تطور العمل عن بعد من مجرد حل مؤقت انتشر خلال انتشار جائحة كوفيد- 19 إلى معيار عمل دائم لمعظم الشركات في العالم، إذ تظهر استطلاعات الرأي والتقارير أن الموظفين أصبحوا يفضلون هذا النهج، ومن هذه التقارير تقرير مركز بيو للأبحاث لعام 2025 الذي وجد أن 75% من الموظفين الأميركيين يعملون عن بعد لبعض الوقت على الأقل، بينما ذكر نحو 46% منهم أنهم يفضلون العثور على وظيفة جديدة بدلاً من التخلي عن العمل بعد.
بالمثل أفاد تقرير المؤشر العالمي لشركة غالوب للأبحاث بأن 6 من أصل 10 موظفين قادرين على العمل عن بعد يرغبون في جدول زمني مختلط للعمل، وأن نحو ثلثهم يفضلون العمل عن بعد بالكامل، كما وجد استطلاع أجرته شركة بافر عام 2023 أن 98% من العاملين عن بعد يرغبون في مواصلة العمل عن بعد لبقية حياتهم المهنية.
بالنسبة للشركات فإنها أصبحت تسجل إنتاجية محسنة مدفوعة إلى حد كبير بالتعاون الجماعي القوي بدلاً من القرب المادي، إذ تشير أبحاث مكتب إحصاءات العمل الأميركي إلى وجود علاقة إيجابية بين زيادة العمل عن بعد ونمو الإنتاجية، كما أشار استطلاع أجرته شركة فليكس جوب إلى أن 77% من الموظفين يرون أن إنتاجيتهم أعلى عند العمل عن بعد.
تؤكد هذه الإحصائيات جميعها والتقارير ومؤشرات قياس الرأي أن فوائد نموذج العمل عن بعد أصبحت ملموسة للأطراف كافة، ومع ذلك فإن قيادة فرق العمل عن بعد تأتي بتحديات جديدة، إذ يفقد المدراء فرصة تواصل الموظفين مع بعضهم يومياً أو ما يسمى "دردشات مبرد المياه" التي تتيح لهم التطرق إلى مواضيع تتجاوز مهام العمل المعتادة، ما يسمح لهم بتكوين روابط قوية والعمل معاً بشكل أكثر فاعلية. يحتم ذلك على القادة إيجاد طرق جديدة لقياس الأداء والإنتاجية والمشاركة.
كيف فشلت الإدارة التقليدية في تتبع أداء العاملين عن بعد وإنتاجيتهم؟
بينما شكل العمل عن بعد فرصة لتحرير الموظفين من قيود المكاتب، فإنه كشف في الوقت نفسه عن هشاشة النماذج الإدارية التقليدية التي تأسست على فرضية أن "الوجود يساوي الإنتاجية"، إذ لطالما ارتبطت الإنتاجية في أذهان بعض المدراء بالصوت المسموع خلف الشاشة أو الأضواء الخضراء على تطبيقات الدردشة. لكن ماذا يحدث حين يعمل الموظف في صمت وهدوء بعيداً عن أنظار الرقيب؟
يصف موظف في إحدى الشركات الكبرى شعوره قائلاً: "أحتاج أحياناً إلى أن أبدو منشغلاً حتى لو لم يكن هناك ما أفعله فقط حتى لا يساء فهمي". هذا ما يعرف بمفهوم "مسرح الإنتاجية" الذي يظهر سلوكيات مثل تسجيل عمليات وصول غير ضرورية للأنظمة والظهور باستمرار عبر الإنترنت لخلق مظهر الانشغال، وهو سلوك دفاعي يظهر نتيجة غياب الثقة.
اقرأ أيضاً: ما هي المهارات التقنية التي يجب أن يكتسبها كل مدير في 2025؟
لكن من ناحية أخرى، يشعر بعض المدراء بالعجز، فكما تقول مديرة في قطاع تقني: "حين لا أستطيع رؤية فريقي يصعب علي الشعور بالإيقاع العام للعمل، لست متأكدة هل الأمور تسير بسلاسة أم أن هناك مشكلة تحت السطح".
هنا يتجلى التعقيد: المشكلة ليست في العمل عن بعد، بل في المقاييس الموروثة التي لم تتطور لتواكب بيئات العمل الجديدة والمتطورة؛ إذ إن فكرة أن الحضور يعني الإنجاز تُبقي الجميع في دوامة من الشك وسوء الظن وتضعف الروابط بين القادة والفرق، ومن ثم لا يكمن الحل في فرض المزيد من الرقابة، بل في إنشاء مقاييس أفضل وأكثر صلة بترسيخ المساءلة على النتائج الفعلية، لتعزيز بيئة مبنية على الثقة والاستقلالية بدلاً من بيئة عمل تتسم بالشك والامتثال فقط.
الإدارة التقليدية في تتبع الأداء والإنتاجية عن بعد غير كافٍ: البيانات هي المفتاح
في المشهد الديناميكي للعمل عن بعد يثبت اعتماد الإدارة التقليدية في تتبع الأداء والإنتاجية أنه غير كافٍ، في هذه الحالة تظهر البيانات كبوصلة لا غنى عنها، إذ توفر الوضوح وتمكن من اتخاذ القرارات الاستراتيجية التي تتجاوز الحدود الجغرافية.
وتتضح القوة التحويلية للبيانات في فهم الأداء عن بعد وتحسينه، ما يحول التركيز من مجرد الملاحظة إلى الذكاء القابل للتنفيذ، إذ تبلغ الشركات التي تستخدم أدوات مؤشر الأداء لتتبع الأداء باستمرار عن اتخاذ قرارات أسرع وتحسين التوافق عبر الفرق.
إذ صممت هذه الأدوات المدعومة بالذكاء الاصطناعي خصيصاً لتمكين المدراء من تتبع مؤشرات الأداء الرئيسية وقياس التقدم مقابل الأهداف المحددة، وتحليل بيانات الأداء في الوقت الفعلي. هذه القدرات التي توفرها أدوات مؤشر الأداء ليست مجرد ميزات بل تمثل تحولاً أساسياً في كيفية فهم الأداء وإدارته في بيئات العمل عن بعد.
توفر هذه الأدوات عند دمجها مع تحليلات البيانات المتقدمة ووظائف إعداد التقارير رؤى عميقة حول أداء الفرق العاملة عن بعد، وتتجاوز الملاحظات السطحية للكشف عن الأنماط والارتباطات الأساسية. هذا النهج القائم على البيانات يساعد المدراء على اتخاذ قرارات مستنيرة وتحديد فجوات الأداء بشكل فعال وتنفيذ استراتيجيات مستهدفة لتعزيز إنتاجية الفرق.
ويؤدي تطبيق استخدام البيانات إلى تحويل الإدارة بشكل أساسي من الإشراف التفاعلي إلى التحسين الاستباقي القائم على الرؤى، والانتقال إلى ما هو أبعد من مجرد رؤية العمل إلى فهم ديناميكياته بشكل حقيقي، ما يتيح موقفاً إدارياً استباقياً يتمثل في تحديد فجوات الأداء وتوقع المشكلات المحتملة وتنفيذ التدخلات المستهدفة قبل تصاعد التحديات، ومن ثم يتحول الدور الإداري من دور "مراقب" إلى "استراتيجي" مع التركيز على تحقيق نتائج محددة بدلاً من مجرد مراقبة النشاط.
اقرأ أيضاً: كيف تستخدم التكنولوجيا لتحسين إدارة فريقك؟ أدوات عملية لمدير ذكي
كيفية استخدام البيانات لإدارة الأداء والإنتاجية عن بعد
أظهرت استطلاعات الرأي التي أجرتها شركتا مايكروسوفت وسيتريكس أن ما يقرب من 54% من القادة لا يثقون بأن موظفيهم يعملون بجد عندما يعملون عن بعد مقارنة بالموظفين في المكاتب، وقد وصف هذا المستوى من عدم الثقة بأنه "جنون العظمة في الإنتاجية"، ويرجع ذلك غالباً إلى افتقارهم الرؤية الواضحة للعمل اليومي.
فالطرق التقليدية -مثل حساب الساعات أو تتبع الحضور في الموقع- ببساطة لا تجدي نفعاً في بيئات العمل عن بعد، ما يستلزم اتباع استراتيجيات مختلفة لتتبع أداء الموظفين وإنتاجيتهم من ضمنها:
فهم الأداء عن بعد ومقاييس الإنتاجية
قبل جمع البيانات من المهم تحديد ما يجب قياسه، إذ ينبغي أن تركز مقاييس الأداء عن بعد على المخرجات والنتائج وليس فقط على النشاط، فبحسب دليل شركة سلاك الخاص بتتبع الإنتاجية، ينبغي أن تتضمن مؤشرات الأداء معايير يمكن قياسها مثل الوقت المستغرق في المهمة والمواعيد النهائية وجودة مخرجات العمل.
من المهم أيضاً أن ترصد مقاييس الأداء عن بعد درجات التعاون والرفاهية وليس فقط الإنتاجية الخام، إذ تميل الفرق التي تتعاون وتتواصل بفاعلية إلى أن تكون أكثر إنتاجية بكثير من تلك التي لا تفعل ذلك، بغض النظر عن موقعها الجغرافي.
اقرأ أيضاً: كيف تسهم التكنولوجيا في تصميم هيكل تنظيمي وثقافة مؤسسية أكثر كفاءة؟
جمع البيانات ذات الصلة في بيئة العمل عن بعد
في بيئة العمل عن بعد يسجل جزء كبير من يوم العمل في البرامج، إذ يمكن أن تصبح كل رسالة أو اجتماع أو تحديث مهمة نقطة بيانات. على سبيل المثال، تقدم منصات الاتصال تحليلات حول حجم الرسائل ونشاط القناة والساعات النشطة، وتسجل أدوات مؤتمرات الفيديو مدة الاجتماعات وعدد المشاركين، بينما تسجل أنظمة إدارة المشاريع تعيينات المهام وأوقات إنجاز المهام.
من خلال تجميع البيانات يمكن للقادة تصور الاتجاهات. على سبيل المثال، تتبع عدد المهام المنجزة أسبوعياً ومتوسط أوقات الاستجابة، ما يتيح للمدراء معرفة الفرق التي تتعامل مع أعباء عمل ثقيلة أو المشاريع المتأخرة، وبمرور الوقت بناء معايير مرجعية مثل: "ينجز هذا الفريق عادة 5 مهمات أسبوعياً"، ما يسهل اكتشاف الانحرافات.
العمل على رؤى البيانات لتحسين الأداء والإنتاجية
عندما تسلط البيانات الضوء على مشكلة ما ينبغي للقادة اعتبارها حافزاً للبحث والتحسين. على سبيل المثال، إذا أظهرت التحليلات أن فريقاً ما يقضي وقتاً طويلاً أكثر من المعتاد في الاجتماعات بينما تتأخر نتائجها، فقد يجرب المدير اجتماعات أقصر أو تواصلاً غير متزامن، أو إذا أشارت بيانات إنتاجية المهام إلى وجود اختناق (مثل وجود عدد كبير جداً من المهام قيد المراجعة) فيمكن للمدير إعادة تعيين الأعضاء أو تقسيم المهام إلى أجزاء أصغر.
اقرأ أيضاً: كيف يُستخدم الذكاء الاصطناعي لتحسين أداء الموظف ومشاركته؟
أبرز أدوات تتبع الأداء والإنتاجية عن بعد
توجد الآن أدوات مميزة مدعومة بالذكاء الاصطناعي يمكن أن تكون بمثابة محركات قوية لجمع بيانات الأداء والإنتاجية عن بعد، ومنها:
- أنظمة إدارة الأداء المتكاملة: تعد ضرورية لتتبع الأهداف الفردية والجماعية بشكل فعال، بالإضافة إلى تبسيط تقييمات الأداء مثل أداة فيروكول بيرفورمانس التي تعمل على دعم تحديد الأهداف التعاونية، ما يضمن توافق الأهداف الفردية مع أهداف الشركة الأوسع.
- أدوات المراقبة عن بعد وتحليلات القوى العاملة: تقدم تحليلاً عميقاً للنشاط الإنتاجي مثل أداة آكتيف تارك التي توفر تحليلات شاملة للقوى العاملة، بما في ذلك تقارير الإنتاجية التفصيلية وتتبع الالتزام بالجدول الزمني وقدرات تتبع الوقت.
- أدوات تتبع الوقت وبرامج إدارة المشاريع: تعد أساسية لفهم كيفية قضاء الوقت وتقدم المشاريع، مثل أداة كلوكي فاي التي تتيح تتبع الوقت وتحديد الوقت غير المنتج أو فترات العمل الزائد، أو أداة إدارة المشاريع جيرا التي تتيح رؤية أساسية لتقدم المهام والمواعيد النهائية وسير العمل.
- منصات الاتصال والتعاون: تعد مصادر غنية لبيانات الأداء وتقدم العديد منها تحليلات مضمنة قوية توفر رؤى قيمة حول ديناميكيات الفريق مثل أداة مايكروسوفت تيمز.
اقرأ أيضاً: اعمل بذكاء: كيف تختار تطبيق إدارة المهام المناسب لعملك؟
نصائح لتنفيذ الاستراتيجيات المستندة إلى البيانات لتتبع الأداء والإنتاجية عن بعد
- التأكد من أن مؤشرات الأداء الرئيسية محددة وقابلة للقياس وقابلة للتحقيق وذات صلة ومرتبطة ارتباطاً مباشراً بالأهداف الاستراتيجية للشركة.
- إنشاء طرق مختلفة لجمع التعليقات النوعية وقياسها بشكل منهجي لفهم السبب وراء اتجاهات الأداء.
- تطوير سياسات خصوصية بيانات واضحة والحصول على موافقة صريحة من الموظفين للمراقبة وبناء الثقة والتخفيف من المخاطر القانونية.
- الاستثمار في الأدوات والتدريب الذي يتيح تحويل البيانات الأولية إلى رؤى قابلة للتنفيذ للمساعدة على اتخاذ القرارات الاستباقية.
- مراجعة بيانات الأداء بانتظام والاستعداد لتحسين الاستراتيجيات والتدخلات بناءً على الأنماط الناشئة والاحتياجات التنظيمية.
- تزويد كل من المدراء والموظفين بالمهارات اللازمة للتنقل في بيئات العمل القائمة على البيانات للنمو الشخصي والجماعي.
أخيراً، بين التحديات الجديدة والفرص غير المسبوقة يبدو أن إدارة الأداء عن بعد لم تعد مجرد مسألة أدوات أو تقنيات بل مسألة فلسفة جديدة في القيادة؛ فلسفة تنقل الإدارة من عقلية "المراقب" إلى عقلية "الشريك في الإنجاز". في هذا السياق لا تقاس الثقة بعدد مرات تسجيل الدخول ولا تُختزل الإنتاجية في عدد المهام المنجزة، بل في قدرة الفريق على التعلم والتكيف والنمو رغم التباعد.
البيانات مهمة، لكنها لا تروي القصة كاملة ما لم تُقرأ بعيون إنسانية. القائد البناء هو من يستخدم البيانات لفهم الفرق العاملة عن بعد لا للحكم عليها، ويبحث عن المعنى وراء الأرقام لا عن السلطة التي تمنحها، ما يحتم إعادة تعريف معنى العمل بحد ذاته: أن يكون بيئة للثقة والتطوير والشراكة سواء داخل المكتب أو عبر الشاشة.