نظراً لما يشهده العالم أجمع من آثار التغيّر المناخي التي باتت تتصدر الأخبار في شتى الوسائل الإعلامية، دخلت دول العالم فيما هو أشبه بحالة السباق مع الزمن في محاولة للحدّ من تلك التبعات، وذلك بتبنّيها مسار تحوّل الطاقة بهدف تقليل الانبعاثات الكربونية، والوصول إلى الحياد الصفري.
غير أن الطريق -كما هو متوقع- ليس ممهداً وسهلاً على الإطلاق؛ فعلى الرغم من أن عملية توليد الطاقة المتجددة تنمو بسرعة مدفوعة بانخفاض التكاليف واهتمام المستثمرين المتزايد، فإن حجم انبعاثات الكربون في نظام الطاقة العالمي ضخمٌ للغاية، كما أن تكلفة إزالته مرتفعة جداً.
وفي حين ركّز الكثير من جهود التحوّل في قطاع الطاقة على تهيئة بنية تحتية جديدة منخفضة الكربون لتحلّ محل الأنظمة القديمة الكثيفة الكربون، وُجّهت بعض الجهود والاستثمارات نحو التقنيات الرقمية للجيل التالي، ولا سيما الذكاء الاصطناعي الذي يمكن أن يساعد على التخفيف من آثار تغيّر المناخ -وفقاً لتقرير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيّر المناخ (IPCC) لعام (2022م)- بجعله عامل تمكين أساسياً لتحوّل الطاقة.
خطوات المملكة في تحوّل الطاقة:
تُعدُّ المملكة العربية السعودية إحدى أبرز الدول القائدة في مجال الطاقة عالمياً؛ إذ اتخذت منذ إطلاق (رؤية المملكة 2030)، خطوات فاعلة لبناء مستقبل أكثر استدامة، ووضعت أهدافاً طموحة لمواجهة التغيّر المناخي، واستهدافها الوصول إلى الحياد الصفري بحلول عام (2060م)، بتطبيق نهج الاقتصاد الدائري للكربون، وما يتوافق مع خطط المملكة التنموية وتمكين تنوعها الاقتصادي، وبما يحفظ دور المملكة الريادي في تعزيز أمن أسواق الطاقة العالمية واستقرارها.
ومن هنا أُطلق عددٌ من المبادرات لتحويل هذه الأهداف إلى واقعٍ ملموسٍ، مثل (مبادرة السعودية الخضراء)، التي تسعى إلى تحقيق ثلاثة أهداف رئيسة، وهي:
- خفض الانبعاثات بمقدار (278) مليون طن سنوياً بحلول عام (2030م).
- زراعة (10) مليارات شجرة في أنحاء المملكة كافة.
- حماية ما نسبته (30%) من المناطق البرية والبحرية في المملكة العربية السعودية.
وقد تبنّت المملكة نهج الاقتصاد الدائري للكربون ليشمل مصادر الطاقة جميعها لتحقيق أهدافها في خفض الانبعاثات، مثل التقاط الكربون ونقله واستخدامه وتخزينه، وتعزيز استدامة مزيج الطاقة الحالي في المملكة، على أن تشكّل الطاقة المتجددة نسبة (50%) منه، وإرساء مكانة عالمية رائدة في إنتاج الهيدروجين النظيف والأخضر وتصديرهما.
كما تنتقل المملكة العربية السعودية إلى الوقود النظيف بتحويل بعض المنتجات البترولية المستخدمة في المملكة إلى أحدث المواصفات الأوروبية (مثل يورو 5)، وبناء أكبر منشأة تجارية في العالم تعمل بالطاقة المتجددة لإنتاج الأمونيا والهيدروجين الأخضر في مدينة نيوم.
وفي إطار سعي المملكة إلى تعزيز قوتها ومكانتها في قطاع الطاقة، ينظر القادة إلى البيانات بوصفها ثروة كبيرة يمكن استغلالها في قطاع الطاقة؛ إذ تشكّل فرصة ذهبية لتعزيز ريادة المملكة في تطبيق الذكاء الاصطناعي في قطاع الطاقة، ولا سيما مع تفوق المملكة في الذكاء الاصطناعي، فقد جاءت في المركز (الأول) عربياً، والمركز الـ (26) عالمياً في ( المؤشر العالمي للذكاء الاصطناعي تورتويس إنتليجينس (Tortoise Intelligenceالذي يقيس أكثر من (143) مقياساً لمستوى الاستثمار والابتكار، وتنفيذ تقنيات الذكاء الاصطناعي عبر عدة معايير، مثل قوة البنية التحتية، والبيئة التشغيلية، والأبحاث والتطوير، وغيرها؛ إذ حلّـت المملكة في المركز (الأول) عالمياً في معيار البيئة التشغيلية، والمركز (الثالث) عالمياً في معيار الاستراتيجية الحكومية، بالإضافة إلى جهود المملكة إقليمياً وعالمياً في المجالات الرقمية الأخرى، مثل تحقيقها المركز (الثاني) عالمياً في مؤشر الأمن السيبراني (وفق الكتاب السنوي للتنافسية العالمية لعام 2023مIMD )، وذلك بالعمل المؤسسي التكاملي مع الجهات الحكومية والقطاع الخاص لتعزيز الأمن السيبراني في المملكة.
وفي بقية هذه المقالة سيُسلّط الضوء على الجهود الفعّالة التي اتخذتها المملكة العربية السعودية لتكون رائدة في استخدام الذكاء الاصطناعي لدعم تحوّل الطاقة من خلال مركز الذكاء الاصطناعي للطاقة.
مركز الذكاء الاصطناعي للطاقة (AICE):
اتخذت المملكة خطوة مهمة للغاية في رحلتها للاستفادة من الذكاء الاصطناعي في قطاع الطاقة وتحوّله، وهي تدشين مركز الذكاء الاصطناعي للطاقة (AICE)، الذي يُعدُّ مركز تميّز مشتركاً بين وزارة الطاقة والهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا)، ويهدف المركز إلى تحقيق مستهدفات رؤية المملكة 2030 المشتركة بين الجهتين، وتعزيز ريادة المملكة لتكون دولة رائدة في تطبيق الذكاء الاصطناعي في قطاع الطاقة عالمياً.
ومن هذا المنطلق، قال مساعد الوزير للتطوير والتميز بوزارة الطاقة، المهندس أحمد الزهراني: "إن المركز يسعى إلى الاستفادة من الذكاء الاصطناعي في دعم التحوّل في مجال الطاقة، من خلال تطوير حلول بتقنيات رقمية حديثة، تساعد على تحسين الأعمال، وتعزيز الاستدامة".
كما ذكر الرئيس التنفيذي للمركز الوطني للذكاء الاصطناعي (أحد الكيانات التابعة لسدايا)، الدكتور ماجد التويجري، أن سدايا تهدف إلى إنشاء اقتصاد يركّز على البيانات ومدعوم بالذكاء الاصطناعي، مشيراً إلى أنها تسعى إلى إطلاق العنان لقيمة البيانات لتكون أصلاً وطنياً لتحقيق تطلعات رؤية المملكة 2030 في قطاع الطاقة.
تنسيق جهود الذكاء الاصطناعي في منظومة الطاقة:
يمارس مركز الذكاء الاصطناعي للطاقة دوراً محورياً في تطوير الذكاء الاصطناعي والتقنيات الحديثة في قطاع الطاقة؛ حيث يجمع خبراء التقنيات الرقمية بخبراء الطاقة في فريق واحد، وقد أسهم مركز الذكاء الاصطناعي للطاقة في وضع خارطة طريق تهدف إلى وضع قطاع الطاقة في المملكة على مسار الريادة العالمية في مجال الذكاء الاصطناعي، وذلك بتقييم الوضع الحالي وعمل الدراسات المعيارية؛ لتحديد أبرز الفرص وأهم التحديات التي يجب معالجتها في سبيل ذلك.
ويعمل مركز الذكاء الاصطناعي للطاقة على تنسيق الجهود الوطنية للجهات الحكومية والبحثية والشركات العاملة في قطاع الطاقة وتوحيدها بتبادل أفضل الممارسات، وصناعة الأثر والقيمة من خلال مشاريع نوعية، فعلى سبيل المثال، بادر مركز الذكاء الاصطناعي للطاقة إلى إنشاء مركز أبحاث متخصص في الذكاء الاصطناعي في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن (JRCAI)، نُفّذت من خلاله مشاريع مهمة في قطاع الطاقة بالتعاون مع الشركات العاملة في القطاع مثل (شركة طاقة)، حيث استُخدم الذكاء الاصطناعي ورؤية الحاسب لمراقبة الالتزام بمعدات السلامة الشخصية داخل منشآت الشركة بطريقة لا تتطلّب أيّ تغيير في البنية التحتية الحالية بالشركة، إضافة إلى ذلك قام المركز برعاية عدد من المؤتمرات والمحافل التي تعزّز التواصل بين الخبراء والمهتمين بالذكاء الاصطناعي في الطاقة من مختلف الجهات في منظومة الطاقة، مثل رعاية مؤتمر (الذكاء الاصطناعي في الطاقة) في جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (كاوست) الذي جمع عدداً من المختصين في الطاقة والتقنيات الحديثة لعرض أحدث التطبيقات للذكاء الاصطناعي في قطاع الطاقة.
منهجية لتحديد أولويات حلول الذكاء الاصطناعي في الطاقة:
طوّر المركز منهجية واضحة لتحديد أولويات حلول الذكاء الاصطناعي، ما ساعد على تقييم مئات الفرص لتطبيق الذكاء الاصطناعي في قطاع الطاقة، وحصر الأهم منها للتنفيذ، فقد قُيّمت الفرص من خلال عاملين رئيسين هما (الأثر المتوقع، والجدوى التقنية) لكل فرصة، حيث يجري تقييم الأثر المتوقع بتحديد المنفعة المالية، والقيمة الاستراتيجية، والعدد المتوقع للمستفيدين من تطبيق الفرصة، بينما يجري تقييم الجدوى التقنية بتوفّر البيانات اللازمة، وجاهزية البنية التحتية، وتحديد أصحاب المصلحة الأساسيين من أجل تنفيذ الحل بنجاح.
وحصر المركز باستخدام هذه المنهجية عدداً من المشاريع الرائدة في مختلف مجالات الطاقة التي يمكن جمعها في ثلاثة محاور رئيسة، وهي:
- رقمنة سلاسل القيمة في قطاع الطاقة.
- رفع موثوقية إمدادات الطاقة.
- مراقبة أمن وسلامة واستدامة أصول الطاقة الحساسة.
وقد شرع المركز في تنفيذ حلول الذكاء الاصطناعي لأولويات القطاع، مثل التنبؤ بالطاقة الشمسية وطاقة الرياح باستخدام الذكاء الاصطناعي، ومراقبة انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون، ومراقبة المنتجات البترولية، وذلك بالتعاون مع أصحاب المصلحة المعنيين من جهات حكومية وبحثية وشركات تعمل في قطاع الطاقة.
تطبيقات الذكاء الاصطناعي في تحوّل الطاقة:
يُسهم الذكاء الاصطناعي في إيجاد حلول للعديد من التحديات التي تواجه تحوّل الطاقة، مثل التكلفة المرتفعة، ومستوى الانبعاثات الكربونية العالية، ومركزية شبكات الطاقة الكبرى، وصعوبة ضمّ مصادر الطاقة المتجددة إلى شبكة الكهرباء؛ بهدف تقليل الوقت والجهد وخفض التكاليف التشغيلية وبذلك تعزيز فرصة النمو لقطاع الطاقة.
وتتمثل أبرز إسهامات الذكاء الاصطناعي في تعزيز رحلة انتقال الطاقة في الآتي:
- ترشيد استهلاك الطاقة وتقليل التكلفة:
تُقدّر بلومبيرغ نيو إنيرجي فاينانس (BloombergNEF) أن تحقيق صافي انبعاثات صفرية في قطاع الطاقة وحده يحتاج إلى ما بين (92) تريليون دولار و(173) تريليون دولار من استثمارات البنية التحتية بحلول عام (2050)، وبدوره يستطيع الذكاء الاصطناعي خفض هذه التكلفة بمليارات الدولارات بتمكين كفاءة أكبر في استخدام الطاقة. فعلى سبيل المثال، يمكن استخدام التعلم الآلي لتحليل أنماط استهلاك الطاقة في المنازل، مثل كيفية تشغيل وسائل التدفئة والتبريد، ثم تقدّم التقارير والمقترحات للمستهلك من أجل تحسين كفاءة استخدام الطاقة بشكلٍ مبسّط.
وأحد أبرز النماذج لهذا التوجّه هو عمل مركز الذكاء الاصطناعي للطاقة بالتعاون مع الجهات الحكومية مثل المركز السعودي لكفاءة الطاقة، والجهات الخاصة مثل شركة ترشيد والشركة السعودية للكهرباء، على تحليل أنماط استهلاك الطاقة في المساجد، الذي من شأنه أن يسهم في رفع كفاءة استهلاك الطاقة دون المسّ براحة المصلين وسكينتهم.
- مراقبة انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون:
أشاد المنتدى الاقتصادي العالمي بالدور المهم للتقنيات الرقمية في تقليل انبعاثات الكربون؛ حيث يمكن للذكاء الاصطناعي المساهمة بشكلٍ كبير في هذه العملية؛ إذ يمكنه قياس تركيبة الغازات الدفيئة المنبعثة في الغلاف الجوي بدقة عالية باستخدام البيانات الدقيقة، ما سيحقق أثراً في تطوير وقياس كفاءة حلول إدارة الانبعاثات وإزالتها.
وقد أبرم مركز الذكاء الاصطناعي للطاقة عدة اتفاقيات تسهم في تطوير حلول الذكاء الاصطناعي في قطاع الطاقة، مثل توقيع اتفاقية مع شركة آي بي إم (IBM) لتسريع تبنّي نهج الاقتصاد الدائري للكربون باستخدام الذكاء الاصطناعي؛ إذ ستستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي وصور الأقمار الصناعية للكشف عن انبعاثات الكربون ومصادرها، بهدف إدارتها وتقليلها في نهاية المطاف في أنحاء المملكة كافة.
- الشبكة الذكية:
الشبكة الذكية هي نهج جديد لشبكات كفاءة الطاقة؛ إذ تستبدل العمليات اليدوية بالذكاء الاصطناعي؛ ما يؤدي إلى كفاءة عالية وموثوقية وتكاليف منخفضة، ويمزج نظام الشبكة الذكية العديد من التقنيات مثل الذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء، والبيانات الضخمة، والاستشعار الرقمي، وتقنيات التحكم والأجهزة الميدانية، كما تشرف هذه الشبكات على كل مرحلة من مراحل سلسلة الطاقة، من التوليد إلى الاستهلاك، ويمكنها بذكاء توقُّع المشكلات واكتشافها وتحليلها وتصحيحها في كل مرحلة.
كما عمل مركز الذكاء الاصطناعي للطاقة -بالتعاون مع شركة سيمنز أدفانتا (Siemens Advanta) وحدة أعمال شركة سيمنز للاستشارات والتنفيذ للتحوّل الرقمي- على عدد من المشاريع، منها تحديد كمية الفقد المتوقع في شبكات نقل الكهرباء بشكلٍ استباقي يساعد على خفض الخسائر والتكلفة التشغيلية، بالإضافة إلى عمل فريق المركز -بالتعاون مع الفريق البحثي في المركز الوطني للذكاء الاصطناعي والشركة السعودية للكهرباء- على تطوير حلول مبتكرة باستخدام الذكاء الاصطناعي وبيانات العدادات الذكية قادرة على تقدير المبلغ المتوقع لفاتورة الشهر المقبل بناءً على نمط استهلاك الطاقة الحالي، إضافة إلى تطوير حلٍّ قادرٍ على تحديد حجم استهلاك كل جهاز بالمنزل باستخدام بيانات العداد الذكي، دون الحاجة إلى تركيب أيّ مستشعرات إضافية.
- تكامل مصادر الطاقة المتجددة:
يُسهم الذكاء الاصطناعي في تقديم التنبؤات الأكثر دقة لمصادر الطاقة المتجددة، وتحديد المناطق ذات الإمكانات الأعلى في تطوير الطاقة المتجددة، مثل ألواح الطاقة الشمسية والرياح، ويساعد ذلك على تحديد الطاقة الإنتاجية المتوقعة مستقبلاً من مصادر الطاقة المتجددة، ما يسهم في تحسين عمليات تخطيط الطاقة.
وفي ضوء ذلك، يعمل مركز الذكاء الاصطناعي للطاقة -بالتعاون مع شركة المشتري الرئيسي- على تنبؤ كميات الطاقة الشمسية المنتجة في محطة سكاكا، وكميات طاقة الرياح المنتجة في محطة دومة الجندل، ما يحسّن تخطيط العرض والطلب على الطاقة وتوفيرها بالشكل الأمثل.