مع الانتشار المتسارع لاستخدام الذكاء الاصطناعي في القطاعات كافة، لم تكن الصحافة بمنأى عن هذا التحول الجذري، إذ دخلت الأدوات الذكية اليوم بقوة إلى صميم العمل الصحفي. وبعد أن اعتادت الصحافة الاعتماد على الحدس البشري والسبق والملاحظات المكتوبة والمكالمات الهاتفية العاجلة، تغيرت قواعد اللعبة، وأصبح للتكنولوجيا دور رئيسي في إيصال الحقائق إلى الناس، ولم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد وسيلة مساعدة، بل أصبح شريكاً في صياغة المحتوى ورصد الأخبار.
وبذلك، لم تعد الصحافة نتاجاً خالصاً للحكم البشري، لكنها تتشكل من خلال الخوارزميات والذكاء الاصطناعي أيضاً. وهذا ما أكده الأستاذ المشارك المقيم في جامعة نورثويسترن عضو مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع، الدكتور إيدي بورجيس-راي في قوله: "لطالما كانت الصحافة التقليدية وسيلة لمساعدة الجمهور على فهم التعقيدات الاجتماعية، لكن مع صعود الأتمتة والخوارزميات، بدأ هذا الدور يتغير، وأصبحت غرف الأخبار تعتمد على أدوات خوارزمية لتحسين سير العمل، وتخصيص المحتوى، وتحليل البيانات على نطاق واسع. فلم تعد الصحافة تشكل فقط من خلال البشر، بل أصبح المنطق الحاسوبي يؤدي دوراً في كيفية اكتشاف القصص وصياغتها وتوزيعها".
على الرغم من كفاءة الذكاء الاصطناعي في صياغة المحتوى، فإن هذا التوجه يطرح عدة تساؤلات حول شفافية الصحافة ومدى استقلاليتها. إذ يقول راي: "بينما تعد هذه الأدوات بالكفاءة، فإنها تطرح أيضاً أسئلة عميقة حول الاستقلالية التحريرية والشفافية والقيم المضمنة في الأكواد"، لكن يظل المشهد اليومي داخل كواليس غرف الأخبار حافلاً بالمسودات الأولية وتحليل البيانات، ما يحتاج إلى اللمسة البشرية لمراعاة الدقة والمصداقية. فإلي أي مدى يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي في المجال الصحفي؟
تهديد استقلالية التحرير: من يملك القرار؟
في عام 2023، أظهرت دراسة بعنوان "إحداث التغيير: دراسة عالمية لتعامل المؤسسات الإخبارية مع الذكاء الاصطناعي"، أن 75% من غرف الأخبار حول العالم تستخدم الذكاء الاصطناعي في مختلف المجالات التشغيلية، بما في ذلك جمع الأخبار وإنتاجها وتوزيعها. وأكد ثلث المشاركين في الدراسة التي شملت 105 مؤسسات إعلامية من 46 دولة، أن لديهم استراتيجية مؤسسية للذكاء الاصطناعي أو أنها في مرحلة التطوير. لكن كيف دخلت هذه الأدوات إلى خضم أعمال غرف الأخبار؟
يبدو أن هذا التقدم التكنولوجي ليس مجرد تطور رقمي، بل هو تحول معرفي يعيد تعريف من يصنع الخبر، إذ يقول راي: "إن أدوات الذكاء الاصطناعي استطاعت دخول غرف الأخبار بوعود عدة من مساعدة الصحفيين، وأتمتة المهام المتكررة، واكتشاف التوجهات، وتوليد النصوص. وفي أفضل حالاتها، توفر هذه الأدوات وقتاً للتقارير المتعمقة، أو توفر تحليلات يصعب الوصول إليها يدوياً. أما حالياً، فتستخدم هذه الأدوات بطريقة موثوقة في المهام العامة منخفضة الخطورة مثل التفريغ الصوتي، والترجمة، وتنسيق البيانات المهيكلة".
لم تفلح هذه الميزات التي يوفرها الذكاء الاصطناعي في طمأنة الصحفيين حول تأثير الذكاء الاصطناعي في غرف الأخبار، إذ أعرب 60% من المشاركين في الدراسة سالفة الذكر عن قلقهم من الآثار الأخلاقية لاستخدام هذه الأدوات على جودة التحرير، ما يؤثر في ثقة الجمهور. لذا، أكد راي أنه لا بد من إشراف بشري مكثف لضمان الدقة وملاءمة السياق الخبري، وشدد على ضرورة الحذر من الذكاء الاصطناعي في قوله: "إن هذه التقنيات تدربت على بيانات قد تعكس التحيزات الاعتيادية، وقد ترث نتائجها هذه التحيزات. لذا، يمكن للصحفيين الاستفادة من الذكاء الاصطناعي، ولكن عندما يكونون قادرين على تقييم افتراضاته، وتحدي حدوده، والحفاظ على سيطرتهم التحريرية".
وقد تحول الذكاء الاصطناعي من أداة تقنية إلى وسيلة لتعميق التجربة الإعلامية. لذا، نجد بعض المؤسسات العريقة مثل هيئة الإذاعة البريطانية تبنت مفهوم التخصيص القائم على الذكاء الاصطناعي باعتباره عنصراً جوهرياً من مهمتها في تقديم خدمة إعلامية شاملة، من خلال توصيل المحتوى الصحيح إلى الشخص المناسب في اللحظة المناسبة. لذا، استعانت بهذه التكنولوجيا لتقديم موجزات أخبار مخصصة مدعومة بالخوارزميات بهدف بناء علاقة أكثر تفاعلية مع جمهورها، دون التفريط بمبادئها التحريرية أو الوقوع في فخ التحيز الخوارزمي.
وفي هذا السياق، أوضح راي أن خوارزميات التوصية يمكنها تعزيز التفاعل على حساب الجودة، إذ توفر محتويات شيقة وعاطفية، ما يضعف تنوع الآراء، ويؤدي إلى تجزئة الجمهور. ومع استخدام تقنيات تحليل المشاعر ومعالجة اللغة الطبيعية، فإن هذه الأدوات توفر رؤى حول تفاعل الجمهور مع السرديات المختلفة، وأنماط اللغة، وشعبية القصص. لكن "المشاعر" ليست مؤشرات محايدة، فهي ثقافية وسياقية، إذ تقيس الخوارزميات مدى التفاعل دون تقييم جودة المحتوى، ما يؤدي إلى تفضيل القصص المثيرة للغضب أو الخوف. ومن الناحية الاقتصادية، فإن أغلب المؤسسات الصحفية تستحوذ على معظم عائدات الإعلانات، ما يدفعها إلى تعديل محتواها بما يتوافق مع منطق الخوارزميات، الأمر الذي يهدد الاستقلالية التحريرية بالمحصلة.
من الأرشيف إلى الخطر: الذكاء الاصطناعي في قفص الاتهام
تزداد الشكوك والتساؤلات حول استخدام الذكاء الاصطناعي في الصحافة وغرف الأخبار، فهل يتجرد الخبر من معناه عندما تكتب هذه الأدوات؟ أو كيف يمكننا الحد من مخاطرها؟ وما هي الحدود الأخلاقية التي يجب أن تخضع لها؟ وهل هناك ثغرات أمنية يجب التعرف عليها؟ لكن يبدو أن هذه المخاوف حول المخاطر المحتملة لن تحول دون استخدام الذكاء الاصطناعي في العمل الصحفي، إذ أشار تقرير صادر عن معهد رويترز لدراسة الصحافة إلى أن التأثير المباشر للذكاء الاصطناعي في غرف الأخبار يتمثل في أتمتة المهام الروتينية لسير العمل مثل النسخ، ووضع علامات على المحتوى، وإنشاء المحتوى الأساسي، ما قد يسهم في تحقيق مكاسب ضرورية، لا سيما مع تزايد الضغوط على مصادر الإيرادات التقليدية، الأمر الذي يتطلب بحثاً دقيقاً لتجنب أي مخاطر مستقبلية.
استغلال إرث الصحافة
في الوقت الذي تبنى فيه نماذج الذكاء الاصطناعي على كميات هائلة من البيانات، كان الأرشيف الصحفي يستغل بهدوء ودون إذن، إذ استخدمت الشركات التكنولوجية محتوى آلاف المقالات من مؤسسات إعلامية كبرى لتدريب نماذج لغوية متقدمة، دون استئذان أو تقديم تعويضات مالية أو معنوية. وها هي هيئة الإذاعة البريطانية ذاتها تهدد باتخاذ إجراء قانوني ضد شركة "بريبليكسيتي أيه آي" لحماية محتواها من الاستخراج غير القانوني دون إذن لتطوير تقنية الذكاء الاصطناعي. لكن هذه التدريبات لم تكن حديثة العهد، فقد سبق أن رفعت صحيفة نيويورك تايمز وغيرها دعاوى قضائية فيدرالية ضد شركتي أوبن أيه إي ومايكروسوفت، سعياً لإنهاء ممارسة استخدام قصصها لتدريب تشات جي بي تي.
وفي هذا الشأن، يقول راي: "هذه من أكبر التحديات الأخلاقية في العلاقة بين الصحافة والذكاء الاصطناعي، إذ اُستخدمت أرشيفات صحفية لتدريب النماذج دون إذن أو تعويض. وعلى الرغم من وجود اتفاقيات الترخيص مثل التي أبرمت مع فايننشال تايمز، ونيوز كورب، وذي أتلانتيك، فإن معظم النماذج كانت قد تدربت بالفعل. والأسوأ أن هذه المادة التاريخية تفصل عن سياقها وتستخدم خارج إطارها التحريري، ما يؤدي إلى تشويه أو تضخيم تحيزات قديمة دون علم المستخدم".
ثغرات أمنية
يؤدي الاعتماد المتزايد على الذكاء الاصطناعي إلى ثغرات أمنية رقمية، إذ يمكن التلاعب بهذه الأدوات بسهولة عن طريق ما يعرف بحقن الأوامر. فمن خلاله يمكن للمدخلات الماكرة خداع نموذج الذكاء الاصطناعي للكشف عن معلومات برمجت لحمايتها، وبالتالي يستهدف الوظائف الأساسية، ما يدفع الذكاء الاصطناعي إلى تنفيذ أوامر ضارة أو تسريب معلومات سرية. وقد أفاد راي بأن أدوات الذكاء الاصطناعي تواجه ثغرات جديدة مثل التلاعب بالمدخلات، وهجمات حقن الأوامر، والمراقبة، وحتى التزييف العميق، لذا يجب على غرف الأخبار تعزيز إجراءات الأمن السيبراني، وتدقيق أدوات الطرف الثالث، وتدريب الصحفيين على النظافة الرقمية.
وأضاف أن بعض المؤسسات استطاعت برمجة أدواتها مثل "كوبايلوت" لتجنب مشاركة البيانات الحساسة مع مزودي خدمات الذكاء الاصطناعي.
هل يحل الذكاء الاصطناعي مكان العنصر البشري في الصحافة؟
يتردد هذا السؤال كثيراً خاصة مع الانتشار المتزايد للذكاء الاصطناعي وقدرته على توفير الوقت والجهد. وهذا ما حاولت إحدى الصحف الإيطالية اللجوء إليه بهدف استغلال التكنولوجيا من ناحية، وزيادة التفاعل مع الجمهور من ناحية أخرى.
فقد أطلقت صحيفة إل فوليو الإيطالية تجربة استمرت شهراً كاملاً بعنوان "إل فوليو آي"، إذ أنتجت ملحقاً يومياً من 4 صفحات بواسطة تشات جي بي تي. وهدفت هذه المبادرة إلى استكشاف إمكانات الذكاء الاصطناعي في مجال الصحافة، بعد أن قدم الصحفيون البشريون الإرشادات وأشرفوا على المحتوى الذي ينتجه الذكاء الاصطناعي.
أظهرت هذه التجربة تحديات كبيرة مثل عدم دقة الحقائق، ونقص التقارير الأصلية، وغياب الدقة البشرية. وبدلاً من إنتاج محتوى بشري، فإن تشات جي بي تي أنتج كتابات مملة ومقالات تحتوي على أخطاء واقعية أو مطبعية، واخترع أحداثاً لم تحدث في الواقع.
تستبعد هذه التجربة الواقعية إمكانية الاستغناء عن العنصر البشري في مجال الصحافة، ويقول راي: "من الناحية التقنية، يمكن للذكاء الاصطناعي إنتاج نصوص متماسكة نحوياً. لكن الصحافة تتعلق أيضاً بالحكم والسياق والمسؤولية الأخلاقية".
يفتقر الذكاء الاصطناعي إلى الخبرة الحياتية، والوعي الثقافي، والالتزام الأخلاقي الذي ترتكز عليه الصحافة الجيدة. كما أن تنوع وجهات النظر ليس أمراً يمكن ترميزه بسهولة في نظام يتدرب على بيانات تاريخية.
وأضاف: "ينتج الذكاء الاصطناعي تقارير موثوقة في مجالات محدودة مثل نتائج الرياضة أو تحديثات الأسواق المالية. لكن التعزيز لا يعني الاستبدال، فالصحافة المؤتمتة بالكامل تهدد بتحويل الحرفة إلى إنتاج نمطي، يخلو من التحقيقات العميقة والوعي بالسياق والمسؤولية الأخلاقية".
وبحسب راي، فإنه حتى مع برمجة بوت صحفي وفقاً لقواعد السلوك الصحفي، فإن الذكاء الاصطناعي يمكنه اختلاق المعلومات أو الهلوِسة. ولا يمكنه إنتاج معلومات أولية مثل المقابلات أو الملاحظات الميدانية، وهي الأساس في السرد الصحفي. لذا، على الرغم من قدرته على محاكاة شكل الصحافة، فإنه لا يستطيع إعادة إنتاج قيمها أو عملياتها أو عمقها المعرفي. وقد أظهرت أبحاثه في صحافة البيانات أن الصحفيين والجمهور على حد سواء يرغبون في صحافة أكثر عاطفية وتعاطفاً.
مستقبل الصحافة بين الإنسان والذكاء الاصطناعي
يعد تشات جي بي تي وجيميناي وكلاود من أكثر أدوات النص التوليدي شيوعاً واستخداماً في غرف الأخبار، بينما ينتشر استخدام يونايتد روبوتس وصوفي آي أو في الأخبار المالية والرياضية، لكن الدمج الكامل لهذه الأدوات يظل غير متوازن وتجريبياً للغاية، وتحت إشراف بشري مكثف، وفقاً لما قاله راي.
من هذه المعطيات، حدد راي عدة مهارات يحتاج إليها الصحفي لتطوير عمله خاصة مع انتشار أدوات الذكاء الاصطناعي، وقال: "إلى جانب المهارات التقنية، سيحتاج الصحفيون إلى ما يُعرف بالحس النقدي للبيانات، من خلال القدرة على استجواب الخوارزميات، وفهم كيفية بناء مجموعات البيانات، والتساؤل عما تتجاهله هذه الأدوات، كما يجب أن يتعلموا كيفية التفاعل مع الأنظمة الذكية بفاعلية مع إدراك حدودها".
من هنا، تزداد أهمية الدور الذي تؤديه المؤسسات والجامعات لتدريب الصحفيين على استخدام هذه التقنية وتطوير مهاراتهم في البحث، وأكد راي أن بعض المؤسسات مثل مؤسسة قطر والجامعات تؤدي دوراً محورياً، باعتبارها مراكز للتفكير النقدي والقيادة الأخلاقية. وقال: "في جامعة نورثويسترن في قطر، نعامل الفصول الدراسية بوصفها مختبرات للمقاومة المعرفية. لا نكتفي بتعليم كيفية استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي، بل ننتقده ونختبر حدوده ونحلل آثاره الاجتماعية والسياسية"، إذ يمكن للذكاء الاصطناعي المساعدة على تحديد أنماط التضليل، والتحقق من صحة الادعاءات، واكتشاف التكرار أو التناقضات، لكن النجاح يعتمد على جودة وتنوع البيانات التي يتدرب عليها.
وعلى الرغم من زيادة سيطرة الأتمتة، فإن تبني بعض التكنولوجيات مثل الويب 3 والبلوك تشين يظل صعباً لتكلفته الباهظة وصعوبة تنفيذه، لذا على الأرجح أن النموذج الهجين الذي يجمع بين الإنسان والآلة والذكاء الاصطناعي هو المستقبل. يقول راي: "إن تجربة وسائل التواصل الاجتماعي علمتنا أن التفاؤل التكنولوجي غير المحسوب قد يؤدي إلى أضرار عميقة. لذا، نؤكد أن الذكاء الاصطناعي لا يمكنه إنتاج مواد أولية أو فهم الديناميكيات العاطفية والثقافية. ويجب ألا نتركه دون رقابة، فالشفافية والنزاهة هما أساس أي تجربة صحفية، لذا يمكن للمؤسسات الإشارة إلى ما ساعد فيه الذكاء الاصطناعي وما تولاه البشر، لتعزيز الثقة والمساءلة حتى لا يتحمل الصحفي أخطاءً لم يرتكبها".