على الرغم من المزايا التي جاءت مع عصر الذكاء الاصطناعي، حتى بدا بالنسبة للكثيرين أنه عصر "الآلة تنجز كل شيء"، فإن هناك بعض المهام التي لا يزال فيها استخدام الذكاء الاصطناعي خاطئاً أو غير مقبول على الإطلاق، وبعنوان عريض إذا تساءلنا عن ماهية هذه المهام، سيكون الجواب المباشر "المهام التي تتطلب الذكاء والتعاطف البشريين".
في حالات أخرى، قد يتحول استخدام الذكاء الاصطناعي في هذه المهام إلى خطر على من يستخدمه وآخرين أيضاً. وانطلاقاً من هذه الحقيقة، نعود للتأكيد: "الذكاء الاصطناعي ليس قادراً على فعل كل شيء". وفي السطور التالية، سنلقي الضوء على أبرز المهام التي يجب ألا نعتمد على الذكاء الاصطناعي فيها.
المهام التي تتطلب تعاطفاً إنسانياً حقيقياً وذكاءً عاطفياً
يفتقر الذكاء الاصطناعي بشكل أساسي إلى القدرة على التعبير عن المشاعر الإنسانية الحقيقية أو الوعي أو الفهم الدقيق للديناميكيات الاجتماعية، وذلك على الرغم من تطوره. فهو يعالج البيانات ويستجيب بناءً على الخوارزميات، لكنه لا يستطيع "الشعور" أو استيعاب عمق التجربة الإنسانية. لذلك، فإن أي مهمة تعتمد بشكل كبير على التعاطف والذكاء العاطفي والقدرة على بناء تواصل إنساني حقيقي، من الخطأ الاعتماد على الذكاء الاصطناعي فيها.
المثال الأقرب إلى الذهن، والذي يمر به الجميع: الحزن لفقدان عزيز. فقد يتمكن بوت الدردشة من تقديم معلومات حول آليات التأقلم أو توجيه المستخدمين إلى الطرق الكفيلة بحل مشكلاتهم، إلا أنه لا يستطيع تقديم الدعم الشخصي أو نقل الشعور بالتعاطف الذي يقدمه صديق أو قريب أو حتى خبير نفسي. وبالحديث عن العلاج النفسي، تتجاوز قدرة المعالج على تفسير الإشارات غير اللفظية الدقيقة وفهم تعقيدات التاريخ العاطفي للمريض وبناء علاقة ثقة مبنية على فهم حقيقي ما يمكن أن يفعله الذكاء الاصطناعي في هذا المجال. ويمكن الحديث عن مثال آخر يتجلى بالمفاوضات الشخصية الحساسة أو حل النزاعات، مثل النزاعات العائلية أو الوساطة في مكان العمل، حيث يعد حدس الوسيط البشري وقدرته على قراءة ما بين السطور وقدرته على التعاطف مع الأطراف كافة، من الأمور الأساسية لإيجاد أرضية مشتركة وتعزيز المصالحة.
قد يغفل الذكاء الاصطناعي، الذي يعمل وفقاً لمعايير منطقية عن الإشارات العاطفية الكامنة التي تحرك النزاع، ما قد يؤدي إلى تفاقم الوضع بدلاً من حله. يسري الأمر نفسه على خدمة العملاء، فبينما يستطيع الذكاء الاصطناعي التعامل مع الاستفسارات الروتينية بكفاءة، إلا أنه يفشل في التعامل مع العملاء الذين يعانون ضائقة شديدة أو مشحونين عاطفياً ويحتاجون إلى أذن صاغية واستجابة متفهمة حقاً. لا تقتصر أهمية العنصر البشري هنا على حل المشكلة فحسب، بل تتعداها إلى التحقق من المشاعر وتقديم الطمأنينة.
اقرأ أيضاً: كيف ستؤثر قضايا حقوق النشر لمنتجات الذكاء الاصطناعي في الإبداع والابتكار؟
المهام التي تتطلب حكماً أخلاقياً ونقدياً
اتخاذ القرارات الأخلاقية عملية معقدة بطبيعتها، وغالباً ما تنطوي على قيم ذاتية ومعايير مجتمعية وفهم عميق للعواقب التي تتجاوز مجرد البيانات. يعمل الذكاء الاصطناعي ضمن إطار يحدده منشؤه والبيانات التي درب عليها، ما يجعله غير مؤهل للتعامل مع المشهد المتغير والغامض للأخلاق البشرية، كما يفتقر الذكاء الاصطناعي إلى الضمير والقدرة على تمييز النوايا، أو التعامل بجدية مع الأسس الفلسفية للمعضلات الأخلاقية.
لنأخذ على سبيل المثال اتخاذ القرارات القضائية والقانونية. فبينما يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون أداة قيمة للبحث القانوني، إذ يمكنه تدقيق كميات هائلة من السوابق القضائية ذات الصلة وتحليلها، فإنه ينبغي ألا يكون الحكم الوحيد للعدالة. يجب أن نتذكر أن دور القاضي لا يقتصر على تطبيق القانون فحسب، بل يشمل أيضاً مراعاة الظروف الفريدة للقضية، والتأثير الإنساني لحكمه وممارسة السلطة بناءً على فهم دقيق للقيم المجتمعية وحقوق الأفراد.
إن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي لإصدار الأحكام قد يؤدي إلى نتائج صحيحة تقنياً، لكنها غير عادلة أخلاقياً، وتفتقر إلى العنصر الإنساني الأساسي المتمثل في الرحمة والإنصاف. مثال آخر يمكن أن نورده من الصحافة الاستقصائية أو التقارير الحساسة، حيث يمكن للذكاء الاصطناعي تجميع المعلومات، بل وحتى صياغة مقالات أساسية، لكنه لا يستطيع أن يحل محل التفكير النقدي والاعتبارات الأخلاقية والحكم المستقل للصحفي البشري؛ إذ يتضمن عمل الصحفي التحقق من المصادر وفهم التأثير المحتمل للقصة على الأفراد والمجتمعات واتخاذ خيارات أخلاقية صعبة بشأن المعلومات التي يجب نشرها وكيفية صياغتها بمسؤولية. قد ينشر الذكاء الاصطناعي، دون بوصلة أخلاقية، معلومات مضللة أو ينتهك الخصوصية عن غير قصد بناءً على توفر البيانات فقط، كما أن القرارات المتعلقة بالأخلاقيات الطبية، مثل رعاية المرضى في عمر الشيخوخة، تقع تماماً خارج نطاق مهام الذكاء الاصطناعي. تتطلب هذه الخيارات تعاطفاً إنسانياً عميقاً، واحتراماً لاستقلالية الفرد، وفهماً عميقاً لكرامة الإنسان، وهي أمور لا يتمتع بها للذكاء الاصطناعي .
اقرأ أيضاً: أهم 5 مخاطر ومسائل أخلاقية مرتبطة باستخدام الذكاء الاصطناعي
مهام حيث الأمن والخصوصية والسرية أمور بالغة الأهمية
تشكل طبيعة الذكاء الاصطناعي، الذي يتطلب استخدامه معالجة مجموعات بيانات ضخمة وتحليلها، مخاطر جوهرية عند التعامل مع معلومات شديدة الحساسية أو سرية. وعلى الرغم من إمكانية تطبيق تدابير أمنية فعالة، فإن احتمالية اختراق البيانات أو إساءة استخدامها أو الكشف غير المقصود عنها تظل مصدر قلق كبيراً، لا سيما عندما يتعلق الأمر بمعلومات خاصة أو شخصية.
مثلاً، إذا كانت بيانات الشركات شديدة السرية مثل الأسرار التجارية أو الملكية الفكرية أو التوقعات المالية الحساسة. فإذا أدخلت مؤسسة ما هذه المعلومات في نظام ذكاء اصطناعي عام أو تابع لجهة خارجية لتحليلها أو توليدها، فهناك خطر من إمكانية اختراق هذه البيانات أو وصولها إلى جهات غير مصرح لها. وغالباً ما تمنح شروط خدمة العديد من أدوات الذكاء الاصطناعي لمزود الخدمة حقوقاً واسعة لاستخدام بيانات الإدخال لأغراض التدريب، ما قد يكشف عن معلومات حساسة عن غير قصد.
وفي مجال الرعاية الصحية، قد يؤدي استخدام الذكاء الاصطناعي لمعالجة السجلات الطبية للمرضى لأغراض التشخيص أو التخطيط للعلاج إلى انتهاكاتٍ جسيمة للخصوصية. ففي حين يوفر الذكاء الاصطناعي إمكانات هائلة في التطبيقات الطبية، إلا أن المتطلبات الصارمة لسرية المرضى مثل قانون نقل التأمين الصحي والمسؤولية HIPAA في الولايات المتحدة، تتطلب تطبيقاً دقيقاً للغاية، وغالباً ما تتطلب الاحتفاظ بالبيانات الحساسة داخل أنظمة آمنة ومغلقة.
حتى في مجال الأمن القومي والاستراتيجيات العسكرية، حيث يعد تحليل البيانات أمراً بالغ الأهمية، فإن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي لاتخاذ قرارات حاسمة أو التعامل مع معلومات استخباراتية سرية قد تكون له عواقب وخيمة في حال تعرض النظام للاختراق أو تفسيره بشكل خاطئ. فالمخاطر كبيرة للغاية، والحاجة إلى الرقابة البشرية والقدرة على العمل بأمان في بيئات معقدة وغير متوقعة أمر بالغ الأهمية.
وفي المهام التي تتعلق بالهوية الشخصية والأمن المالي، مثل التحقق من الهويات للحصول على قروض أو إدارة معاملات مالية حساسة، بينما يمكن للذكاء الاصطناعي المساعدة على الكشف عن الاحتيال، يجب أن يبقى اتخاذ القرار النهائي وحماية البيانات المالية الشخصية تحت سيطرة بشرية صارمة من خلال عمليات قوية وقابلة للتدقيق. إذ يمكن استغلال أي ثغرة في نظام الذكاء الاصطناعي، ما يؤدي إلى أضرار مالية جسيمة أو سرقة الهوية.
اقرأ أيضاً: أين وصلنا في سباق وضع قواعد لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي؟
المهام التي تتطلب المساءلة النهائية والمسؤولية القانونية
في الحالات التي تحمل فيها المسؤولية النهائية عن القرارات أو الأفعال عواقب قانونية أو مالية أو أخلاقية جسيمة، يجب أن تقع المسؤولية على عاتق الإنسان. فبينما يستطيع الذكاء الاصطناعي توجيه القرارات، إلا أن إسناد المسؤولية إلى خوارزمية يعد مأزقاً قانونياً وفلسفياً. لذلك يجب أن يبقى البشر مسيطرين على الوضع لتحمل عبء المسؤولية.
لنأخذ التشخيصات الطبية وخطط العلاج مثالاً. في حين أن الذكاء الاصطناعي يستطيع تحليل كميات هائلة من البيانات الطبية وتحديد الأنماط واقتراح التشخيصات أو خيارات العلاج المحتملة، فإن القرار النهائي بتشخيص حالة المريض ووصف مسار العلاج يجب أن يقع على عاتق طبيب بشري؛ إذ إننا في حالة ارتكاب الذكاء الاصطناعي خطأً أدى إلى إلحاق الضرر بالمريض فنحن أمام عدة أسئلة: من المسؤول؟ هل هو المطور أم المستشفى أم هو الذكاء الاصطناعي نفسه؟
إن الأطر القانونية والأخلاقية الحالية غير مهيأة للتعامل مع الذكاء الاصطناعي ككيان مسؤول. فالأطباء البشريون مدربون ليس فقط على العلوم الطبية، ولكن أيضاً على الممارسة الأخلاقية والتقييم النقدي للمعلومات، بما في ذلك الرؤى التي يولدها الذكاء الاصطناعي.
وفي التدقيق المالي أو المعاملات المالية المعقدة، بينما يمكن للذكاء الاصطناعي المساعدة على تحديد الشذوذ والاحتيال المحتمل، يجب أن تبقى الموافقة والمسؤولية النهائية عن دقة وسلامة التقارير أو المعاملات المالية على عاتق المدققين البشريين والخبراء الماليين. إذا ارتكب نظام يعمل بالذكاء الاصطناعي خطأً يؤدي إلى خسارة مالية كبيرة أو خرق للوائح، فإن الشخص الذي أذن أو أشرف على هذا النظام هو المسؤول في النهاية.
حتى في تشغيل المركبات ذاتية القيادة، فقد يقود الذكاء الاصطناعي السيارة، لكن في حالة وقوع حادث، هناك جدل مستمر حول من تقع عليه المسؤولية، على الشركة المصنعة أو مطور البرامج أو المالك. وإلى أن تنضج هذه الأطر القانونية والأخلاقية، يجب أن يحتفظ البشر بمستوى من الرقابة وسلطة اتخاذ القرار النهائية في المهام التي تكون فيها السلامة والمسؤولية الحاسمة أولوية. وهذا يضمن إمكانية تحديد الطرف المسؤول دائماً ومحاسبته على النتائج.
اقرأ أيضاً: كيف أثّر الصراع الأخلاقي حول سلامة الذكاء الاصطناعي في إقالة سام ألتمان من منصبه؟
المهام التي تتطلب إبداعاً حقيقياً وأصالة ورؤية فنية
حقق الذكاء الاصطناعي تقدماً ملحوظا في إنتاج الأعمال الفنية والموسيقى والنصوص، بل وحتى الشيفرات البرمجية، إلا أن إبداعه مشتق من تعلمه الأنماط من البيانات المتاحة، ثم إنتاجه محتوى جديداً بناء عليها. وهو يفتقر إلى القدرة على إخراج نتائج بأصالة حقيقية، أو على أن يلتقط شرارة الإلهام، أو القدرة على إضفاء معنى شخصي أو تجربة معاشة أو منظور فلسفي فريد على العمل الإبداعي. لنتذكر أن الإبداع الحقيقي هو كسر الأنماط السائدة وتحدي الأعراف والتعبير عن صوت إنساني فريد، وهو أمر لا يستطيع الذكاء الاصطناعي تحقيقه فعلاً.
فكر في كتابة رواية أو سيناريو أو قصيدة ذات طابع شخصي عميق. قد يبني الذكاء الاصطناعي جملاً صحيحة نحوياً، أو حبكات مبنية على أحداث شائعة أو أبيات شعرية بأسلوب معين، إلا أنه لا يستطيع إضفاء تجارب حياة الكاتب الفريدة أو عمقه العاطفي أو رؤاه العميقة للحالة الإنسانية على العمل. حيث تترك القصة أو القصيدة الرائعة أثراً لأنها تعبر عن صوت ومنظور إنساني فريد، وتستكشف مواضيع تنبثق من تجربة معاشة حقيقية.
يستطيع الذكاء الاصطناعي محاكاة الأسلوب، لكنه لا يستطيع الشعور أو التعبير بصدق عن الفروق الدقيقة في المشاعر والفكر الإنسانيين التي تضفي على الفن قوته.
وفي مجال البحوث العلمية الرائدة أو الفلسفية، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون مساعداً لا يقدر بثمن في تحليل البيانات وتحديد الارتباطات، وحتى توليد الفرضيات، لكن لا يمكنه أن يغني عن القدرة البشرية على القفزات الحدسية، أو إحداث تحولات في النماذج، أو القدرة على صياغة أطر مفاهيمية جديدة كلياً. فلحظات الإلهام التي تفضي إلى اكتشافات رائدة أو الرؤى العميقة التي تعيد تشكيل فهمنا للعالم، تأتي من مزيج فريد من الملاحظة والتفكير النقدي والحدس الإبداعي، وهو مزيج بشري بامتياز. يتفوق الذكاء الاصطناعي في تحسين العمليات القائمة، لكنه يعاني في الابتكار الحقيقي الذي ينبع من طريقة مبتكرة لرؤية العالم.
وعند تصميم هوية علامة تجارية مميزة أو تحفة معمارية، يستطيع الذكاء الاصطناعي توليد عدد لا يحصى من التكرارات بناءً على مبادئ التصميم القائمة، إلا أنه يفتقر إلى قدرة المصمم البشري على إضفاء طابع ثقافي أو صدى عاطفي أو رؤية فنية فريدة على إبداع ما، تجسد روح العصر. غالباً ما تنبثق التصاميم الأكثر تأثيراً من فهم عميق للنفسية البشرية والاتجاهات المجتمعية وحسٍّ جمالي فطري لا يستطيع الذكاء الاصطناعي تقليده.
اقرأ أيضاً: ما هي المعايير الأخلاقية للتكنولوجيا وكيف تعيد الثقة في الشركات؟
على الرغم مما سبق ذكره، يبقى الذكاء الاصطناعي أداة استثنائية قادرة على تعزيز القدرات البشرية وأتمتة المهام اليومية وفتح آفاق جديدة. إلا أن قوته تكمن في قدرته على مساعدة الحكم البشري، لا استبداله، في المجالات كلها.
وإدراك محدودية الذكاء الاصطناعي، لا سيما في المجالات التي تتطلب تعاطفاً حقيقياً والتفكير الأخلاقي المعقد والإبداع العميق والمساءلة المطلقة، أمر بالغ الأهمية لنشره بمسؤولية. ومن خلال فهم حدوده يمكننا تسخير نقاط قوة الذكاء الاصطناعي مع الحفاظ على القيمة التي لا تعوض للذكاء البشري وإعطائها الأولوية والصفات الفريدة التي تميز إنسانيتنا.