هل الذكاء الاصطناعي المسؤول عن تسريح الموظفين؟ أم وراء الأكمة ما وراءها؟

3 دقيقة
تسريح الموظفين
shutterstock.com/Summit Art Creations
  • تغير منطق النمو لدى الشركات خلال العقد الأخير، فلم يعد التوظيف المكثف دليلاً على النجاح.
  • سابقاً، كانت الشركات تزيد أعداد موظفيها لإقناع المستثمرين بالنمو، على الرغم من ضعف الحاجة الفعلية إلى بعض الوظائف.
  • مع ارتفاع الفوائد وتراجع التمويل السهل، أصبح التركيز على الكفاءة …

شهد العقد الماضي تحولاً جذرياً في الكيفية التي تعبر بها الشركات عن نموها أمام المستثمرين. لسنوات مضت، كان توظيف عدد أكبر من الموظفين يعد دليلاً مباشراً على التوسع، بل شكل استراتيجية ترويجية صريحة: كلما زاد التوظيف، زادت قدرة الشركة على إقناع السوق بأنها تنمو. غير أن هذا المنطق، وإن كان مفهوماً في ظل وفرة السيولة وسهولة التمويل، أدى إلى تضخم واضح في أعداد الموظفين، لم يكن كثير منهم يشغلون موقعاً إنتاجياً حقيقياً بقدر ما كانوا يسهمون في بناء سردية النمو. وقد ظلت هذه الآلية فعالة حتى توقف المستثمرون عن تمويل التوسع الأعمى، وبدؤوا بالمطالبة بالكفاءة لا الكثرة، وبالربحية لا التضخم.

من التوسع بالتوظيف إلى رفع الكفاءة

وقد بدأت الشركات مع ظهور الذكاء الاصطناعي وتحول الاهتمام الاستثماري نحوه بإعادة صياغة سردها للمستثمرين. لم يعد من الممكن اعتبار زيادة عدد الموظفين مؤشراً على النجاح، بل صار خفض التكاليف، خصوصاً تكاليف الموظفين، مؤشراً جديداً على جدوى الاستثمار. غير أن المسألة لا تتعلق فقط بإحلال الذكاء الاصطناعي محل البشر، كما يُروّج أحياناً، بل بتصحيح مسار توظيفي سابق كان قد تجاوز الحاجة الفعلية، واستُخدم بالأساس لأغراض تسويقية واستثمارية.

توضح الاعترافات الصريحة لبعض الشركات الكبرى هذا التحول. شركة سترايب، على سبيل المثال، خفضت قوتها العاملة بنسبة 14%، وصرحت بأنها "بالغت في التوظيف بالنسبة إلى العالم الذي نحن فيه"، وهو اعتراف ضمني بأن التوظيف المفرط لم يكن دائماً مدفوعاً بالحاجة التشغيلية. كذلك، اعترف الرئيس التنفيذي لشركة شوبيفاي بأن الرهان على استمرار الطفرة في التجارة الإلكترونية كان خاطئاً، ما يسوغ التقليصات الكبيرة التي شهدتها الشركة بين عامي 2022 و2023.

وقد أسهمت الظروف الاقتصادية في تغيير منطق المكافأة مساهمة حاسمة. فمع ارتفاع أسعار الفائدة وانتهاء عصر الأموال الرخيصة، تحولت شهية المستثمرين من تمويل التوسع اللامحدود إلى التركيز على اقتصاديات الوحدة والربحية. ولم تعد الشركات قادرة على تسويغ نموها من خلال تعيين موظفين جدد فحسب، بل صارت مطالبة بإثبات قدرتها على إنتاج قيمة مضافة عبر إدارة أكثر رشداً للموارد.

إعادة هيكلة الاستثمار عبر الذكاء الاصطناعي

وقد ظهر هذا التحول جلياً في مواقف شركات التكنولوجيا الكبرى. وكدليل على ذلك، أطلقت شركة ميتا على عام 2023 وصف "عام الكفاءة"، مع موجات متتابعة من تسريح الموظفين وتصريحات علنية عن مضاعفة الاستثمارات في الذكاء الاصطناعي. بالمثل، أجرت جوجل تخفيضات في بعض الأقسام غير الأساسية، معلنة أنها "تعيد توجيه الإنفاق" نحو البنية التحتية للبيانات وابتكارات الذكاء الاصطناعي، وهو ما يربط مباشرة بين سياسات التقشف وتوجهات الاستثمار المستقبلية.

لقد أضحت الرسائل الموجهة إلى المستثمرين أكثر وضوحاً: الذكاء الاصطناعي وسيلة لتقليص التكاليف ورفع الإنتاجية.

أعلنت شركة آي بي إم تجميد التوظيف في بعض الوظائف الإدارية والداعمة التي يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحل محلها تدريجياً، وقدّر رئيسها التنفيذي إمكانية أتمتة نحو 30% من هذه الوظائف خلال خمس سنوات، أما شركة يو بي إس (UPS)، فعلى الرغم من كونها ليست شركة تقنية بحتة، فقد خفضت 12 ألف وظيفة ضمن خطة لتوفير نحو مليار دولار، مؤكدة أن الأتمتة تمثل خياراً استراتيجياً أساسياً.

اللافت أن ميزانيات الذكاء الاصطناعي، على الرغم من سياسة التقشف العامة، لا تزال محمية بل وتُمنَح الأولوية. وقد أظهرت استطلاعات مؤسسة غارتنر أن 90% من المدراء الماليين زادوا موازنات الذكاء الاصطناعي عام 2024، ما يعكس قناعة متزايدة لدى صناع القرار بأن هذه التقنية تشكل رافعة حقيقية للإنتاجية. وحتى مع التحذيرات المتكررة من تضخيم التوقعات، لا تزال الإدارة المالية في الشركات الكبرى تعد الذكاء الاصطناعي أداة استثمارية لا يمكن المساس بها.

على صعيد آخر، يقدر تحليل شركة ماكنزي أن الأتمتة (بما في ذلك أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدية) يمكن أن تشمل ما بين 60% و70% من أنشطة العمل الحالية أو أن تنطوي عليها، ما يعزز الرواية الاستثمارية التي تربط خفض التكلفة البشرية بإعادة توزيع رأس المال نحو ابتكارات أكثر إنتاجية.

موجات تسريح أم تصحيح وظيفي؟

من المهم في هذا السياق فهم أن موجات التسريح التي نشهدها اليوم لا تعكس استبدالاً فورياً شاملاً للموظفين بالذكاء الاصطناعي، بل تندرج في إطار تصحيح وظيفي متأخر يلتقي مع متطلبات السوق المالية الحديثة. فالعديد من الفرق الوظيفية التي جرى تقليصها لم تكن ذات إنتاجية كافية، بل خُلقت في الأصل لخدمة سردية "النمو عبر التوظيف". والآن، بعد تغير شروط التمويل وتحول موازين المكافأة، تعمد الإدارات إلى الربط بين خفض هذه الفرق وبين استثمارات الذكاء الاصطناعي لإظهار التزامها بتحقيق ربحية أعلى وتكلفة أقل. تدعم التقارير المهنية هذا المنطق، إذ تظهر أن ميزانيات الذكاء الاصطناعي لم تُمس رغم تقليصات أوسع، ما يعني أن هذه الاستثمارات توظف لإقناع المستثمرين بجدوى الكفاءة المستقبلية.

أعتقد أنه من المهم قراءة التحول الحاصل في سلوك الشركات باعتباره تحولاً في "لغة الإقناع" أمام المستثمرين. بعد أن كان الخطاب قائماً على "سنوظف أكثر، إذاً نحن ننمو"، بات يُختصر الآن في "سنستثمر في الذكاء الاصطناعي، وسنُثبت جدواه من خلال خفض فاتورة الرواتب". ما نشهده اليوم هو مزيج بين تصحيح توظيفي موروث ورسالة كفاءة مستقبلية، وليس بالضرورة تطبيقاً مباشراً لمعادلة إحلال الآلة محل الإنسان. هذا التحول مدعوم باعترافات علنية من كبار التنفيذيين، وتحولات كبرى في أسواق التمويل، وقرارات دقيقة بإعادة توزيع النفقات على الذكاء الاصطناعي، لا التوسع الوظيفي.

المحتوى محمي