في عام 2018 واجهت شركة ميتا (فيسبوك سابقاً) أزمة ثقة وسمعة كبيرتين عند اكتشاف أن شركة الاستشارات السياسية كامبريدج أناليتيكا جمعت بيانات شخصية لعشرات الملايين من مستخدمي منصتها دون موافقتهم، ولم يقتصر الكشف العلني للفضيحة على تضرر سمعة فيسبوك فحسب، بل أبرزت أيضاً العواقب الوخيمة التي يمكن أن تنشأ عن الممارسات غير الأخلاقية للشركات.
إذ أصبحت هذه الحادثة بمثابة قصة تحذيرية لفقدان المستخدمين والموظفين والشركاء الثقة بهذه الشركات. وفي عصر الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة تعتبر الثقة عملة ثمينة؛ إذ إن الشركات التي تتجاهل الأخلاقيات لا تخاطر فقط باحتمال دفعها غرامات تنظيمية، بل أيضاً بخسارة سمعتها وولاء عملائها ومعنويات موظفيها.
ما هي التكنولوجيا الأخلاقية؟ ولماذا تعد مهمة للمؤسسات والشركات؟
يشير مفهوم التكنولوجيا الأخلاقية إلى ضرورة تصميم الأدوات والأنظمة التكنولوجية وتطويرها ونشرها واستخدامها بما يتوافق مع المبادئ الأخلاقية والقيم الإنسانية، ويتجاوز مجرد الامتثال القانوني والأهداف التجارية أو التشغيلية ليشمل الآثار الأوسع للتكنولوجيا على الأفراد والمجتمعات والبيئة.
تشمل الجوانب الرئيسية للتكنولوجيا الأخلاقية ما يلي:
- خصوصية البيانات وأمنها: ضمان جمع البيانات الشخصية وتخزينها واستخدامها بمسؤولية وشفافية وحمايتها من الاختراق.
- الشفافية وسهولة الشرح: جعل آليات عمل الأنظمة التكنولوجية خاصة المعتمدة على الخوارزميات والذكاء الاصطناعي مفهومة للمستخدمين.
- الإنصاف وعدم التمييز: منع وتخفيف التحيزات الخوارزمية التي قد تؤدي إلى نتائج تمييزية.
- المساءلة: تحديد المسؤولية بوضوح عن تصميم التكنولوجيا وتشغيلها وآليات معالجة الأضرار.
- الفاعلية البشرية والتحكم: تصميم تكنولوجيا تمكن المستخدمين وتعزز القدرات البشرية بدلاً من إضعاف استقلاليتهم أو تحكمهم.
- الأثر الاجتماعي والبيئي: مراعاة العواقب الأوسع للتكنولوجيا على الأفراد والمجتمعات والبيئة.
- الشمولية وإمكانية الوصول: ضمان إتاحة التكنولوجيا للجميع بغض النظر عن خلفياتهم أو قدراتهم.
أهميتها للمؤسسات والشركات:
تكمن أهمية التكنولوجيا الأخلاقية للمؤسسات والشركات في عالمنا الرقمي المتنامي اليوم في العوامل التالية:
- بناء الثقة: تعد التكنولوجيا الأخلاقية حجر الزاوية لبناء الثقة مع العملاء والموظفين والجمهور.
- تخفيف المخاطر: تقلل المخاطر القانونية والإضرار بالسمعة وردود الفعل السلبية.
- ضمان الامتثال: تساعد على الامتثال للقوانين والمعايير الحالية والمستقبلية.
- تحفيز الابتكار: تدفع الشركات للتفكير في كيفية استخدام التقنيات، ما يؤدي إلى منتجات أكثر استدامة.
- جذب المواهب: تعزز ثقافة أخلاقية تجذب أفضل المواهب.
- خلق ميزة تنافسية: الشركات ذات النهج الأخلاقي تكتسب ولاء العملاء ومكانة ممتازة في السوق.
في جوهرها لا تعد التكنولوجيا الأخلاقية مجرد ضرورة أخلاقية، بل ضرورة استراتيجية للمؤسسات والشركات الساعية إلى الازدهار والمساهمة الإيجابية في العصر الرقمي، ويتعلق الأمر بضمان أن تخدم التكنولوجيا البشرية وليس العكس.
اقرأ أيضاً: هل نستطيع وضع قواعد أخلاقية للذكاء الاصطناعي؟
التكنولوجيا الأخلاقية في عصر الذكاء الاصطناعي: لماذا علينا الحذر أكثر؟
تتشابك أنظمة التكنولوجيا الحديثة بشكل وثيق مع حياة الناس من الأجهزة الذكية إلى الخدمات المدعومة بالذكاء الاصطناعي، ومع تحول كل قطاع بشكل جذري بفضل الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي والأتمتة، فإن أهمية التكنولوجيا الأخلاقية أكبر من أي وقت مضى.
إذ يقدم الذكاء الاصطناعي فوائد جمة، ولكن دون حواجز أخلاقية قوية يمكنه أيضاً أن يفاقم التحيز وينتهك الخصوصية، ما يتطلب من صناع الإقرار الاستجابة لهذه المخاطر من خلال الإصرار على تطبيق الشفافية وسهولة التفسير والرقابة البشرية في الأنظمة التي تستخدم البيانات الشخصية.
عملياً يعني هذا بناء خوارزميات يمكن تدقيقها لضمان العدالة أو اشتراط موافقة واضحة قبل استخدام البيانات الشخصية بدلاً من جمع البيانات بطريقة مبهمة، حيث تظهر الشركات التي ترسخ هذه المبادئ داخلياً لموظفيها وعملائها اهتمامها بتأثير منتجاتها، ويمكن أن يكون هذا النهج عاملاً أساسياً لبناء الثقة.
على سبيل المثال، تشير دراسة أجرتها شركة بي دبليو سي إلى أن 85% من العملاء يثقون بالشركات التي تستخدم الذكاء الاصطناعي بشكل أخلاقي، ما يبين أن التكنولوجيا الأخلاقية ليست مجرد إجراء دفاعي لتجنب السلبيات بل هي مولد نشط للميزة التنافسية.
بناء الثقة الداخلية والخارجية عبر التكنولوجيا الأخلاقية
كيفية بناء الثقة الداخلية
تعتمد الثقة داخل المؤسسة -بين الموظفين والفرق والقادة- بشكل كبير على الممارسات الأخلاقية في استخدام التكنولوجيا، ويزداد احتمال مشاركة الموظفين وتعاونهم وولائهم عندما يعرفون أن تكنولوجيا الشركة تتوافق مع القيم المشتركة، من الناحية العملية يعني أنه ينبغي للشركات تدريب الموظفين على أخلاقيات البيانات وإشراكهم في قرارات التصميم والحفاظ على الانفتاح بشأن كيفية تأثير الأدوات الجديدة على الوظائف.
تعد الشفافية في العمليات الداخلية وصنع القرار حتى عند نقل الأخبار الصعبة أو السلبية أمراً بالغ الأهمية يساعد على تعزيز بيئة يتولى فيها الأفراد مسؤولية أفعالهم وقراراتهم طواعية، وفيها تحاسب الأطراف المسؤولة باستمرار عن عيوب البرامج أو الأجهزة التي قد تؤدي إلى خروقات للبيانات أو عواقب وخيمة أخرى.
كما أن تطبيق العدالة في أنظمة الذكاء الاصطناعي يضمن معاملة عادلة، ويعد الذكاء الاصطناعي القابل للتفسير بالغ الأهمية في السياق التنظيمي. على سبيل المثال، إذا استخدمت أداة ذكاء اصطناعي لتقييم أداء الموظفين، فينبغي أن توفر معايير واضحة ومفهومة وأسباباً شفافة لتقييماتها، ما يقلل بشكل كبير القلق ويزيل الغموض عن قرارات الذكاء الاصطناعي، ومن ثم يبني ثقة أقوى في النظام بين الموظفين.
اقرأ أيضاً: تعرف إلى الباحثة السعودية لطيفة محمد العبد الكريم وعملها بمجال أخلاقيات الذكاء الاصطناعي
كيفية بناء الثقة الخارجية
الثقة الخارجية -من العملاء والشركاء والمستثمرين والجهات التنظيمية- لا تقل أهمية، إذ يتوقع المستهلكون اليوم الشفافية والصدق من العلامات التجارية على المستويات كافة خاصة في كيفية استخدام البيانات الشخصية والذكاء الاصطناعي، فعندما ترقى الشركات إلى مستوى هذه التوقعات من خلال التعامل مع البيانات بأخلاقيات، تجني عائداً من الثقة يترجم إلى ولاء أكبر.
تؤكد الدراسات القيمة التجارية للثقة، إذ وجد تحليل تقرير "أكثر الشركات أخلاقية في العالم" الذي أجراه معهد إيثيسفير أن الشركات التي تتمتع بالاحترام الأخلاقي تفوقت على منافسيها، ومن الناحية العملية يمكن أن تصبح التكنولوجيا الأخلاقية عاملاً مميزاً للعلامة التجارية.
ويشير تقرير لشركة برايفسي تراست صدر عام 2024 إلى أن 87% من المستهلكين يعطون الآن الأولوية للخصوصية عند اختيار المنتجات والخدمات، وأن الشركات التي تدمج ضوابط بيانات شفافة وتركز على المستخدم تشهد ارتفاعاً ملحوظاً في الاحتفاظ بعملائها.
كما تعد الشفافية ضرورية في بناء الثقة الخارجية؛ إذ إن مجرد معرفة أن الشركة تحافظ على سياسات شفافة تغرس ثقة أكبر في ممارساتها. على سبيل المثال، تستفيد شركة ستاربكس بشكل فعال من الذكاء الاصطناعي لتقديم توصيات مشروبات مخصصة وفقاً لتفضيلات العملاء ما يعني زيادة احتمالية حصولهم على اقتراحات لمنتجات ستنال إعجابهم وهو ما يساهم في زيادة الثقة بالعلامة التجارية.
وبالمثل يستخدم بنك إتش إس بي سي بوتات دردشة مدعومة بالذكاء الاصطناعي لإدارة استفسارات العملاء صممت خصيصاً لشرح أسباب تقديمها للإجابات، مثل توضيح سبب اعتبار معاملة معينة مشبوهة، ما حسن مستوى رضا العملاء بشكل ملحوظ وخفض شعورهم بالإحباط.
اقرأ أيضاً: ما تحدّيات حوكمة تكنولوجيا المعلومات في عصر الذكاء الاصطناعي؟
التحديات والحلول العملية في تطبيق التكنولوجيا الأخلاقية
يشكل تطبيق التكنولوجيا الأخلاقية تحديات كبيرة، إذ تعاني العديد من المؤسسات غموض الأخلاقيات، فهي تفتقر إلى قيم واضحة أو لا تعرف كيفية ترجمة المبادئ النبيلة إلى برمجيات ومواجهة تحديات مثل تعقيد أنظمة الذكاء الاصطناعي التي قد تنتج تحيزات، بالإضافة إلى غياب الرقابة والمساءلة والتعقيد التنظيمي.
وللتغلب على مثل هذه التحديات يمكن للشركات اتباع بعض الاستراتيجيات المختلفة من ضمنها:
- دمج الاعتبارات الأخلاقية في مرحلة مبكرة من دورة حياة المنتج بدلاً من تعديلها لاحقاً من خلال استخدام نهج "الأخلاقيات من خلال التصميم" لتقديم ضمانات مثل مرشحات الخصوصية في المنتجات، ما يقلل التكاليف اللاحقة ويظهر التزاماً حقيقياً بالقيم الأخلاقية.
- وضع إرشادات واضحة حول الذكاء الاصطناعي واستخدام البيانات وتدريب الموظفين عليها بانتظام، ووضع معايير مكتوبة واضحة لكيفية التعامل مع البيانات والإبلاغ عن المشكلات.
- تطبيق تدابير أمنية صارمة ووضع سياسات بيانات واضحة وشفافة وتمكين المستخدمين من التحكم بشكل أكبر في معلوماتهم الشخصية.
- فرض مراقبة وتدقيق مستمرين للخوارزميات للكشف عن التحيزات وتصحيحها لضمان الشفافية في عمليات صنع القرار الخوارزمي.
- دمج ميزات في منصاتها التكنولوجية بشكل استباقي تشجع على الاستخدام الواعي، مثل ميزة وقت استخدام الشاشة وحث المستخدمين على أخذ فترات راحة.
- إشراك المستهلكين والموظفين في عمليات تصميم الأدوات التكنولوجية عبر الاستبيانات أو جلسات التصميم المشترك، للكشف عن المخاوف مبكراً ما يضمن تحسين المنتجات ويشير إلى احترام آراء المستخدمين.
- إعطاء الأولوية لإنشاء تصاميم شاملة وتنفيذ ميزات سهلة الوصول لضمان خدمة التكنولوجيا للجميع، بمن فيهم الأفراد المعاقون، وتبني ممارسات صديقة للبيئة وتقليل النفايات الإلكترونية وتطوير تقنيات موفرة للطاقة بشكل نشط.
دراسات حالة في التكنولوجيا الأخلاقية وغير الأخلاقية
ممارسات أخلاقية
- شركة آبل: رسخت شركة آبل مكانتها كشركة تضع خصوصية المستخدم في صميم استراتيجيتها، من خلال مبادئ رئيسية مثل تقليل جمع البيانات والمعالجة على الجهاز والشفافية وتمكين المستخدم من التحكم الكامل في بياناته. وقد نالت بذلك إشادة واسعة كنموذج في ممارسات البيانات الأخلاقية ما عزز ثقة العملاء وولائهم.
- شركة فاير فون: شركة هولندية ناشئة اشتهرت بتصميمها الأخلاقي للهواتف الذكية بأجزاء قابلة للاستبدال ومواد معاد تدويرها بهدف تقليل النفايات الإلكترونية، ما جعلها تحوز العديد من الجوائز في مجال الاستدامة والأخلاق واكتساب ثقة وولاء قويين من المستهلكين المهتمين بالبيئة.
اقرأ أيضاً: أين وصلنا في سباق وضع قواعد لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي؟
ممارسات غير أخلاقية
- شركة أمازون: طورت الشركة محرك توظيف يعمل بالذكاء الاصطناعي لأتمتة اختيار المتقدمين، لكن النظام أظهر تحيزاً كبيراً ضد النساء، ما أدى إلى إلغاء المشروع. وقد سلطت الحادثة الضوء على مخاطر استخدام الذكاء الاصطناعي دون رقابة، وأبرزت أهمية تدريب الأنظمة على بيانات متنوعة مع إشراف بشري دائم.
- شركة كلير فيو أيه آي: بنت الشركة أداة مدعومة بالذكاء الاصطناعي مكنتها من جمع أكثر من 3 مليارات صورة من منصات التواصل الاجتماعي ومواقع الويب المختلفة دون الحصول على إذن أو موافقة صريحة من المستخدمين، ما أشعل عاصفة من الغضب العالمي ودفع إلى اتخاذ إجراءات قانونية واسعة النطاق تجاهها.
اقرأ أيضاً: تكنولوجيا مراقبة الموظفين: وسيلة لتعزيز الإنتاجية أمْ تهديد للخصوصية؟
لطالما تأخرت الاعتبارات الأخلاقية عن مواكبة الابتكار التكنولوجي، لكن تجارب مثل شركة آبل تثبت أن دمج المبادئ الأخلاقية يعزز الكفاءة والاستدامة. في المقابل تكشف حالات مثل شركة كلير فيو أيه آي مدى صعوبة استعادة الثقة عند فقدانها. ومن ثم لم يعد الالتزام بالأخلاقيات عبئاً بل أصبح محفزاً للابتكار وبناء الثقة، ما يجعله مصدراً لميزة تنافسية أساسية لا يمكن تجاهلها.