تعرف على العلم الجديد الذي يُدعى الطب النفسي الحسابي

4 دقائق

يخضع الطب النفسي -الذي يُعنى بدراسة الاضطرابات العقلية والوقاية منها- لثورة هادئة في الوقت الحالي؛ حيث يستند هذا المجال الطبي منذ عقود -بل منذ قرون- على الرصد غير الموضوعي إلى حد كبير، فقد كان من الصعب إجراء دراسات واسعة النطاق بسبب صعوبة تقييم السلوك البشري بشكل موضوعي ومن ثم مقارنته مع سلوكٍ نموذجي ثابت، وبنفس المستوى من الصعوبة، فإنه لا توجد سوى نماذج قليلة صحيحة من الدارات العصبية أو الكيمياء الحيوية في الدماغ، ومن الصعب ربط هذا العلم بالسلوك في الحياة اليومية.

وبدأ هذا الأمر يتغيَّر بفضل المجال الجديد الذي يُسمى الطب النفسي الحسابي، والذي يعتمد على التحليل القوي للبيانات وتعلُّم الآلة والذكاء الاصطناعي من أجل استكشاف العوامل الأساسية التي تكمن وراء السلوكيّات المتطرفة وغير المعتادة.

وقد أتاح الطب النفسي الحسابي فجأة إمكانية التنقيب في بيانات الرصد طويلة الأمد وربطها بالنظريات الحسابية للإدراك، كما أصبح من الممكن أيضاً تطوير التجارب التي تعتمد على الكمبيوتر، والتي يتمّ فيها التحكم في البيئات بدقة بحيث يمكن دراسة بعض السلوكيات المحدَّدة بالتفصيل.

يقوم حوالي 10% من الذين يعانون من اضطراب الشخصية الحدِّية بالانتحار.

كيف سيؤثر هذا العلم الجديد على فهم الباحثين للأمراض العقلية؟ يمكننا الآن أن نحصل على الإجابة نوعاً ما، وذلك بفضل البحث الذي أجرته سارة فاينبرج وزملاؤها في جامعة ييل في نيو هيفن.

تستعرض فاينبرج وزملاؤها الأثر الذي يُحدثه الطب النفسي الحسابي على دراسة اضطراب الشخصية الحدِّية؛ وهو حالة يعاني منها ما يقرب من 2% من الناس، ويُظهرون أن هذا المجال يؤثر تأثيراً كبيراً على الطريقة التي يقوم بها اختصاصيو الصحة العقلية بدراسة هذا المرض وتشخيصه.

ويتميز اضطراب الشخصية الحدِّية بعدم القدرة على تشكيل علاقات مستقرة وباضطراب الشعور بالذات والمشاعر، كما يكون المصابون بهذا المرض أكثر عرضة لإيذاء أنفسهم، بل إن نسبة 10% منهم يُقدِمون على الانتحار.

ولا يزال سبب اضطراب الشخصية الحدِّية غير معروف، ولكن يبدو أن هناك دوراً لمجموعة واسعة من العوامل الجينية والبيئية والاجتماعية؛ ونتيجة لذلك فإن تمييز هذه الحالة المرضية لا يزال يمثِّل تحدياً، ولكن الطرق الحسابية قد بدأت تساعد فيه.

ومن الأمثلة الجيدة على ذلك اللعبة الحاسوبية سايبربول (Cyberball)، والتي تقيس مستوى الرفض الاجتماعي؛ حيث تتضمَّن اللعبة ثلاثة لاعبين مبرمجين يمررون الكرة ذهاباً وإياباً على الشاشة، ويتحكَّم المشارك في أحد اللاعبين، معتقداً أن هناك شخصيْن آخريْن يتحكمان في اللاعبيْن الآخريْن، لكن -وفي الواقع- يتم التحكم في هذيْن اللاعبيْن بواسطة الحاسوب.

وإحدى الخصائص الرئيسية لهذه اللعبة هي أن الباحثين يمكنهم التحكم في عدد المرات التي يتلقى فيها المشارك الكرة دون علمه، وتقول فاينبرج وزملاؤها: "إن من الممكن إثارة مشاعر الرفض الاجتماعي من خلال تغيير النسبة المئوية لمرات تمرير الكرة إلى المشارك".

وفي أسوأ الحالات يمرِّر الشخص الكرة إلى أحد اللاعبيْن الآخريْن، ثم يقومان بتمريرها فيما بينهما حتى بقية اللعبة، وتقول فاينبرج وزملاؤها: "إن هذه التجربة تثير الحزن والغضب خلال ست جولات من اللعب"، ويسمح ذلك للباحثين بدراسة كيفية اختلاف هذه المشاعر بين أولئك الذين يعانون من اضطراب الشخصية الحدِّية والذين لا يعانون منه.

وقد اتضح أن كلا المجموعتين تُبديان مشاعر متشابهة، لكن الأشخاص الذين يعانون من هذا الاضطراب يُظهرونها بشكل أشد بكثير، أما الأمر الأكثر إثارة للاهتمام فهو أن الذين يعانون من اضطراب الشخصية الحدِّية يشعرون بالاستبعاد عندما يتلقون الكرة عدداً مقبولاً من المرات، حتى عندما يقومون بتقييم هذا العدد بدقة؛ تقول فاينبرج وزملاؤها: "إن المشاعر السلبية تنخفض -ولكنها لا تزول بالكامل- عندما يتلقى أولئك الذين يعانون من اضطراب الشخصية الحدِّية الكرة أكثر من أي لاعب آخر".

ويوفِّر الواقع الافتراضي مكاناً آخر يمكن فيه دراسة السلوك ضمن ظروف خاضعة للسيطرة الدقيقة، ففي هذه الدراسة مثلاً، يتحكم المشارك في اللاعب في بيئة افتراضية ثلاثية الأبعاد أثناء تفاعله مع لاعب آخر، وهذا يسمح للباحثين بدراسة السلوكيات بين الأشخاص، مثل تنظيم المسافة واتجاه النظر ووضعية الجسم.

وقد أظهر المشاركين -عند سؤالهم- تفاصيل مختلفة حول سلوك اللاعب الآخر، وانتهوا أحياناً إلى نتائج غريبة؛ حيث تقول فاينبرج وزملاؤها: "إن إحدى المجموعات ادَّعت خلال التجربة أن اللاعب الثاني كان يتم التحكم فيه بواسطة الشريك العاطفي للمشارك".

كما أن أحد المجالات التي يكون فيها لتعلُّم الآلة تأثير كبير هو مجال علم اللغويات، وقد بدأت الاكتشافات في هذا المجال تدعم الطب النفسي؛ فهناك منذ فترة طويلة أدلةٌ غير مؤكدة على أن الذين يعانون من اضطراب الشخصية الحدِّية يستخدمون اللغة بطرق معينة غير معتادة، إلا أن من الصعب قياس هذا الأمر، ولكن معالجة اللغة الطبيعية تمثل إحدى طرق القيام بذلك.

تقول فاينبرج وزملاؤها: "لقد قمنا -نحن وغيرنا- بتحديد الخصائص اللغوية التي تميِّز الحالات والصفات النفسية"، وهذا يعد أداة قويَّة لنا، ويضيف الباحثون: "إن النماذج الحسابية التي تعتمد على أنماط استخدام الكلمات يمكنها أن تتنبأ بالأشخاص المصابين بالذهان أو الذين سيصابون به؛ وذلك اعتماداً على كتاباتهم"، كما أن الأساليب الحسابية الأخرى لديها القدرة على توفير رؤية أوضح بكثير لنطاق السلوكيات المقبولة وغير المقبولة.

وإن الأمر الصعب في فهم النطاقات الطبيعية للسلوك هو تطويع عدد كبير من المشاركين في الدراسة، لكنه أصبح أكثر سهولة في الآونة الأخيرة بفضل خدمات التعهيد الجماعي؛ وذلك مثل السوق الإلكترونية "ميكانيكال تورك" التابعة لأمازون، والتي تتيح للمستخدمين المشاركةَ في مهام تتطلب الذكاء البشري، كما يُعد المشاركون في هذه السوق -في الولايات المتحدة- أكثر تنوعاً من طلاب الجامعات (وهم المشاركون الأساسيون في العديد من الدراسات السلوكية، على الرغم من أنهم لا يمثلون المجتمع كله)، إضافة إلى أن من الممكن إعادة التواصل معهم من أجل الدراسات التي تتطلَّب المتابعة.

وبسبب الأعداد الهائلة التي يمكن الوصول إليها بهذه الطريقة -وبتكلفة منخفضة نسبياً- فإن مثل هذا التعهيد الجماعي يمكنه أن يغيِّر من فهم الاضطرابات العقلية؛ تقول فاينبرج وزملاؤها: "قد تكون سوق ميكانيكال تورك مكاناً جيداً لاختبار فرضيات البحث عند الذين يعانون من اضطراب الشخصية الحدِّية والخصائص المرتبطة به، وخاصة تلك التي لا تستدعي العناية السريرية".

وإن الصورة الشاملة التي يرغب الباحثون في إيصالها هي أن مجال الطب النفسي يتغيَّر بفضل التأثير الانتقالي لقوة المعالجة، ولهذا الأمر تأثيرات كبيرة؛ فعندما تحدث الثورات في مجال العلم، يكون من السهل عادةً الحصول على المكاسب، وهذا ما يجعل الطب النفسي الحسابي مجالاً مثيراً للدراسة، وبالتالي يصير جاذباً للاهتمام، وحينئذ عليك أن تتوقع حدوث اكتشافات جديدة ومهمة نتيجة لذلك.