اعتمدت الشركات منذ تحولها للرقمنة على دفاعات محيطية مثل جدران الحماية وبرامج مكافحة الفيروسات وأنظمة اكتشاف التطفل والوقاية منه وأدوات مثل التشفير وضوابط التحكم في الوصول لتأمين البيانات وحمايتها من الاختراق والامتثال للمعايير التنظيمية. وعلى الرغم من أن هذه الضوابط التقليدية لا تزال ضرورية، فإن الاعتماد عليها وحدها لم يعد كافياً في عصر أصبحت فيه البيانات أكثر سيولة بفعل الانتقال العالمي إلى الحوسبة السحابية.
إذ يشهد المشهد الرقمي تحولاً جذرياً، ما يدفع الشركات متعددة الجنسيات إلى إعادة النظر في نهجها في تأمين بياناتها، فالتركيز على أساليب الأمن الرقمي الكلاسيكية وإن كان لا يزال ضرورة، لم يعد كافياً للتعامل مع تعقيدات البيئات العالمية القائمة على البيانات، ما يحول الاهتمام نحو تحقيق السيادة الرقمية -أي التحكم الشامل في مصير الشركة الرقمي- كمبدأ ضروري لضمان الامتثال والحفاظ على الثقة.
ما هي السيادة الرقمية للبيانات؟ ولماذا أصبحت ضرورية للشركات متعددة الجنسيات؟
يعد فهم السيادة الرقمية أمراً بالغ الأهمية لأي مؤسسة متعددة الجنسيات، وهي مفهوم يتجاوز أمن البيانات بكثير ليشمل السيطرة الاستراتيجية على كامل النظام البيئي الرقمي للمؤسسة، وتعرف بشكل شامل على أنها القدرة على التحكم في مصير المؤسسة الرقمي بما في ذلك البيانات والأجهزة والبرامج التي تعتمد عليها وتستخدمها.
وفي جوهره يشير إلى أن المؤسسة تتمتع بالاختصاص والسلطة على كيفية استخدام بياناتها ومن يمكنه الوصول إليها، ويتعلق الأمر في الأساس بـ "الحفاظ على السيطرة في العالم الرقمي"، بما في ذلك القدرة على إدارة البيانات والتكنولوجيا والأنظمة الأساسية التي تدعم العمليات عبر الإنترنت.
ويتضمن هذا التحكم الواسع النطاق أيضاً ضمان أن تكون القرارات المتعلقة بالبيانات والتكنولوجيا واستخدام الإنترنت واضحة ومسؤولة ومركزة على الأشخاص المتأثرين بها، بهدف تحقيق مبدأ الاستقلال الاستراتيجي وتقرير المصير في المجال الرقمي. هذا يعني أن على المؤسسات تشكيل بيئتها الرقمية بشكل استباقي وتقليل الاعتماد على الآخرين بدلاً من الاعتماد كلياً على مزودي خدمات خارجيين قد لا تتوافق مصالحهم دائماً معها.
وتنبع أهميتها للشركات متعددة الجنسيات في ثلاثة أسباب رئيسية هي:
أولاً: الامتثال للوائح والقوانين الدولية
تفرض البيئات التنظيمية المتنوعة متطلبات متضاربة بشأن مكان وكيفية تخزين البيانات ومعالجتها. على سبيل المثال، يفرض قانون حماية المعلومات الشخصية وقانون الأمن السيبراني في الصين مراجعات صارمة للتخزين المحلي، بينما يفرض قانون حماية البيانات العامة في الاتحاد الأوروبي ضمانات صارمة لنقل البيانات.
ثانياً: مواجهة التهديدات السيبرانية المتطورة
تتطور باستمرار التهديدات السيبرانية المتزايدة من التجسس الذي ترعاه الدول إلى التصيد الاحتيالي المدعوم بالذكاء الاصطناعي، ويظل العامل البشري الحلقة الأضعف في مشهد التهديدات، إذ تتضمن 74% من خروقات البيانات استخدام الهندسة الاجتماعية أو بيانات اعتماد مسروقة.
ثالثاً: الحفاظ على ثقة الشركاء والعملاء
يعد الحفاظ على ثقة أصحاب المصلحة أمراً بالغ الأهمية، إذ يتوقع العملاء والشركاء الآن معالجة دقيقة لبياناتهم التي تحتفظ بها الشركة وضرورة التزام الشركات بمعايير أمنية مشددة فيما يتعلق بالوصول إلى البيانات وإدارتها للحفاظ على الثقة وإثبات السيطرة والامتثال في كل منطقة جغرافية.
اقرأ أيضاً: مقارنة بين مايكروسوفت 365 وجوجل وورك سبيس Workspace: أيّهما تختار لعملك؟
تحديات أمن البيانات المتصاعدة: لماذا لم تعد الطرق التقليدية كافية؟
تشكل اختراقات البيانات تهديداً متزايداً للشركات متعددة الجنسيات، ولا يقتصر تأثيرها في الخسائر المالية فحسب، بل يمتد ليشمل سمعة المؤسسة وثقة العملاء.
ارتفاع التكاليف المالية
- في عام 2024 وصل متوسط تكلفة اختراق البيانات عالمياً إلى مستوى قياسي بلغ 4.88 مليون دولار بزيادة قدرها 10% مقارنة بعام 2023.
تزايد حجم الحسابات المخترقة
- ارتفع عدد الحسابات المخترقة إلى نحو 5.5 مليارات حساب عام 2024، ومن المتوقع أن يرتفع الرقم إلى أكثر من مليار في السنوات القادمة مع وصول تكاليف الجرائم الإلكترونية إلى ما يقرب من 14 تريليون دولار بحلول عام 2028، ما يعكس تحدياً كبيراً ومتزايداً للأمن السيبراني.
تشير الإحصائيات المقلقة إلى أن تدابير الأمن السيبراني الموجودة الآن لم تعد كافية لمواجهة التهديدات السيبرانية الحديثة، إذ لم يعد التحدي يقتصر على تزايد الهجمات فحسب، بل يتمثل أيضاً في ارتفاع نسبة نجاحها، ما يستلزم من الشركات تحولاً استراتيجياً نحو تأكيد السيادة الرقمية بشكل فعال.
الاستراتيجيات الرئيسية لتحقيق السيادة الرقمية وحماية البيانات
يتطلب تحقيق السيادة الرقمية وحماية البيانات في البيئات المتعددة الجنسيات اتباع نهج استراتيجي متعدد الأوجه يدمج التدابير القانونية والتقنية والتنظيمية، وهي:
1. توطين البيانات وتحديد أماكن تواجدها
تشترط العديد من الدول الآن تخزين بيانات معينة (خاصة البيانات الشخصية أو المهمة) ومعالجتها محلياً، وفي الواقع لدى نحو نحو 75% من دول العالم قواعد خاصة بها لتوطين البيانات، لذا يتعين على الشركات متعددة الجنسيات تصميم بصمتها التكنولوجية لتشمل مراكز بيانات إقليمية أو مناطق سحابية تتوافق مع الأنظمة واللوائح.
في المنطقة العربية على سبيل المثال، تجبر القوانين الجديدة الشركات على ضرورة بناء أنظمة تكنولوجيا معلومات سيادية، ففي الإمارات العربية المتحدة تم توقيع اتفاقية بين قسم الحوسبة السحابية في شركة أمازون بالتعاون مع شركة الاتصالات الإماراتية إيه أند لإنشاء مركز سحابي محلي، مع ضوابط أمنية مصممة خصيصاً بحيث يمكن للعملاء الحكوميين والماليين استخدامها مع الالتزام بقواعد توطين البيانات وسيادتها في الدولة.
اقرأ أيضاً: ما هي المصانع المظلمة؟ وما هي أهم المجالات التي يمكن أن تعمل وفقها؟
2. حلول السحابة السيادية ومراكز البيانات المحلية
تُطلق شركات الحوسبة السحابية الرائدة عروض السحابة السيادية التي توازن بين الابتكار العالمي والتحكم المحلي والمتوافقة مع معايير الأمن القومي للدول، وفي الوقت نفسه تتبنى العديد من المؤسسات هياكل السحابة الهجينة بحيث تبقى أحمال العمل الحساسة على البنية التحتية الخاصة أو السحابة المحلية، ما يجعلها تحت أقصى قدر من عمليات التحكم، بينما تعمل الوظائف الأقل أهمية في السحابة العامة العالمية.
3. تعزيز وضع الأمن السيبراني باستخدام التقنيات المتقدمة
يعد تطبيق منهجيات الوصول إلى الشبكة دون ثقة القائم على مبدأ "لا تثق أبداً، تحقق دائماً" أمراً ضرورياً بحيث يضمن منح الوصول إلى الشبكة للأفراد والأجهزة الضرورية والمصادق عليها فقط، ومن ثم منع الوصول غير المصرح به وانتهاكات البيانات المحتملة.
4. إدارة مخاطر الموردين وسلاسل التوريد الآمنة
حصر برامج الجهات الخارجية وموفري الخدمات السحابية ثم تصنيفها حسب حساسيتها، والأهم من ذلك تصنيف وصول بيانات الموردين. على سبيل المثال، هل يمكن لهذا الشريك قراءة بياناتي أو نقلها؟ وتقييده إلى الحد الأدنى المطلوب.
5. التعاون بين القطاعين العام والخاص
لا يمكن لأي شركة صياغة سياسة البيانات العالمية بمفردها، لذا من الضروري التعاون مع المؤسسات الرائدة التي تتواصل مع الحكومات للمساعدة على مواءمة المصالح العامة والخاصة. على سبيل المثال، من خلال وضع معايير دولية للأمن السيبراني أو التفاوض على معاهدات نقل البيانات.
اقرأ أيضاً: كيف تسهم التكنولوجيا في تصميم هيكل تنظيمي وثقافة مؤسسية أكثر كفاءة؟
تحديات إرساء سيادة البيانات الرقمية للشركات متعددة الجنسيات
- النزاعات القضائية: من أكثر القضايا الشائكة التي تواجه تطبيق سيادة البيانات الرقمية، إذ غالباً ما تجد الشركات متعددة الجنسيات نفسها عالقة بين التزامات قانونية متنافسة. على سبيل المثال، قد تأمر السلطات الأميركية مزود خدمات السحابة بتسليم بيانات بموجب قوانين مثل قانون الحوسبة السحابية، ولكن يحظر نقلها في الوقت نفسه بموجب اللائحة العامة لحماية البيانات الأوروبية.
- بنية تحتية سحابية مجزأة: تستخدم العديد من الشركات الآن هياكل سحابية متعددة، حيث تعمل كل منطقة أو وحدة أعمال على منصات سحابية مختلفة لتلبية القيود المحلية، ما ينشئ نظاماً بيئياً مجزأ، ومن ثم يعد ضمان تطبيق سياسة متسقة عبر هذه البيئات كلها مهمة فنية وتشغيلية شاقة ويضيف تعقيداً إضافياً لمسألة سيادة البيانات.
- التكلفة والتعقيد: يعد بناء مراكز بيانات محلية أو توظيف خبراء متخصصين في كل منطقة جغرافية أمراً مكلفاً، وغالباً ما يعني توطين البيانات تكرار البنية التحتية والفرق في عشرات الدول، ما يضعف قدرة الشركات على تقديم خدمات سلسة ومتسقة عبر هذه الدول.
- تنوع القوانين التنظيمية: في الوقت الحالي يتعين على الشركات التعامل مع أكثر من 120 قانوناً وطنياً لخصوصية البيانات ونحو 137 دولة لديها قوانين لحماية البيانات، ولكل منها قواعدها الخاصة فيما يتعلق بجمع البيانات وتخزينها وتدفقها عبر الحدود، مما قد يؤدي إلى تعقيد إدارة الامتثال لكل منها بشكل كبير.
- موازنة الأمن مع مرونة الأعمال والابتكار: السعي نحو السيادة الرقمية، خاصة من خلال توطين البيانات بشكل صارم، يمكن أن يؤدي إلى إنشاء صوامع بيانات إقليمية، ما يعطل العمليات العالمية ويحد قدرة الشركات على الوصول إلى البيانات واستخدامها من بلدان أخرى.
اقرأ أيضاً: وراء الكواليس: كيف تدير التكنولوجيا تدفق 92 مليون مسافر عبر مطار دبي؟
شركات نجحت في تطبيق مفهوم سيادة البيانات الرقمية في المنطقة العربية
1. شركة الاتصالات السعودية (إس تي سي)- المملكة العربية السعودية
المبادرة: إس تي سي كلاود
الإنجاز: تطوير مراكز بيانات محلية متوافقة مع معايير الهيئة الوطنية للأمن السيبراني في المملكة العربية السعودية والإطار التنظيمي للحوسبة السحابية.
أهمية ذلك: تضمن خدمات شركة الاتصالات السعودية بقاء البيانات داخل الحدود السعودية وتلبية متطلبات السيادة الرقمية وتمكين العملاء الحكوميين والقطاع الخاص من الحفاظ على السيطرة على بياناتهم.
2. شركة أوريدو للاتصالات– قطر
المبادرة: مركز بيانات قطر والخدمات السحابية المدارة.
الإنجاز: تقديم خدمات سحابية مع استضافة البيانات محلياً والالتزام بقوانين حماية البيانات في قطر.
أهمية ذلك: دعم الاستراتيجية الوطنية للتحول الرقمي.
اقرأ أيضاً: ما هي الاتصالات الآمنة الكمية؟ وكيف ستسهم في مستقبل ما بعد الكم؟
3. شركة جي 42– الإمارات العربية المتحدة
المبادرة: السحابة السيادية والبنية التحتية للذكاء الاصطناعي.
الإنجاز: التركيز على حلول الحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي المحلية في ظل اللوائح التنظيمية للبيانات المحلية.
أهمية ذلك: مساعدة قطاعات الدفاع والصحة والطاقة على الحفاظ على التحكم في البيانات دون الاعتماد على الولايات القضائية الأجنبية بما يتماشى مع قوانين توطين البيانات في الدولة.
يعد مستقبل حماية البيانات للشركات متعددة الجنسيات معقداً ويتطلب نهجاً شاملاً، إذ لم تعد أساليب الحماية المعتادة كافية وحدها، ففي ظل التوترات الجيوسياسية المتزايدة والتهديدات السيبرانية المتطورة المدعومة بالذكاء الاصطناعي أصبحت السيادة الرقمية ضرورة حتمية لا يمكن التغاضي عنها.
إن الشركات التي تنجح في دمج مفهوم السيادة الرقمية في بنيتها التحتية وثقافتها التنظيمية ستكون في وضع أفضل بكثير للحفاظ على ثقة عملائها وشركائها وضمان استمرارية أعمالها وتعزيز قدرتها التنافسية في السوق العالمي، ومن ثم فإن الاستثمار في السيادة الرقمية اليوم هو استثمار في مستقبل آمن ومستدام.