من المعروف أن مؤسسة واي كومبينايتور (Y Combinator) الداعمة للشركات الناشئة تقوم بدعم الشركات الجريئة في برنامجها التدريبي الشهير الذي يستمر لمدة ثلاثة أشهر. ولكن لم يكن هناك أي شركة على الإطلاق مماثلة لشركة نكتوم (Nectome).
وفي "يوم العروض" الذي أجرته شركة واي كومبينايتور في شهر مارس، كان من المخطط أن يقوم روبرت ماكنتاير - مؤسس شركة نكتوم - بوصف تقنيته لحفظ الأدمغة بالتفاصيل المجهرية وذلك باستخدام عملية تحنيط عالية التقنية. وبعد ذلك، سيبدأ هذا الخرّيج من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بطرح أعماله التجارية. وكما يقول على موقعه على الإنترنت: "ماذا لو قلنا لك بأنه يمكننا أن نحفظ عقلك؟"
نعم، فشركة نكتوم متخصصة بحفظ الدماغ وتخزينه. ويمكن لمحلولها الكيميائي أن يحافظ على سلامة الجسم لمئات السنين - وربما الآلاف – وذلك على هيئة تمثال من الزجاج المتجمد. وتكمن الفكرة في أن يقوم العلماء يوماً ما في المستقبل بفحص دماغك المتجمّد وتحويله إلى محاكاة بواسطة الكمبيوتر. وبهذه الطريقة، سيتمكّن شخص يشبهك كثيراً - ولكن لست أنت – من شمّ الأزهار مرة أخرى في أحد خوادم البيانات في مكان ما.
إلا أن هذه القصة لديها جانب مخيف. فلكي ينجح إجراء شركة نكتوم، من الضروري أن يكون الدماغ حديثاً. وتقول الشركة إن خطتها هي ربط الأشخاص المصابين بالأمراض العضال إلى جهاز القلب والرئتين الاصطناعي من أجل ضخ مزيجها من المواد الكيميائية التحنيطية العلمية في الشرايين السباتية الكبيرة في أعناق المرضى وهم لا يزالون على قيد الحياة (على الرغم من أنهم تحت التخدير العام).
وقد تشاورت الشركة مع المحامين المطّلعين على قانون خيار إنهاء الحياة المعمول به في ولاية كاليفورنيا منذ عامين - والذي يسمح بالانتحار بمساعدة الطبيب للمرضى المصابين بالأمراض العضال - وتعتقد بأن خدماتها ستكون قانونية. ويقول ماكنتاير بأن المنتج "مميت بنسبة 100٪. ولهذا السبب تم اختيارنا بشكل فريد من بين الشركات التي تدعمها واي كومبينايتور."
هناك قائمة انتظار
يعدّ حفظ الدماغ أمراً مألوفاً لقرّاء كتب المؤلف ريموند كرزويل أو غيرها من المؤلفات المستقبلية. وقد تكون مقتنعاً بأن البقاء إلى الأبد على شكل برنامج كمبيوتر سيحدث في المستقبل بالتأكيد. أو قد تعتقد بأن حركة ما بعد الإنسانية - المصطلح الشامل لمثل هذه الأفكار - هي مجرد معتقد متطوّر التقنيات ويستغل خوف الناس من الموت.
في كلتا الحالتين، يجب عليك الانتباه إلى نكتوم. فقد فازت الشركة بمنحة فيدرالية كبيرة وتعمل بالتعاون مع إدوارد بويدن - وهو عالم أعصاب بارز في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا - وقد استحقت تقنيتها جائزة علمية قيمتها 80 ألف دولار بسببها حفظها لدماغ الخنزير بشكل جيد بحيث يمكن رؤية كافة المشابك داخله باستخدام المجهر الإلكتروني. وكان عالم الكمبيوتر ماكنتاير وشريكه المؤسس مايكل ماكانا يتابعان منشورات تك إنتربرونورز هاندبوك (tech entrepreneur’s handbook) بلهفة. ويقول: "إن تجربة المستخدم ستكون مماثلة للانتحار بمساعدة الطبيب. ويتناسب سوق المنتج مع الأشخاص الذي يؤمنون بنجاحه."
طبقات الخلايا والمشابك العصبية لدماغ الخنزير المحفوظ كما يُرى من بالمجهر الإلكتروني. يعتقد البعض بأن رسم مثل هذه الخرائط للمشابك العصبية يمكن أن يستخدم لإعادة تشكيل الذكريات. حقوق الفيديو: مؤسسة الحفاظ على الدماغ (The Brain Preservation Foundation)
إن خدمة حفظ الدماغ من شركة نكتوم ليست معروضة للطلب حتى الآن، وقد لا تصبح كذلك قبل عدة سنوات. كما لا يزال هناك نقص في الأدلة على إمكانية تواجد الذكريات في الأنسجة الميتة. ولكن الشركة وجدت طريقة لاختبار السوق. فبنفس الأسلوب الذي اتبعته شركة تيسلا لصناعة السيارات الكهربائية، تقوم نكتوم بتقدير الطلب من خلال دعوة العملاء المحتملين للانضمام إلى قائمة الانتظار مقابل مبلغ 10 آلاف دولار قابلة للاسترداد بالكامل إذا غيّر الشخص رأيه.
قام 25 شخصاً بذلك حتى الآن. ومن بينهم سام ألتمان - وهو مستثمر يبلغ من العمر 32 عاماً، كما أنه أحد مؤسسي برنامج واي كومبينايتور. ويقول ألتمان في حديثه إلى إم آي تي تكنولوجي ريفيو بأنه متأكد من حدوث التحويل الرقمي للعقول خلال حياته. ويضيف: "أفترض بأن دماغي سيتم تخزينه في وسائط التخزين السحابية."
فكرة قديمة بأسلوب جديد
لا تعدّ الأعمال التجارية المتعلقة بحفظ الدماغ جديدة. ففي ولاية أريزونا، تحتفظ مؤسسة ألكور لايف إكستنشن فاوندايشن (Alcor Life Extension Foundation) بأكثر من 150 جثة ورأساً في النيتروجين السائل، بما في ذلك جسم لاعب البيسبول العظيم تيد ويليامز. ولكن هناك جدل حول ما إذا كانت تقنيات الحفظ بالتبريد تتلف الدماغ، وربما قد يتعذّر إصلاحه.
وبعد ذلك بعدّة سنوات، قام ماكنتاير - الذي عمل فيما بعد مع عالم الأحياء المتخصص بالتبريد العميق جريج فاهي في شركة تدعى توينتي فيرست سينتشري ميديسين (21st Century Medicine) - بتطوير طريقة مختلفة تجمع بين التحنيط والتبريد، والتي أثبتت فعاليتها في الحفاظ على الدماغ بأكمله بالمستوى النانومتري، بما في ذلك شبكة المشابك التي تربط بين الخلايا العصبية.
يمكن أن تكون خريطة المشابك العصبية هي الأساس لإعادة تشكيل وعي الشخص، كما يعتقد كين هايوورث - عالم الأعصاب الذي يرأس مؤسسة الحفاظ على الدماغ (The Brain Preservation Foundation)، وهي المنظمة التي قامت في 13 مارس بتقدير جهود كل من ماكنتاير وفاهي بمنحهما جائزة بسبب قيامها بحفظ دماغ الخنزير.
وليس هناك أي احتمال هنا لإمكانية عودة الأنسجة المحفوظة إلى الحياة، كما تأمل تقنيات الحفظ بالتبريد التي تجريها بعض الشركات على غرار مؤسسة ألكور. وبدلاً من ذلك، فإن الفكرة هي استرجاع المعلومات الموجودة في التفاصيل الجزيئية والتشريحية للدماغ.
ويقول هايوورث: "إن الدماغ الميت يشبه جهاز الكمبيوتر الذي تم إيقاف تشغيله، ولكن هذا لا يعني أن المعلومات ليست موجودة". وتعدّ شبكة المشابك العصبية في الدماغ معقدة بشكل لا يمكن تصوره، إذ يمكن لعصب واحد أن يرتبط بـ 8 آلاف عصب آخر، ويحتوي الدماغ على مليارات الخلايا. وفي الوقت الحالي، يعتبر تصوير الارتباطات في مليمتر مربع من دماغ الفأر مهمة هائلة. ويقول هايوورث: "ولكن قد يكون ذلك ممكناً خلال 100 سنة. ومن وجهة نظري الشخصية، إذا كنت أعاني من مرض عضال، فمن المرجح أن أختار القتل الرحيم بهذه الطريقة."
دماغ الإنسان
أظهر فريق نكتوم مدى جدية نواياه ابتداءً من يناير 2018، عندما قضى ماكنتاير وماكانا وأحد أخصائيي علم الأمراض الذي قاموا بتوظيفه عدة أسابيع في بورتلاند بولاية أوريغون وهم ينتظرون شراء جسد متوفي حديثاً.
وفي شهر فبراير، حصلوا على جثة تعود لامرأة مسنة وتمكّنوا من البدء في حفظ دماغها بعد 2.5 ساعة فقط من وفاتها. وكان هذا أول دليل على طريقتهم – التي تسمى الحفظ بالتبريد المثبّت بالألدهيد - على دماغ الإنسان. وأكّد فينياس لوبيو – مؤسس شركة أيترنيتاس (Aeternitas) التي تنظّم عملية تبرّع الناس بأجسادهم من أجل العلم - بأنه هو الذي قدّم الجثة لشركة نكتوم. ولم يكشف عن عمر المرأة أو سبب وفاتها، ولم يذكر مدى مسؤوليته.
أجريت عملية الحفظ - التي تستغرق حوالي ست ساعات - في مشرحة. ويقول ماكنتاير: "يمكنك التفكير فيما نقوم به كشكل ممتاز من أشكال التحنيط والذي لا يحافظ على التفاصيل الخارجية فحسب، بل على التفاصيل الداخلية أيضاً". ويقول بأن دماغ تلك المرأة هو "أحد أفضل الأشياء التي تمّ حفظها على الإطلاق"، على الرغم من الضرر الذي لحق به بسبب مرور ساعتين على وفاتها. ولن يتم حفظ دماغها إلى أجل غير مسمى، ولكن يتم تقطيعه إلى شرائح رقيقة وتصويرها باستخدام المجهر الإلكتروني.
يقول ماكنتاير بأن المهمة كان تجريبية لما يمكن أن تبدو عليه خدمة الحفظ في الشركة. ويقول بأنهم يسعون إلى تجربتها في المستقبل القريب على شخص يخطط للانتحار بمساعدة الطبيب جراء إصابته بمرض عضال.
وقال هايوورث بأنه قلق تماماً من أن تمتنع نكتوم عن تقديم خدماتها بشكل تجاري قبل نشر البروتوكول المخطط له في إحدى المجلات الطبية. وهذا يعني أن "المجتمع الطبي والأخلاقي يمكنه إجراء جولة كاملة من المناقشات". ويضيف: "إذا كنت مثلي وتعتقد بأن حفظ العقل هو أمر مؤكد الحدوث، فإن ذلك لا يعدّ مثيراً للجدل. ولكن قد يبدو بأنك تغري شخصاً ما بالانتحار لحفظ دماغه". ويعتقد بأن ماكنتاير يتمكّن "من الحفاظ على التوازن" عن طريق مطالبة الناس بالدفع للانضمام إلى قائمة الانتظار. وفي الواقع، "ربما يكون قد تجاوز الأمر بالفعل".
هل هذا الأمر جنوني أم لا؟
يقول بعض العلماء بأن تخزين الدماغ وإعادة إنعاشه هو في الأساس اقتراح احتيالي. ففي إحدى مقالات إم آي تي تكنولوجي ريفيو في عام 2015، انتقد عالِم الأعصاب في جامعة ماكجيل مايكل هيندريكس "الأمل الزائف الدنيء" الذي يروّج له من قبل حركة ما بعد الإنسانية التي تدّعي الإحياء بطرق لا يمكن للتكنولوجيا تحقيقها على الإطلاق.
وقال هندريكس بعد اطلاعه على الموقع الإلكتروني لشركة نكتوم: "إن إرهاق الأجيال القادمة ببنوك أدمغتنا هو مجرد أمر متعجرف ومثير للسخرية. ألن نتركهم يعانون مما يكفي من المشاكل؟ آمل أن يصاب الناس في المستقبل بالفزع لقيام أغنى الناس وأكثرهم راحة في القرن الواحد والعشرين بإنفاق أموالهم ومواردهم وهم يحاولون العيش إلى الأبد على ظهور أحفادهم. أعني بأنها مزحة، صحيح؟ إنهم كالأشرار في أفلام الكرتون".
إلا أن شركة نكتوم تلقت دعماً كبيراً لتقنيتها. فقد جمعت حتى الآن مليون دولار من التمويل، بما في ذلك مبلغ 120 ألف دولار الذي تقدمه واي كومبينايتور لجميع الشركات التي تقبلها. كما فازت بمنحة فدرالية قيمتها 960 ألف دولار أمريكي من المعهد القومي للصحة العقلية في الولايات المتحدة من أجل "الحفظ والتصوير النانوي لكامل الدماغ"، وتدلّ هذه العبارة على "فرصة تجارية لتوفير حفظ الدماغ" لأغراض تشمل الأبحاث الدوائية.
ويتم إنفاق حوالي ثلث أموال المنحة في مختبر إدوارد بويدن - وهو عالم أعصاب مشهور – في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. ويقول بويدن بأنه يسعى إلى دمج إجراءات الحفظ التي طوّرها ماكنتاير مع تقنية الفحص المجهري التوّسعي التي ابتكرها معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وهي تؤدي إلى تضخم أنسجة الدماغ إلى 10 أضعاف أو 20 ضعفاً من حجمها الطبيعي، الأمر الذي يسهّل بعض أنواع القياسات. وعند سؤال بويدن عن رأيه في حفظ الدماغ كخدمة، أجاب في رسالة إلكترونية: "أعتقد بأنه طالما هم على دراية بما نعرفه وما لا نعرفه، فإن حفظ المعلومات في الدماغ قد يكون أمراً مفيداً للغاية".
وبطبيعة الحال، فإن المجاهيل كثيرة. فبالإضافة إلى أنه لا أحد يعرف ما هو الوعي (لذا سيكون من الصعب معرفة ما إذا كانت المحاكاة النهائية ستحتوي على أي وعي)، فإنه ليس من الواضح أيضاً ما هي بنى الدماغ والتفاصيل الجزيئية التي يجب الاحتفاظ بها لحفظ الذاكرة أو الشخصية. فهل هي نقاط الاشتباك العصبي فقط، أم كافة الجزيئات العابرة؟ يقول بويدن: "للإجابة على هذا السؤال في النهاية، لا بدّ من وجود بيانات".
يوم العروض
قامت شركة نكتوم بتنقيح عرضها من أجل أيام العروض التي تقيمها واي كومبينايتور، في محاولة لإنشاء ملخص دقيق لأفكارها لمدة دقيقتين لتقديمه أمام مجموعة من نخبة المستثمرين. كان الفريق يميل إلى عدم عرض صورة لدماغ المرأة المسنة. حيث يعتقد بعض الناس بأنه أمر مزعج. كما تخلت الشركة عن شعارها، إذ غيّرته من "نحن نحفظ عقلك" إلى "إننا ملتزمون بهدف حفظ عقلك"، والذي بدا أقل مبالغة في الوعود.
ويرى ماكنتاير شركته بين الشركات الناشئة والقائمة على "العلوم الطبيعية" التي تعمل على حلّ المشاكل الصعبة مثل الحوسبة الكمومية. ويقول: "لا تستطيع هذه الشركات أيضاً أن تبيع أي شيء الآن، ولكن هناك الكثير من الاهتمام بالتقنيات التي يمكن أن تكون ثورية إذا كانت فعّالة. وأعتقد بأن لحفظ الدماغ إمكانات تجارية مذهلة."
كما أنه يضع في اعتباره القول المأثور بأنه يجب على روّاد الأعمال تطوير المنتجات التي يريدون استخدامها بأنفسهم. ويرى أسباباً جيدة لحفظ نسخة من نفسه في مكان ما، بالإضافة إلى نسخ من غيره من الأشخاص أيضاً. وقال ماكنتاير: "هناك الكثير من النقاش الفلسفي، ولكن بالنسبة لي فإن المحاكاة قريبة بما فيه الكفاية، وهذا الأمر له قيمته. كما أن هناك جانب إنساني أكبر بكثير لهذا الأمر برمّته. ففي الوقت الحالي، عندما يموت جيل من الناس، فإننا نخسر كل حكمتهم الجماعية. يمكنك نقل المعرفة إلى الجيل التالي، ولكن من الصعب نقل الحكمة التي يتم تعلّمها. ويجب أن يتعلّم أطفالك من نفس الأخطاء".
"كان ذلك جيداً لبعض الوقت، ولكننا نصبح أكثر قوة في كل جيل. تزداد الإمكانات الهائلة لما يمكننا القيام به، ولكن الحكمة ليست كذلك".