"كنت أعتقد أن الروايات التي نسمعها باستمرار من صناعة التكنولوجيا، أن الذكاء الاصطناعي إما سيجلب لنا الفردوس وإما يقضي علينا، ما هي إلا خطابات لذر الرماد في العيون لتشتيت الانتباه عن التأثيرات الواقعية. لكنني اكتشفت بسرعة وجود مجتمعات كاملة في وادي السيليكون تؤمن فعلياً بإحدى الروايتين. هذا غير فهمي تماماً لما يشكل مسار تطور الذكاء الاصطناعي اليوم. هذه القصة ليست فقط عن المال والقوة، بل هي أيضاً عن الأيديولوجيا". هذا ما تكشفه كارين هاو، الصحفية الحائزة جوائز ومؤلفة الكتاب الجديد المثير للجدل "إمبراطورية الذكاء الاصطناعي"، الذي تصدر قائمة الأكثر مبيعاً في نيويورك تايمز فور صدوره، في حديثها الخاص مع إم أي تي تكنولوجي ريفيو العربية.
إم آي تي تكنولوجي ريفيو العربية: لقد تتبعت تحول "أوبن إيه آي" من منظمة غير ربحية ملتزمة بالسلامة إلى قوة تجارية ضخمة. خلال تغطيتك ومراقبتك، هل شعرت باللحظة الحاسمة التي بدأت فيها الشركة تغيير مسار اهتمامها؟
هاو: بالتأكيد. كانت هناك لحظة مبكرة حين قرر القادة، ومن بينهم الرئيسان المشاركان سام ألتمان وإيلون ماسك، والعالم الرئيسي إيليا سوتسكيفر، ومدير التكنولوجيا غريغ بروكمان، أن السبيل الوحيد لتصبح "أوبن إيه آي" المختبر الأول في أبحاث الذكاء الاصطناعي هو عبر توسيع نطاق نماذجها بسرعة غير مسبوقة، من خلال تدريبها على كميات هائلة من البيانات، واستخدام أكبر الحواسيب العملاقة التي بنيت في تاريخ البشرية. وبمجرد اتخاذهم هذا القرار، أصبح من الواضح أنهم بحاجة إلى رؤوس أموال ضخمة، وهكذا بدأت مسألة تأمين التمويل تتجاوز الاعتبارات الأخرى كلها.
أتيح لك الوصول -وفي العمق- إلى "أوبن إيه آي" خلال الإطاحة المفاجئة بسام ألتمان وعقب عودته. ماذا كشف هذا الحدث عن كيفية ممارسة السلطة فعلياً داخل قطاع الذكاء الاصطناعي؟ وما الذي يجب أن يستخلصه الجمهور من ذلك الحدث؟
برأيي، جسد هذا الحدث مدى سيطرة عدد قليل جداً من الأشخاص على مسار تطوير الذكاء الاصطناعي. فحتى لو نجح المجلس في الإطاحة بألتمان، لما غير ذلك حقيقة أن قراراً بالغ الأهمية قد اتخذ خلف الأبواب المغلقة. ما أستنتجه في كتابي هو أن هذا النوع من اتخاذ القرار المركز، حيث تحتفظ مجموعة صغيرة بسلطة غير عادية، لا يمكن أن ينتج نسخة من الذكاء الاصطناعي تفيد الجميع. وإذا أردنا حقاً أن "يخدم الذكاء الاصطناعي البشرية جمعاء" كما تقول رسالة "أوبن إيه آي"، فعلينا أن نُخضع تطوير هذه التكنولوجيا وتطبيقها لحوكمة جماعية.
يرسم كتاب "إمبراطورية الذكاء الاصطناعي" روابط بين طموحات وادي السيليكون والواقع الذي يعيشه عمال البيانات في كينيا أو نقص المياه في تشيلي. لماذا لا تزال هذه التداعيات العالمية غائبة إلى حد كبير عن النقاشات السائدة حول الذكاء الاصطناعي؟
أولاً، تخفي الشركات سلاسل التوريد خلف طبقات من الغموض. لا تكشف عن المزودين الذين تتعاقد معهم لتشغيل العمال، ولا تصرح باستهلاك الطاقة والمياه أو التأثيرات البيئية لمراكز بياناتها. لذا يتطلب الأمر وقتاً وجهداً وموارد كبيرة من الباحثين والصحفيين لاكتشاف هذه المعلومات وكشفها للعامة. ويزيد امتداد بصمة الذكاء الاصطناعي عبر مجتمعات وجغرافيات عديدة من صعوبة تتبعها. لا يلاحق عدد كافٍ من الصحفيين حول العالم هذه التأثيرات، ولا يتواصل الكثير منهم مع بعضهم بعضاً عبر الحدود لاكتشاف الروابط بين تقاريرهم. لهذا السبب أسست برنامج "سلسلة تسليط الضوء على الذكاء الاصطناعي" بالتعاون مع مركز بوليتزر لتدريب الصحفيين حول العالم على تغطية قضايا الذكاء الاصطناعي. حتى الآن، نجحنا بتدريب أكثر من 2200 صحفي في أكثر من 100 دولة، كما يستثمر المركز بشكل كبير في بناء مجتمع من هؤلاء الصحفيين من خلال شبكة "مساءلة الذكاء الاصطناعي".
تصفين في كتابك كيف يتطلب تطوير الذكاء الاصطناعي اليوم استخراجاً هائلاً للبيانات والعمالة والطاقة والمياه. هل يعد هذا شكلاً رقمياً من الاستعمار؟ وكيف ترين تأثيره في الجنوب العالمي؟
نعم، أعتقد أن أفضل طريقة لفهم شركات مثل "أوبن إيه آي" والكم الهائل من النفوذ الاقتصادي والسياسي الذي تملكه هو اعتبارها أشكالاً جديدة من الإمبراطوريات. في كتابي أرسم 4 أوجه تشابه بين هذه الإمبراطوريات وإمبراطوريات الماضي
أولاً، تدعي هذه الإمبراطوريات ملكية موارد ليست لها، ولكنها تعيد تفسير القوانين لتوحي بأن تلك الموارد كانت دائماً في متناول يدها. على سبيل المثال، فكر في كل الملكيات الفكرية التي استخدموها لتدريب نماذجهم، والتي يدّعون الآن أنها استخدام عادل بموجب قوانين حقوق النشر.
ثانياً، تستغل هذه الإمبراطوريات كميات هائلة من العمل مثل تعاقدها مع عمال في كينيا لأداء مهام تقشعر لها الأبدان في مراقبة المحتوى مقابل أجور زهيدة. وأيضاً عبر تطوير تكنولوجيا تؤدي بطبيعتها إلى أتمتة الوظائف. "أوبن إيه آي" تعلن صراحة أنها تهدف إلى بناء "أنظمة مستقلة للغاية تتفوق على البشر في أغلب الأعمال ذات القيمة الاقتصادية"، أي ببساطة يسعون إلى بناء آلات تقصي العامل البشري وتقوض حقوق العمال.
ثالثاً، تحتكر هذه الإمبراطوريات إنتاج المعرفة. خلال العقد الماضي، انتقل معظم الباحثين في الذكاء الاصطناعي من العمل في الجامعات إلى العمل في شركات الذكاء الاصطناعي، وهو ما يشبه تماماً ما سيحدث لو تم تمويل معظم علماء المناخ من شركات النفط والغاز.
رابعاً، تتبنى هذه الإمبراطوريات رواية الخير والشر؛ إذ ترى نفسها الإمبراطورية "الخيرة" التي ينبغي أن تكون قوية بما فيه الكفاية لهزيمة الإمبراطورية "الشريرة". وإذا فازت الإمبراطورية الشريرة، فستسقط البشرية في الجحيم. أما إذا فازت الإمبراطورية الخيرة، من خلال حصولها على صلاحيات غير محدودة، فستُحضِر الحضارة والتقدم والحداثة إلى الجميع، ويكون للبشرية فرصة للصعود إلى الجنة.
لكن على الرغم من هذا الخطاب كله، فإن النتيجة واضحة: هذه الأساليب كلها تخدم في النهاية مجموعة صغيرة من الأفراد الأقوياء على حساب الجميع.
في ظل وجود عدد قليل فقط من الشركات القادرة على تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي المتقدمة، كيف يمكن أن تبدو اللوائح التنظيمية الفعالة؟ وهل تستطيع الحكومات مواكبة التفرد الكبير لهذا القطاع على مستوى القطاع الخاص؟
نعم، تستطيع الحكومات ذلك ويجب أن تفعل. أول ما يجب إدراكه هو أن هذه النماذج المتقدمة لا تمثل التقدم بالضرورة، بل يمكن القول إنها تمثل العكس. لقد أدت إلى مستويات غير مسبوقة من الاستنزاف والاستغلال، ولم تنتج في الواقع سجلاً قوياً من الفوائد الاقتصادية أو الاجتماعية، كما أن هناك تكلفة ضخمة لفرصة الاستمرار بهذا المسار. فطالما تخصص الموارد لإنتاج هذا النوع من الذكاء الاصطناعي، فإنها لا تستخدم لإنتاج نماذج أكثر نفعاً، مثل الأنظمة المصممة خصيصاً لحل مشكلات محددة. مثال على ذلك: نظام ألفا فولد الذي يتنبأ بدقة ببنية البروتين من خلال تسلسل الأحماض الأمينية الذي حصل على جائزة نوبل في الكيمياء عام 2024. وقد طور من قبل "ديب مايند" قبل أن تحول تركيزها إلى إنتاج نماذج ضخمة.
فبمجرد أن تدرك الحكومات هذا التناقض بين موارد تستهلك بشكل غير فعال ونماذج كان يمكن أن تعود بنفع حقيقي، يصبح دورها واضحاً، ألا وهو تقنين تطوير النماذج الضخمة عبر تعزيز خصوصية البيانات وحماية الملكية الفكرية، وتدعيم حقوق العمال، وزيادة الشفافية حول مواقع مراكز البيانات واستهلاكها، وتوجيه التمويل والدعم نحو تطوير نماذج موجهة لمهام محددة.
بناءً على تحقيقاتك، هل هناك نسخة من تطوير الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع يمكن أن تكون أخلاقية وعادلة ومستدامة أم أن الحوافز الأساسية تتعارض جذرياً مع هذه الأهداف؟
لا، الحجم نفسه هو أصل المشكلة. وبدلاً من ذلك، يجب أن نسأل: ما هي أنواع تقنيات الذكاء الاصطناعي الأخلاقية والعادلة والمستدامة التي يمكن بناؤها من خلال طرق صغيرة النطاق، وفعالة من حيث البيانات والحوسبة؟ هناك الكثير من الأبحاث التي تُظهر أن هذا ممكن.
لقد كتبت بإسهاب عن الروايات التي يستخدمها قادة التكنولوجيا لتبرير اندفاعهم نحو الذكاء الاصطناعي. كيف يمكن للصحفيين والتقنيين وصانعي السياسات اختراق هذا الضجيج دون الوقوع في فخ السخرية أو اللامبالاة؟
على المدى القصير، يجب أن يكون الصحفيون والتقنيون وصانعو السياسات دائمي التشكيك تجاه المعلومات التي تأتي من أولئك الذين لديهم مصالح كبيرة في بيع تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، وأن يسعوا دائماً لاستشارة خبراء مستقلين. وعلى المدى الطويل، ينبغي الاستثمار في تنمية هؤلاء الخبراء المستقلين، من خلال دعم الأبحاث المستقلة والصحافة المستقلة، لتقويض احتكار الإمبراطوريات لإنتاج المعرفة.
مع دمج أنظمة الذكاء الاصطناعي في التعليم والرعاية الصحية والحكومات، ما هي مسؤوليات الصحفيين والمربين والقادة المدنيين لضمان أن فهم الناس يواكب التقدم التقني؟
يجب على الصحفيين والمربين والقادة المدنيين مراقبة ونشر الحالات التي تعمل فيها هذه التقنيات كما هو متوقع، والحالات التي تفشل فيها وتؤدي إلى ضرر، وذلك لمساعدة الناس على تطوير فهم دقيق وحديث لما يمكن للذكاء الاصطناعي فعله وما لا يمكنه فعله، وبالتالي تسهيل دمجه بشكل مسؤول.
كيف ترين نمو الذكاء الاصطناعي وتطوره في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا؟ وما هي الدروس التي يمكن تقديمها لقادة التكنولوجيا في هذه المنطقة؟
شركات مثل "أوبن إيه آي" تنظر إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بالنظرة نفسها التي تنظرها للعالم كله: كمصدر لاستخراج الموارد. ومع تزايد الحاجة إلى الأراضي والطاقة لبناء وتشغيل مراكز البيانات، وغياب رأس المال الكافي، بدأت هذه الشركات تتجه إلى هذه المنطقة لإبرام صفقات. إذا تخلت المنطقة عن مواردها بسرعة، فقد تواجه تحديات مشابهة لما حدث في مناطق أخرى، مثل تفاقم أزمة المياه أو الإفراط في الاستثمار بأصول عالية المخاطر دون الحصول على فوائد متكافئة.
الآن وقد بدأ كتاب "إمبراطورية الذكاء الاصطناعي" يثير الجدل، ما هي النقاشات أو الإجراءات التي تأملين أن يلهمها خصوصاً بين من يطورون أو ينظمون الجيل القادم من أنظمة الذكاء الاصطناعي؟
هناك مسار بديل لتطوير الذكاء الاصطناعي، مسار يمكن أن يفيد الجميع. ولدينا جميعاً دور فاعل في بناء هذا المستقبل البديل.