غالباً ما يكمن القصور الهيكلي لأطر مكافحة الجرائم المالية القديمة في بنيتها الثابتة والتفاعلية، فعلى مدى عقود اعتمدت المؤسسات المالية على أنظمة معالجة قائمة على قواعد وأنماط تعمل وفق منطق ثنائي وخطوات محددة مسبقاً، وهو ما مكن مجرمي الإنترنت من التكيف معها على مر السنين.
فبحسب تقرير شركة ناسداك العالمي عن الجرائم المالية لعام 2024 فإن نحو 3.1 تريليون دولار من الأموال غير المشروعة قد تداولت داخل النظام المصرفي العالمي عام 2023، وهو ما يؤكد حقيقة أن أنظمة كشف الاحتيال التقليدية أصبحت غير قادرة على مجاراة سرعة الجرائم المالية الحديثة وتعقيدها وقدرتها على التكيف.
وتواجه منصات التكنولوجيا المالية ضغوطاً خاصة، إذ إن ميزتها الأساسية -السرعة وسهولة الوصول- هي أيضاً نقطة ضعفها الأكبر، حيث تكشف المعاملات الرقمية التي تجرى في أجزاء من الثانية عن ثغرات في أنظمة المراقبة القديمة، ما يمكن مجرمي الإنترنت من استغلالها بكفاءة عبر طرق الهجمات المدعومة بالذكاء الاصطناعي التي تتطور بوتيرة أسرع من قدرة المحللين البشريين على الاستجابة لها.
كيف تكشف الأدوات المدعومة بالذكاء الاصطناعي عن الجرائم المالية بفاعلية أكبر؟
يحدث الذكاء الاصطناعي تحولاً جذرياً في استراتيجية شركات التكنولوجيا المالية السيبرانية الدفاعية، إذ يحول التركيز من "ماذا" حدث إلى "كيف" و"لماذا" يحدث من خلال استخدام العديد من التقنيات مثل:
التقييم التنبؤي للمخاطر وتحديد السمات السلوكية
يعد التقييم التنبؤي للمخاطر جوهر استراتيجية مكافحة أساليب الجرائم المالية المدعومة بالذكاء الاصطناعي. فعلى عكس التصنيف الثنائي التقليدي، تعين أنظمة الذكاء الاصطناعي درجة احتمالية ديناميكية لكل عميل ومعاملة وتحدد خطاً أساسياً للسلوك الطبيعي لكل مستخدم على حدة، مع مراعاة عوامل مثل تكرار المعاملات، والموقع الجغرافي، وبصمة الجهاز، وسرعة الإنفاق المعتادة.
عند حدوث انحراف مثل معاملة غير معتادة في الساعة الثالثة صباحاً من جهاز جديد أو زيادة مفاجئة في التحويلات ذات القيمة العالية، يصدر النظام تنبيهاً فورياً بناءً على هذا الانحراف.
تحليل الشبكات القائم على الرسوم البيانية وكشف الروابط
تعد عمليات غسيل الأموال من أكثر الجرائم المالية تأثيراً، وفي جوهره هو جريمة قائمة على الشبكات، حيث تتضمن طبقات من الشركات الوهمية والحسابات الوسيطة لإخفاء مصدر الأموال، وهنا تتفوق تقنية تحليلات الرسوم البيانية في تصوير هذه العلاقات وتحليلها.
فمن خلال رسم خرائط الكيانات (العملاء والشركات والأجهزة) والحواف (المعاملات، والعناوين المشتركة، وعناوين IP المشتركة)، تستطيع شركات التكنولوجيا المالية كشف التداول الدائري أو شبكات التهريب التي تبدو مشروعة على مستوى المعاملات، ولكنها مشبوهة على مستوى الشبكة.
علاوة على ذلك، تسهم الشبكات العصبونية الرسومية في تحديد الهويات الاصطناعية المزيفة التي يبتكرها المجرمون عبر دمج بيانات حقيقية بأخرى زائفة، ومن خلال تتبع البيانات الوصفية يمكن رصد التطبيقات التي تشترك في البصمات الرقمية للأجهزة، ما يسهل عملية ملاحقة عصابات الجريمة المنظمة وتفكيك طرق عملها الخفية.
القياسات الحيوية السلوكية
في مجال كشف الاحتيال، تمثل القياسات الحيوية السلوكية نقلة نوعية، فبدلاً من الاعتماد فقط على ما تعرفه (كلمات المرور) أو ما تملكه (الرموز المميزة)، يحل الذكاء الاصطناعي (كيف تتصرف). ولأن هذه الأنماط الدقيقة يكاد يكون من المستحيل على البرامج الآلية أو مجرمي الإنترنت محاكاتها، فإنها توفر طبقة مصادقة سلسة ومستمرة قادرة على كشف اختراق الحساب، حتى لو كان لدى المهاجم بيانات اعتماد صحيحة.
اقرأ أيضاً: لماذا 27% من خروقات البيانات عالمياً تستهدف شركات التكنولوجيا المالية؟ وكيف يمكن تجنبها؟
كيف تستفيد التكنولوجيا من أدوات مكافحة الجرائم المالية المدعومة بالذكاء الاصطناعي؟
على الرغم من أن الذكاء الاصطناعي يتغلغل في مستويات الخدمات المالية جميعها، فإن عمليات التكنولوجيا المالية المحددة وتحديداً تسجيل العملاء ومراقبة المعاملات المستمرة هي الأكثر استفادة من الأتمتة الذكية، من خلال:
حماية المدفوعات الرقمية والتدخل الفوري
تتصدر منصات الدفع والمحافظ الرقمية المشهد في استغلال الذكاء الاصطناعي لحظر العمليات المشبوهة لحظياً، فمن خلال تعلم أنماط الاحتيال المتطورة تتدخل الأنظمة قبل إرسال الأموال عبر ميزات مثل ميزة الرفض التلقائي للمدفوعات عالية المخاطر، ما يضمن حماية المعاملات اليومية دون المساس بتجربة المستخدم أو ثقته.
التحول الرقمي في البنوك الكبرى والامتثال الإقليمي
تعتمد البنوك الرقمية والتقليدية على نماذج التعلم الآلي لمراقبة المعاملات بدقة، ففي المنطقة العربية تقود بنوك كبرى في الإمارات والسعودية وقطر والكويت تجارب رائدة في دمج أدوات الذكاء الاصطناعي في عمليات الامتثال، بدءاً من التحقق من هوية العميل وصولاً إلى المراقبة الشاملة لعمليات غسل الأموال.
أتمتة التحقق من الهوية
أصبح تسجيل العملاء عبر الإنترنت أكثر أماناً بفضل أدوات التحقق المدعومة بالذكاء الاصطناعي التي تدمج بين تحليل وثائق الهوية والبيانات البيومترية والتي تسمح لشركات التكنولوجيا المالية بمطابقة بيانات المستخدم مع الوثائق المقدمة، ما يسرع عملية التسجيل في ثوانٍ مع ضمان أعلى معايير الأمان.
الإقراض الرقمي والتمويل المدمج
تعتمد نماذج الإقراض الحديثة مثل خدمات "الشراء الآن والدفع لاحقاً" على الذكاء الاصطناعي لتقييم المخاطر بسرعة فائقة، وتبرز أهميتها في كشف الهويات المزيفة وتناقضات الدخل التي قد تخفى على البشر عند التعامل مع كميات ضخمة من الطلبات.
تمكين الشركات الناشئة والفحص الاستباقي
تستفيد منصات التكنولوجيا المالية الصغيرة من أدوات مكافحة الاحتيال الجاهزة عبر واجهات برمجة التطبيقات، ما يمنحها حماية متطورة دون الحاجة إلى فرق كبيرة، من خلال استخدام ميزة الفحص الاستباقي الذي يرصد أي نشاط مريب فور حدوثه، مثل التدفق المفاجئ لمدفوعات صغيرة نحو مستفيد أجنبي، ما يؤدي إلى حظر المعاملة أو تفعيل التحقق من الهوية فوراً لتعزيز الأمان.
اقرأ أيضاً: قوة التكنولوجيا: السر وراء صعود شركات التكنولوجيا المالية
المخاطر والاعتبارات الأخلاقية التي ينبغي مراعاتها عند استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي
على الرغم من الفوائد الكبيرة لتبني الذكاء الاصطناعي في مكافحة الجرائم المالية، فإنه يفرض تحديات أخلاقية وقانونية معقدة، في مقدمتها التحيز الخوارزمي، إذ أن النماذج المدربة على بيانات تاريخية غير متوازنة قد تكرس التمييز ضد فئات معينة، وهو ما تجسد في حالات واقعية مثل بطاقة شركة آبل التي منحت حدوداً ائتمانية أقل للمتقدمات النساء رغم تشابه ملفاتهن المالية.
وفي قطاع الجرائم المالية، قد يؤدي هذا التحيز إلى حرمان شرائح كاملة من الخدمات المصرفية، ما يضع شركات التكنولوجيا المالية أمام مسؤوليات قانونية وأضرار في السمعة، كما تبرز مسألة الشفافية وقابلية التفسير عائقاً إضافياً، إذ تعمل العديد من النماذج المتطورة كـ "صناديق سوداء" لا يمكن فهم آليات اتخاذ القرار داخلها، وهو ما يتعارض مع المطالب التنظيمية التي تفرض قانون حق العميل في فهم أسباب رفضه عند التقديم لمعاملة مالية.
يضاف إلى ذلك تعقيدات خصوصية البيانات، حيث تتطلب أنظمة الذكاء الاصطناعي كميات ضخمة من المعلومات الحساسة، ما يلزم الشركات بتبني معايير أمان صارمة واستكشاف تقنيات حديثة مثل "التعلم الموحد" الذي يسمح بتدريب النماذج دون مركزية البيانات.
وأخيراً، تواجه أنظمة الذكاء الاصطناعي في القطاعات المالية منهجية جديدة من الهجمات السيبرانية تسمى الهجمات العدائية، حيث يعمد المحتالون إلى التلاعب بسلوك الأنظمة من خلال تزويدها ببيانات مضللة لإحداث سلوك خاطئ، ما يفرض ضرورة التحديث المستمر للنماذج لمواجهة هذه الحيل المتطورة.
اقرأ أيضاً: كيف أصبحت الصين الرائدة في التكنولوجيا المالية؟ ولماذا يعجز الغرب عن اللحاق بها؟
كيف يمكن لشركات التكنولوجيا المالية الموازنة بين الأتمتة والتقدير البشري والمتطلبات التنظيمية؟
يمثل المسار المستقبلي لقطاع التكنولوجيا المالية تحولاً جذرياً في فلسفة العمل، حيث لم يعد الذكاء الاصطناعي بديلاً للخبرة البشرية بل شريكاً استراتيجياً ومكملاً لها. وتعتمد المؤسسات الأكثر فاعلية اليوم على توظيف التقنية كخط دفاع أول يتولى أتمتة المهام الروتينية وتحديد أولويات التنبيهات، مع ضمان بقاء سلطة القرار النهائي بيد العنصر البشري، ما ينشئ توازناً دقيقاً بين السرعة التقنية والحكمة المهنية.
ويظهر هذا التكامل بوضوح في تقسيم العمل، إذ يتولى الذكاء الاصطناعي معالجة العمليات ذات الحجم الكبير التي تتطلب دقة رقمية، مثل فحص ملفات المخاطر وإعداد تقارير الأنشطة المشبوهة الأولية. بينما يوجه الموظفون جهودهم نحو المهام ذات القيمة العالية كفهم أنماط التهديدات المعقدة وإصدار أحكام دقيقة حول سياق الأعمال التي قد لا تدركها الخوارزميات.
أما في القرارات التي تمس سمعة المؤسسة أو استراتيجيتها مثل قبول العملاء أصحاب الهياكل المعقدة، فيظل الوجود البشري ضرورة لا غنى عنها لتقديم الفهم السياقي والمنطق الأخلاقي، المسؤول البشري هو القادر على طرح أسئلة نقدية مثل: هل يتوافق هذا النمط مع النشاط التجاري المعلن للعميل؟ هل هناك أسباب مشروعة لهذا السلوك؟ هل سيؤدي حظر هذا العميل إلى ضرر غير مقصود؟ موفراً مبدأ المساءلة الذي تفتقر إليه الأنظمة الآلية وضمان عدم اتخاذ قرارات قد تؤدي إلى أضرار غير مقصودة.
وينسجم هذا التوجه مع المتطلبات التنظيمية الحديثة مثل قانون الاتحاد الأوروبي وتوجيهات الهيئات الرقابية في بريطانيا والإمارات التي تشترط وجود إشراف بشري صريح وأنظمة قابلة للتدقيق. وبناءً على ذلك، لم يعد الذكاء الاصطناعي أداة للاستغناء عن الموظفين بل وسيلة لإعادة صياغة أدوارهم ليصبحوا محللين استراتيجيين يشرفون على مخرجات الذكاء الاصطناعي، ويتحملون مسؤولية القرار النهائي في بيئة عمل تدمج بين الابتكار والرقابة المسؤولة.
اقرأ أيضاً: 84% من المدفوعات في دول الخليج رقمية: كيف أصبحت البنوك التقليدية أمام منافسة جديدة غير متوقعة؟
البشر والذكاء الاصطناعي معاً لمكافحة الجرائم المالية
يعد استخدام الأدوات المدعومة بالذكاء الاصطناعي في مكافحة الجرائم المالية نقلة نوعية لشركات التكنولوجيا المالية ستجعلها قادرة على تقليل الخسائر والكشف عن العمليات الاحتيالية بشكل استباقي بكفاءة عالية، ما يعزز ثقة العملاء وتبني الثقة اللازمة للنمو طويل الأجل في مجال التمويل الرقمي.
والأهم وجود العنصر البشري في صميم عمليات مكافحة الجرائم المالية، من خلال تولي الذكاء الاصطناعي معالجة حجم البيانات وتعقيدها وسرعتها، بينما يقدم العنصر البشري الحكم الدقيق والمعايرة الأخلاقية والمساءلة الاستراتيجية اللازمة لضمان بيئة مالية آمنة وشاملة.