لم يعد التنبؤ بتطور بيئات العمل خياراً بل ضرورة استراتيجية، إذ من المتوقع أن تصل سوق المكاتب الذكية العالمية التي قدرت قيمتها بنحو 50 مليار دولار عام 2024 إلى أكثر من 128 مليار دولار بحلول عام 2033 بحسب تقرير سوق المكاتب الذكية حسب المكونات الذي أصدرته شركة أبحاث سوق المشتريات إيمارك. هذا النمو الملحوظ سيكون مدفوعاً بالاعتماد المتزايد على التقنيات المتقدمة والطلب المتزايد على أماكن العمل الموفرة للطاقة والتحول الكبير نحو نماذج العمل الهجينة والمرنة.
يشير هذا المسار إلى أن اعتماد حلول المكاتب الذكية ليس مجرد ترقية تشغيلية، ولكنه خطوة استراتيجية حاسمة تؤثر بشكل مباشر في قدرة الشركات على جذب القوى العاملة والاحتفاظ بها وتمكينها في بيئة تنافسية متزايدة.
اقرأ أيضاً: أفضل التطبيقات والبرامج التي تحتاجها عند العمل عن بُعد
كيف ستعمل التقنيات المتقدمة معاً كوحدة متكاملة لإنشاء بيئة عمل ذكية؟
لن يكون المكتب الذكي المستقبلي مجرد مكان عمل، بل نظاماً حيوياً تتلاقى فيه أحدث التقنيات التكنولوجية والإبداع البشري لخلق بيئة عمل تعيد تعريف كيفية عملنا وتعاوننا وإنتاجيتنا. ومن المتوقع أن يؤدي الذكاء الاصطناعي دوراً محورياً فيه متجاوزاً الأتمتة التقليدية لتقديم توصيات تنبؤية وتجارب عمل شخصية.
ستكون أجهزة إنترنت الأشياء بمثابة الجهاز العصبي، حيث يربط بين عدد لا يحصى من الأجهزة التي تتواصل مع بعضها بعضاً في الوقت الفعلي. سيسهل هذا الترابط المهام الآلية بدءاً من الطابعات الذكية التي ترسل إشعاراً عند انخفاض مستوى الحبر وصولاً إلى آلات القهوة الذكية التي تستقبل طلبات تحضير القهوة قبل وصول الموظف إليها فعلياً.
اقرأ أيضاً: كيف يمكن للتكنولوجيا أن تساعد الموارد البشرية في استقطاب أفضل مواهب سوق العمل؟
كما ستمكن أجهزة إنترنت الأشياء أنظمة الإضاءة الذكية من التكيف مع الضوء الطبيعي وكثافة الموظفين، ما يضمن راحة مثالية مع خفض استهلاك الطاقة، وسيتكيف الأثاث الذكي المزود بأجهزة استشعار ذكية تلقائياً مع تفضيلات المستخدم، ما يعزز راحة بيئة العمل والإنتاجية.
ستدعم الشبكات والخدمات السحابية السريعة والموثوقة كل شيء، إذ ستعمل عمليات معالجة البيانات المكثفة على خوادم سحابية، بينما ستتيح شبكات الجيل الخامس (أو ما يخلفها) عالية النطاق الترددي وصولاً فورياً ودون أي تأخير إلى هذه الخدمات من أي مكان.
هذا يعني أن الموظفين يمكنهم التنقل بسلاسة بين العمل المكتبي الدائم والهجين وعن بعد باستخدام الأدوات والبيانات نفسها. على سبيل المثال، ستتيح تقنيتا الواقع المعزز والافتراضي للفرق حضور اجتماعات افتراضية غامرة من المنزل بسهولة العمل نفسها في المكتب.
اقرأ أيضاً: كيف تساعد استراتيجيات التحول الرقمي الشركات على النمو؟
مرونة المكاتب الذكية: كيف يمكن التكيف مع الاحتياجات المتنوعة؟
سيكون المكتب الذكي المستقبلي مرناً بطبيعته مصمماً لمواكبة الطبيعة الديناميكية للعمل الحديث والاحتياجات المتنوعة لقوى عاملة متعددة الأجيال، إذ إن المبدأ الأساسي هو أن المكاتب لن تكون مجرد مساحة عمل افتراضية بل يتوقع لها أن تتطور إلى وجهة عمل هادفة جذابة تقدم عروضاً قيمة فريدة تعزز الإنتاجية والابتكار.
التصميم الديناميكي
من المتوقع أن يفسح التصميم الذكي للمكاتب المستقبلية المجال لمساحات متعددة الاستخدامات يمكن تكييفها بسهولة لتلبية احتياجات العمل المختلفة. يشمل ذلك مساحات عمل مفتوحة ومناطق جلوس مريحة وقاعات مؤتمرات، وجميعها مدعومة بأجهزة إنترنت الأشياء.
كما سيسمح الأثاث الذكي والتخطيطات القابلة لإعادة التشكيل بإجراء تعديلات سريعة على بيئة العمل، مثل التحول إلى منطقة خالية من المشتتات للتركيز الفردي أو جلسات العصف الذهني التعاوني أو اجتماعات الفرق الكبيرة.
تساعد هذه القدرة على التكيف على تعظيم الاستفادة من المساحة المادية، خاصة مع توقع انخفاض الطلب على المساحات المكتبية في العديد من المدن الكبرى بحلول عام 2030 وفقاً لتقرير شركة ماكنزي.
اقرأ أيضاً: دراسة في الشرق الاوسط: الواقع الافتراضي يوفر بيئة أفضل لتدريب العمال على إجراءات السلامة
دعم سلس للعمل الهجين
تعد المكاتب الذكية ضرورية لدعم نموذج العمل الهجين السائد، حيث توفر تجربة سلسة للموظفين سواء كانوا في المكتب أو يعملون عن بعد. يتضمن ذلك أنظمة حجز ذكية للمكاتب وقاعات الاجتماعات، ما يسمح للموظفين بحجز المساحات بناءً على التوفر في الوقت الفعلي والاحتياجات المحددة.
المناطق المخصصة
إلى جانب المناطق المفتوحة والمرنة، ستتميز المكاتب الذكية بمساحات مصممة خصيصاً لتلبية أنماط عمل محددة ورفاهية الموظفين. على سبيل المثال، للتركيز العميق ستوفر المناطق الهادئة والحجرات العازلة للصوت مساحات هادئة للعمل المركز أو اجتماعات الفيديو الحساسة، ما يقلل بشكل فعال عوامل التشتيت ويحسن التركيز.
للاسترخاء والتواصل الاجتماعي ستكون مناطق الاستراحة المريحة والصالات غير الرسمية وغرف التأمل جزءاً لا يتجزأ من بيئة العمل، حيث تشجع هذه المساحات الموظفين على الاسترخاء واستعادة نشاطهم، وتعزز شعورهم بالانتماء للشركة، ما يضمن أن يكون المكتب محسناً، ليس فقط من حيث الإنتاجية بل من أجل الرفاهية الشاملة لشاغليه.
اقرأ أيضاً: هل يشكل الذكاء الاصطناعي تهديداً لوظائف البشر؟
كيف ستجعل المكاتب الذكية العمل أكثر راحة وكفاءة وتحفيزاً وأماناً للموظفين؟
يتمثل الهدف الأسمى للمكتب الذكي في تهيئة بيئة تمكن الموظفين من النجاح والشعور بالراحة والإنتاجية والأمان، حيث يعد هذا النهج المركز على الإنسان أمراً بالغ الأهمية، إذ يحول تجربة الموظف إلى رحلة شخصية وداعمة للغاية.
إذ من المتوقع أن تعطي المكاتب الذكية المستقبلية الأولوية للصحة البدنية. على سبيل المثال، ستستخدم أنظمة التحكم الذكي في المناخ وجودة الهواء للحفاظ على درجات الحرارة والرطوبة ومستويات ثاني أوكسيد الكربون المثلى مع تعديلها آنياً بناءً على معدل الإشغال، وستشغل مستشعرات جودة الهواء أجهزة التنقية عند الحاجة، ما يضمن بيئة تنفس صحية لجميع شاغلي المبنى.
علاوة على ذلك، ستدعم المكاتب الذكية الرفاهية بشكل فعال. على سبيل المثال، يمكن للمستشعرات الذكية اكتشاف علامات التعب أو التوتر مثل ملاحظة الكرسي الذكي وضعية الجلوس المنحنية والحث على أخذ استراحة لتقليل الإجهاد البدني، ما يساعد على تعزيز الإنتاجية والرضا الوظيفي والاحتفاظ بالموظفين.
اقرأ أيضاً: الاجتماعات مملة.. هل يمكن أن نجعلها أكثر تسلية ومرحاً؟
بالإضافة إلى ذلك في المكاتب الذكية المستقبلية ستبسط المهام الإدارية الروتينية من خلال الأنظمة الذكية. على سبيل المثال، ستستفيد أنظمة الحجز الذكية من تطبيقات الهاتف المحمول والمنصات الإلكترونية لإتاحة حجز سلس للمكاتب وقاعات الاجتماعات والمعدات، مع تحديثات فورية حول التوافر، ما يمنع تضارب المواعيد وإضاعة الوقت.
كما ستجري أنظمة إدارة الزوار أتمتة عمليات تسجيل الوصول غالباً باستخدام المصادقة البيومترية لإدارة وصول الزوار بأمان وكفاءة، ما يقلل طوابير الانتظار والأعباء الإدارية، بالإضافة إلى تولي خدمات الاستقبال المدعومة بالذكاء الاصطناعي التعامل مع الاستفسارات الروتينية وجدولة المواعيد وإدارة خدمات الطعام أو اللوازم المكتبية.
لا يمكن إغفال الأمن السيبراني، فمع تزايد ترابط المكاتب الذكية تصبح حماية البيانات الحساسة وضمان خصوصية الموظفين أمراً بالغ الأهمية، إذ تطرح المكاتب الذكية مخاطر سيبرانية جديدة بسبب انتشار أجهزة إنترنت الأشياء والمنصات السحابية، التي يمكن لمجرمي الإنترنت استغلالها للوصول إلى شبكات الشركة الحساسة أو بيانات الموظفين.
للحيلولة دون ذلك ستضمن المكاتب الذكية تدابير فعالة مثل تجزئة الشبكة وتطبيق نماذج أمان الثقة الصفرية والمصادقة الثنائية وتقنيات التشفير المتقدمة، للحد من الثغرات المحتملة مثل استخدام أنظمة الدخول البيومترية بدلاً من بطاقات الهوية المادية للدخول إلى الأنظمة والمباني المادية.
اقرأ أيضاً: نصائح لكتابة سيرة ذاتية تنال إعجاب الذكاء الاصطناعي
كيف ستسهم المكاتب الذكية في تقليل البصمة الكربونية وتحسين استخدام الموارد؟
ستكون الاستدامة مبدأً أساسياً في تصميم المكاتب الذكية خلال السنوات الخمس المقبلة مدفوعة بالمسؤولية البيئية، وستكون أنظمة إدارة الطاقة الذكية محركات أساسية من خلال التحكم في الإضاءة وأنظمة التدفئة والتهوية وتكييف الهواء وغيرها، ما يضمن عدم هدر الطاقة عند عدم شغل المكتب مثل إطفاء الأنوار تلقائياً في قاعة الاجتماعات فور إخلائها.
علاوة على ذلك، فإن التكامل مع مصادر الطاقة المتجددة مثل الألواح الشمسية التي تدار بواسطة برامج ذكية وأنظمة إدارة المباني، سيقلل بشكل أكبر الاعتماد على الوقود الأحفوري ويخفض البصمة الكربونية للشبكة الكهربائية بأكملها.
كما ستسهم أنظمة إدارة النفايات الذكية بشكل كبير في تعزيز الكفاءة البيئية، مثل تنبيه صناديق النفايات الذكية المزودة بمستشعرات مستوى الامتلاء فرق جمع النفايات عند وصول الصناديق إلى سعتها القصوى، ما يحسن مسارات جمع النفايات.
وسيولي تصميم المكاتب الذكية وبناؤه أولوية متزايدة للمحافظة على البيئة من البداية، ويشمل ذلك استخدام مواد مستدامة وصديقة للبيئة في البناء والأثاث لعكس التزام الشركات بالمسؤولية البيئية والمساهمة بفاعلية في تقليل البصمة الكربونية بما يتماشى مع أهداف المسؤولية الاجتماعية للشركات وجذب المواهب الواعية بيئياً. هذه الفائدة المزدوجة للكوكب وهامش الربح تضع الاستدامة ميزة تنافسية استراتيجية.
اقرأ أيضاً: ما هي الأسباب التي قد تؤدي إلى حدوث طفرة الإنتاجية المقبلة؟
التحديات التي تعوق انتشار المكاتب الذكية في السنوات الخمس القادمة
على الرغم من أن رؤية المكاتب الذكية وتطبيق حلولها أمر متوقع في السنوات القليلة القادمة، فإن تحقيقها لن يخلو من التحديات، وستكون معالجتها بشكل استباقي أمراً أساسياً لنجاح تنفيذها، إذ إنها ستكون مترابطة وليست معزولة، لذا من الضروري وجود استراتيجية شاملة لإدارة المخاطر تأخذ في الاعتبار العوامل المالية والتقنية والبشرية في آنٍ واحد.
وتعد التكاليف المالية في التكنولوجيا والبنية التحتية التحدي الأبرز، لا سيما بالنسبة للشركات الصغيرة والمتوسطة، إذ تشير أكثر من 54% من الشركات الصغيرة والمتوسطة إلى التكلفة المالية كعائق رئيسي أمام تبني حلول المكاتب الذكية. علاوة على ذلك يتطلب دمج التقنيات المتقدمة في بيئات العمل تحديثات كبيرة في البنية التحتية.
وفي حين أن الشركات الكبيرة التي تشكل ما يقرب من 67% من إجمالي سوق المكاتب الذكية عادة ما تكون لديها ميزانيات أعلى تجعلها تقبل على تبني المكاتب الذكية بسهولة أكبر، إلا أن التكلفة المالية لا تزال تمثل عائقاً مشتركاً للجميع.
اقرأ أيضاً: هل يمكن لشركة توظيف تستخدم الذكاء الاصطناعي أن تتنبأ بتنقُّلاتك الوظيفية؟
كما تظهر عملية تزايد الترابط وجمع البيانات على نطاق واسع المتأصلة في المكاتب الذكية ثغرات أمنية جديدة ومعقدة، إذ تشير أكثر من 51% من المؤسسات إلى تهديدات الأمن السيبراني كتحدٍ رئيسي في عمليات نشر المكاتب الذكية، إذ تدخل أجهزة إنترنت الأشياء خصوصاً فئات جديدة من المخاطر السيبرانية نتيجة لنقص شائع في ميزات الأمان المتقدمة وآليات التشفير القوية.
علاوة على ذلك، تعد مخاوف الخصوصية المحيطة بجمع بيانات الموظفين مثل التحليلات السلوكية مخاوف كبيرة، إذ يمكن أن يؤدي الإفراط في المراقبة إلى تآكل الثقة والإضرار بالروح المعنوية في بيئة العمل.
اقرأ أيضاً: أهمية تحديد أهداف الحكومة في سعيها نحو التحول الرقمي
الذكاء الحقيقي للمكتب الذكي ينبغي أن يكون محوره الإنسان
إن ضمان أن تعمل التكنولوجيا على تحسين التجربة الإنسانية في مكان العمل بدلاً من إضعافها أمر بالغ الأهمية لنجاح المكاتب الذكية، لذا ينبغي أن يعزز المكتب الذكي بشكل حقيقي الرفاهية والراحة والتواصل بين الموظفين ولا يكفي أن يكون متقدماً تكنولوجياً فقط.
على سبيل المثال، المكتب الذكي الذي يعطي الأولوية لجمع البيانات لتحقيق الكفاءة دون توضيح هدفه بشفافية أو الذي يؤتمت المهام لدرجة تفقد فيها التفاعلات طابعها الإنساني، يخاطر بفقدان قواه العاملة، ما يسلط الضوء على أن تطبيق التكنولوجيا دون تصميم مركز على الإنسان يمكن أن يضعف الثقة ويؤدي إلى عدم المشاركة، ما يزيد صعوبة إدارة التغيير.
أخيراً، في جوهره من المتوقع أن يعطي المكتب الذكي الأولوية لراحة الموظفين وعافيتهم الصحية والنفسية وتجاربهم الشخصية، مع دعم الاستدامة والكفاءة التشغيلية في الوقت نفسه، ما يمهد لعصر من الإنتاجية والابتكار والراحة غير المسبوقة في مكان العمل.
وستمكن المكاتب الذكية الموظفين من التركيز على العمل الإبداعي عالي القيمة مع تحولها لتصبح مراكز حيوية للتعاون والتعلم والرفاهية، ما يسهم في جذب أفضل المواهب الذي بدوره يسهم في نجاح الشركة، لأن مكان العمل أصبح ليس مجرد مكان لإنجاز العمل بل وجهة تتلاقى فيه التكنولوجيا والخبرة البشرية للعمل بكفاءة وفاعلية.