يعتمد على بلورات بلاستيكية “ذات صلة بالنيوبنتيل جليكول، ولكنها أفضل”، كما يقول مويا.
أخيراً، تم تأسيس عشرات أو نحو ذلك من الشركات الناشئة لتسويق هذه التقنية، وقامت العديد من الشركات القائمة باستكشاف إمكاناتها، بما في ذلك عملاقة الأجهزة المنزلية الصينية هاير (Haier) وأسترونوتيكس كوربوريشن أوف أميركا (Astronautics Corporation of America).
يتوقع كوي أننا سنرى بعضاً من المنتجات التجارية الأولى التي تعتمد على المواد التي تغير درجة الحرارة استجابة للقوة والإجهاد، خلال السنوات الخمسة إلى العشرة القادمة، لكنه يقول إن الأمر سيستغرق سنوات أطول حتى تصبح الأسعار قادرة على المنافسة مع منتجات التبريد المعيارية.