أصدرت شركة أوبن أيه آي أخيراً أول نماذج لغوية كبيرة بمتغيرات وسيطة متاحة للعموم منذ أن أصدرت النسخة جي بي تي-2 لعام 2019. هذه النماذج الجديدة التي تحمل اسم "جي بي تي-أوس" (gpt-oss) متوفرة في حجمين مختلفين وتحقق نتائج مماثلة للنماذج "أو 3 ميني" و"أو 4 ميني" الخاصة بالشركة وفق العديد من المقاييس المعيارية. على عكس النماذج المتوفرة من خلال واجهة الويب الخاصة بشركة أوبن أيه آي، يمكن تنزيل هذه النماذج المفتوحة الجديدة وتشغيلها وحتى تعديلها على أجهزة الكمبيوتر المحمولة والأجهزة المحلية الأخرى.
خلال السنوات العديدة التي مرت على الشركة دون إصدار نماذج لغوية كبيرة مفتوحة، لجأ بعض المستخدمين إلى الإشارة إليها باسم "الذكاء الاصطناعي المغلق" (ClosedAI) على سبيل الانتقاد، وقد تصاعد هذا الإحساس بالإحباط في الأشهر القليلة الماضية في ظل تأجيل إصدار هذه النماذج التي طال انتظارها مرتين، أولاً في شهر يونيو/حزيران ثم في شهر يوليو/تموز. ولكن مع إصدارها، تعيد أوبن أيه آي ترسيخ حضورها من جديد لمستخدمي النماذج المفتوحة.
اقرأ أيضاً: مَن سيتربع على مشهد الذكاء الاصطناعي في الصين: علي بابا أمْ تنسنت؟
النماذج المغلقة مقابل النماذج المفتوحة: أميركا مقابل الصين
وهذا أمر جدير بالملاحظة بصورة خاصة في وقت قد تعيد فيه شركة ميتا، التي هيمنت في السابق على مشهد النماذج المفتوحة الأميركية بفضل نماذجها التي تحمل اسم لاما (Llama)، توجيه نفسها نحو الإصدارات المغلقة، وفي الوقت الذي أصبحت فيه النماذج الصينية المفتوحة، مثل العروض التي تقدمها شركة ديب سيك، وكيمي كي 2 (Kimi K2)، وسلسلة كوين (Qwen) من شركة علي بابا، أكثر شعبية من منافساتها الأميركية.
قال مدير برنامج الأبحاث في أوبن إيه آي، كيسي دفوراك، في إحاطة إعلامية حول إصدار النموذج: "إن الغالبية العظمى من عملائنا من الشركات والشركات الناشئة يستخدمون بالفعل الكثير من النماذج المفتوحة. ونظراً لعدم وجود نموذج مفتوح منافس من أوبن أيه آي، أردنا سد هذه الفجوة والسماح لهم بالفعل باستخدام تكنولوجيتنا في المجالات كافة".
أين تُستخدم النماذج المفتوحة؟
الطرازان الجديدان متاحان وفق حجمين مختلفين، إذ يمكن تشغيل أصغرهما نظرياً بالاعتماد على ذاكرة وصول عشوائي بسعة 16 غيغا بايت، وهو الحد الأدنى الذي تقدمه شركة آبل حالياً على أجهزتها الحاسوبية. أما الطراز الأكبر فيتطلب جهاز كمبيوتر محمولاً متطوراً أو أجهزة متخصصة.
ثمة حالات استخدام رئيسية للنماذج المفتوحة. وقد ترغب بعض المؤسسات في تخصيص النماذج لأغراضها الخاصة أو توفير المال من خلال تشغيل النماذج على أجهزتها الخاصة، مع أن هذه المعدات تتطلب تكلفة أولية كبيرة. وقد تحتاج جهات أخرى -مثل المستشفيات وشركات المحاماة والحكومات- إلى نماذج يمكن تشغيلها محلياً لأسباب تتعلق بأمن البيانات.
وقد سهلت أوبن أيه آي هذا النوع من الأنشطة من خلال إصدار نماذجها المفتوحة بموجب ترخيص أباتشي 2.0 المتساهل، والذي يسمح باستخدام النماذج لأغراض تجارية. يقول رئيس قسم مرحلة ما بعد التدريب في معهد آلين للذكاء الاصطناعي، ناثان لامبرت، إن هذا الخيار جدير بالثناء: فهذه التراخيص شائعة في إصدارات النماذج الصينية المفتوحة، لكن ميتا أصدرت نماذج لاما الخاصة بها بموجب ترخيص مخصص وأكثر تقييداً. ويقول: "إنه أمر جيد جداً لمجتمع البرمجيات المفتوحة".
ماذا يعني هذا لأوبن أيه آي؟
يحتاج الباحثون الذين يدرسون كيفية عمل نماذج لاما أيضاً إلى نماذج مفتوحة، حتى يتمكنوا من فحص تلك النماذج ومعالجتها بالتفصيل. يقول الأستاذ المساعد في جامعة برينستون الذي عمل على نطاق واسع مع النماذج المفتوحة، بيتر هندرسون: "يتعلق الأمر جزئياً بإعادة تأكيد هيمنة أوبن أيه آي على منظومة البحث العلمي. يقول هندرسون إنه إذا اعتمد الباحثون نماذج جي بي تي أوس بصفتها أدوات عمل جديدة، فقد تشهد أوبن أيه آي بعض الفوائد الملموسة، إذ قد تتبنى الابتكارات التي اكتشفها باحثون آخرون في منظومة نماذجها الخاصة.
اقرأ أيضاً: مصمم آبل السابق يعمل على ابتكار هاتف بلا شاشة وأوبن إيه آي تسعى للاستحواذ على الفكرة
وعلى نطاق أوسع، يقول لامبرت إن إطلاق نموذج مفتوح الآن يمكن أن يساعد أوبن أيه آي على إعادة ترسيخ مكانتها في بيئة الذكاء الاصطناعي المزدحمة بصورة متزايدة. ويقول: "يعود الأمر إلى سنوات مضت، حيث كانت تعتبر الشركة الرائدة في مجال الذكاء الاصطناعي". سيتمكن المستخدمون الراغبون في استخدام النماذج المفتوحة الآن من تلبية احتياجاتهم كافة من خلال منتجات أوبن أيه آي، بدلاً من اللجوء إلى النموذج لاما من ميتا أو كوين من علي بابا عندما يحتاجون إلى تشغيل نموذج ما محلياً.
ربما شكل ظهور النماذج الصينية المفتوحة مثل كوين خلال العام الماضي عاملاً بارزاً على وجه الخصوص في حسابات أوبن أيه آي. وقد أكد أحد موظفي أوبن أيه آي في المؤتمر الصحفي أن الشركة لا ترى هذه النماذج المفتوحة رداً على الإجراءات التي اتخذتها أي شركة أخرى متخصصة في مجال الذكاء الاصطناعي، ولكن من الواضح أن أوبن أيه آي مدركة للتداعيات الجيوسياسية لهيمنة النماذج المفتوحة التي تصدرها الصين. وكتبت الشركة في منشور على مدونتها تعلن فيه عن إصدار النماذج: "يساعد الوصول الواسع إلى هذه النماذج القوية ذات المتغيرات الوسيطة المتاحة للعموم والتي طورت في الولايات المتحدة، على نشر أنظمة الذكاء الاصطناعي على نطاق أوسع".
نحو مواجهة هيمنة النماذج المفتوحة الصينية
منذ أن طغى ظهور النموذج ديب سيك على مشهد الذكاء الاصطناعي في بداية عام 2025، لاحظ المراقبون أن النماذج الصينية غالباً ما ترفض التحدث عن الموضوعات التي اعتبرها الحزب الشيوعي الصيني محظورة، مثل أحداث ميدان تيانانمن. هذه الملاحظات -بالإضافة إلى المخاطر الطويلة المدى، مثل إمكانية أن تكتب النماذج الوكيلة تعليمات برمجية مليئة بالهفوات والثغرات بصورة متعمدة- أثارت قلق بعض خبراء الذكاء الاصطناعي إزاء تزايد اعتماد النماذج الصينية. يقول هندرسون: "النماذج المفتوحة شكل من أشكال القوة الناعمة".
وقد أصدر لامبرت تقريراً في الرابع من أغسطس/آب يوثق كيفية تفوق النماذج الصينية على النماذج الأميركية مثل لاما ويدعو إلى تجديد الالتزام بالنماذج المحلية المفتوحة. وقد وقع العديد من الباحثين ورواد الأعمال البارزين في مجال الذكاء الاصطناعي، مثل الرئيس التنفيذي لشركة هاغينغ فيس كليمنت ديلانغو، وبيرسي ليانغ من جامعة ستانفورد، والباحث السابق في أوبن أيه آي، مايلز برونديج.
وقد شددت إدارة ترامب أيضاً على تطوير النماذج المفتوحة في خطة عمل الذكاء الاصطناعي الخاصة بها. ومن خلال إصدار هذا النموذج والبيانات السابقة، فإن أوبن أيه آي تتماشى مع هذا الموقف. يقول الباحث الرئيسي في معهد ستانفورد للذكاء الاصطناعي المتمركز حول الإنسان، ريشي بوماساني: "أشارت أوبن أيه آي بوضوح تام في ملفاتها حول خطة العمل إلى أنها ترى أن المواجهة بين الولايات المتحدة والصين قضية محورية وترغب في ترسيخ مكانتها بصفتها شركة بالغة الأهمية للنظام الأميركي".
اقرأ أيضاً: كيف تحقق الصين طفرة في الذكاء الاصطناعي رغم القيود والتحديات التقنية؟
يقول لامبرت إن أوبن أيه آي قد تحقق مزايا سياسية ملموسة من توافقها مع أولويات الإدارة الأمريكية في مجال الذكاء الاصطناعي. فمع استمرار الشركة في بناء بنيتها التحتية الحاسوبية الواسعة النطاق، ستحتاج إلى الدعم السياسي والموافقات السياسية، وقد يكون للقيادة المتعاطفة دور كبير في ذلك.