هل نستطيع التمييز حقاً بين الأدب البشري وكتابات الذكاء الاصطناعي؟

4 دقيقة
حقوق الصورة: shutterstock.com/kung_tom

أظهرت دراسة حديثة أن المستهلكين، رغم تأكيدهم تفضيل الأعمال الأدبية المكتوبة من قبل البشر، فإنهم لا يُغيّرون سلوكهم الحقيقي في القراءة أو الإنفاق عند التعامل مع نصوص مصنفة على أنها من إنتاج الذكاء الاصطناعي، حيث قضوا الوقت نفسه وأنفقوا المبلغ ذاته بغض النظر عن مصدر العمل، فيما أشار كثير منهم لاحقاً إلى أنهم كانوا سيدفعون أقل لو علموا مسبقاً بأن النصوص كُتبت بواسطة الذكاء الاصطناعي، ما يُسلّط الضوء على وجود فجوة بين التفضيلات المعلنة والسلوك الاستهلاكي الفعلي للبشر.

طفرة في المحتوى الإبداعي المولّد بالذكاء الاصطناعي

شهدت السنوات الأخيرة نمواً كبيراً في استخدام الذكاء الاصطناعي لإنتاج المحتوى الأدبي والإبداعي. لم يعد الأمر مقتصراً على ترجمة النصوص أو كتابة المقالات البسيطة فحسب، بل امتد إلى تأليف القصص والروايات والشعر بأساليب تُحاكي كبار الكتّاب. على سبيل المثال، أصبحت النماذج اللغوية الكبيرة قادرة على إنتاج قصص قصيرة بأساليب الكتّاب المعروفين بحيث يصعب تمييزها أحياناً عن الإنتاجات البشرية الحقيقية.

هذه الطفرة السريعة تطرح تحديات ثقافية واقتصادية، فمع توفر كم هائل من المحتوى المنتج بواسطة مختلف أدوات الذكاء الاصطناعي بتكلفة زهيدة، يثور التساؤل حول مصير الإبداع الإنساني: هل سيستمر الجمهور في تفضيل ما خطّه إنسان حقيقي أمْ أن الجودة والعمل الأدبي الجيد سيتغلب بغض النظر عن هوية المؤلف؟

اكتسبت هذه المسألة أهمية كبيرة خلال الأعوام الأخيرة لأن العديد من الدراسات السابقة تشير إلى أن الناس يعتبرون الفنون والآداب التي يبدعها البشر أكثر أصالة وأهمية من تلك التي تنتجها الخوارزميات. لكن مع التطور السريع لتقنيات الذكاء الاصطناعي وقدرتها المتزايدة على إنتاج نصوص وقصص وحتى أغانٍ بجودة عالية، أصبح من الضروري اختبار مدى صدق هذا التفضيل لأن الأمر بات يمس سُبل عيش ملايين العاملين في المجالات الإبداعية حول العالم.

اقرأ أيضاً: 10 أدوات ذكاء اصطناعي لجعل كتاباتك أكثر احترافية

اختبار واقعي لتأثير هوية المؤلف في تفاعل القرّاء

لقياس تأثير معرفتنا بهوية مؤلف العمل (إنسان أم ذكاء اصطناعي) في تقييمنا له وفي رغبتنا إتمام قراءته، أجرى الباحثان مارتن آبيل وريد جونسون، من كلية بودوين بالولايات المتحدة الأميركية، دراسة تختبر ما إذا كان تفضيل البشر على الذكاء الاصطناعي في الأعمال الإبداعية ينعكس فعلياً على السلوك الاستهلاكي.

تضمنت الدراسة التي حملت عنوان "تحيز الذكاء الاصطناعي في الكتابة الإبداعية: التقييم الذاتي مقابل الاستعداد للدفع"، التي نشرها معهد اقتصاديات العمل في مدينة بون الألمانية، تجربة عشوائية محكمة استعان فيها الباحثان بنموذج "جي بي تي-4" لتوليد قصة قصيرة جديدة بأسلوب كاتب روائي معاصر معروف، هو الكاتب جيسون براون. وبعد ذلك، اختارا عينة من الجمهور تتكون من 654 مشاركاً، وعُرض على كل منهم مبلغ مالي رمزي يُقدّر بنحو 3.5 دولارات مقابل قراءة القصة وتقييمها.

يشير الباحثان إلى أن التلاعب التجريبي كان في المعلومات المقدمة حول مؤلف القصة، حيث أخبروا نصف المشاركين فقط بأن القصة كتبها ذكاء اصطناعي، بينما أُبلغ النصف الآخر -على نحو مضلل- بأن جيسون براون هو من ألّفها.

بعد قراءة النصف الأول من القصة، طُلِب من المشاركين تقييم جودتها وفقاً لعدد من المعايير الذاتية، منها درجة التشويق العاطفي في القصة ومدى قابلية التنبؤ بأحداثها ومستوى الإيحاء والصور البلاغية فيها، بالإضافة إلى الإحساس بأصالة العمل أو افتقاره إليها.

في المرحلة التالية، سُئل المشاركون عن مدى رغبتهم في إتمام قراءة القصة مقابل ثمن، وذلك بطريقتين: أولاهما، تحديد المبلغ الذي يمكنهم التخلي عنه من مكافآتهم المالية (مبلغ الـ 3.5 دولارات) من أجل معرفة نهاية القصة. وثانيهما، تحديد الوقت الإضافي الذي سيكونون مستعدين لقضائه في أداء مهمة شاقة نسبياً (كمهمة تفريغ نصي) كنوعٍ من الجهد في سبيل الحصول على بقية القصة.

وفّرت هاتان الطريقتان مؤشراً على مدى استعداد المشاركين للدفع أو بذل الجهد مقابل مواصلة قراءة العمل الأدبي، وهو ما يعكس القيمة الفعلية التي يُقدّرونها للقصة. كما جرى تتبع الوقت الذي أمضاه كل مشارك فعلياً في قراءة النصف الأول من القصة باعتباره دليلاً إضافياً على مستوى التفاعل والاهتمام.

اقرأ أيضاً: الإبداع البشري والذكاء الاصطناعي: تكامل أمْ صراع في صناعة المحتوى؟

فجوة بين التقييمات الذاتية وسلوك القراء

يقول الباحثان إن التحليل الدقيق كشف بعض النتائج المثيرة للاهتمام، إذ أوضح وجود فجوة واضحة بين التقييمات الذاتية وسلوك القراء الفعلي. فقط مال القرّاء إلى منح القصة تقييماً أدنى عندما عرفوا أو اعتقدوا أنها من إنتاج الذكاء الاصطناعي. ووجدت المجموعة التي أُبلغت بأن المؤلف ذكاء اصطناعي أن القصة أكثر قابلية للتنبؤ وأقل إثارة وأقل جودة من حيث الأسلوب والعمق، كما قيّمتها بأنها أقل أصالة مقارنة بتقييمات المجموعة التي ظنت أن الكاتب إنسان.

وتتوافق هذه النتائج مع التوقعات السابقة بوجود تحيّز ضد إبداعات الذكاء الاصطناعي، أي أن مجرد معرفة القارئ بأن العمل غير بشري تدفعه لنقده بصرامة أشد والنظر إليه باعتباره أقل قيمة من الناحية الإبداعية.

لكن المفاجأة ظهرت في سلوك المستهلك الفعلي. فعلى الرغم من الفارق الواضح في التقييم النظري، لم يُسجل أي فرق يُذكر بين المجموعتين في مقدار الوقت أو المال الذي استثمره المشاركون في قراءة القصة وإنهائها. وعند سؤالهم لاحقاً، قال ما يقرب من 40% منهم إنهم كانوا سيدفعون أقل لو كُتبت القصة نفسها بواسطة الذكاء الاصطناعي بدلاً من الإنسان، ما يُسلّط الضوء على عدم وعي الكثيرين بالتناقضات بين تقييماتهم الذاتية وخياراتهم الفعلية. بكلمات أخرى، كان هناك تفاوت بين ما يعتقده القرّاء أو يقولونه عن أنفسهم وبين ما يفعلونه على أرض الواقع. وهذه الفجوة بين التقييمات الذاتية والخيارات الفعلية كانت أبرز استنتاجات الدراسة.

تُسلّط هذه النتائج الضوء على جوانب نفسية واقتصادية مهمة في تفاعلنا مع الأعمال الإبداعية. ويقول الباحثان إن الآثار المحتملة لهذه الفجوة على مستقبل الأعمال التي يبدعها الإنسان عميقة، لا سيما في ظل إمكانية أن تغرق الأعمال التي يولّدها الذكاء الاصطناعي السوق وبتكلفة أقل بكثير، كما تشير نتائج الدراسة إلى أن الطريق أمام العمل الإبداعي البشري قد يكون أكثر صعوبة مما أشارت إليه الأبحاث السابقة.

قد يُفسّر هذا التناقض وجود هوة معرفية: فبعض الأفراد ربما غير واعين بأن سلوكهم الفعلي يناقض ما يظنون أنهم يفضّلونه أو ربما يرجعون الأمر إلى أن القصة أعجبتهم إلى حد يفوق تحيزهم. وهناك تفسير آخر متعلق بانخفاض التكلفة: فحين يكون المحتوى متاحاً بسهولة وبتكلفة زهيدة، قد تقل حساسية المستهلك لهوية مؤلفه.

المحتوى محمي