تكثّف الصين جهودها في مجال الذكاء الاصطناعي بشكلٍ غير مسبوق، إذ حظي بوت الدردشة "ديب سيك" باهتمام عالمي في مطلع هذا العام بعد الضجة التي أحدثها في الأسواق العالمية وانتشاره في العديد من المنتجات، قبل أن تتحول الأنظار إلى وكيل الذكاء الاصطناعي "مانوس" الذي تشير بعض التقارير إلى أنه قد يكون "أول وكيل ذكاء اصطناعي عام". كما تشهد الشركات الصينية الناشئة في هذا القطاع تدفقاً متزايداً للاستثمارات، ما يعزّز المنافسة المحلية في ظل وجود أكثر من 4500 شركة متخصصة في تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي وبيعها. وفي السياق ذاته، تستعد مدارس بكين لإدراج مقررات الذكاء الاصطناعي ضمن مناهج التعليم لطلاب المرحلتين الابتدائية والثانوية.
الصين تُغيّر المشهد التكنولوجي العالمي
إذا أجرينا بحثاً سريعاً عن أبرز أخبار الذكاء الاصطناعي خلال الأسبوع الماضي، سنجد أن شركة بايدو (Baidu) الصينية أطلقت نموذجين جديدين، أحدهما يحمل اسم إرني إكس 1 (Ernie X1)، وهو نموذج استدلالي يعمل بطريقة مشابهة لنموذج ديب سيك آر1 (DeepSeek R1)، ولكن بنصف تكلفة تطويره فقط. في الوقت نفسه، طوّر فريق بحثي من جامعة تسينغهوا الصينية إطاراً جديداً للذكاء الاصطناعي يحمل اسم تشيتو (Chitu)، وهو إطار عمل استدلالي عالي الأداء للنماذج اللغوية الكبيرة (LLMs)، يمكنه العمل على رقائق مصنّعة محلياً، ما يشكّل تحدياً لهيمنة وحدات معالجة الرسومات هوبر (Hopper) التي طوّرتها إنفيديا. كذلك، أعلنت مجموعة "علي بابا" الصينية إطلاق نموذج ذكاء اصطناعي يحمل اسم آر1-أومني (R1-Omni)، يتميز بقدرته على تحليل المشاعر. واستعرض باحثو مختبر تونغي (Tongyi) التابع للشركة قدرة النموذج على تحليل الحالة العاطفية للأشخاص في مقاطع الفيديو، بالإضافة إلى وصف ملابسهم وبيئتهم المحيطة.
تعكس هذه التطورات المتسارعة اتجاهاً جديداً في مشهد الذكاء الاصطناعي، الذي لم يعد حكراً على الشركات الأميركية كما كان قبل نحو عامين فقط، عندما كانت أبرز الابتكارات تتركز في الولايات المتحدة، لا سيما بين شركتي "أوبن أيه آي" وجوجل. اليوم، تواجه الشركات الأميركية منافسة متزايدة من نظيراتها الصينية، مثل علي بابا وبايدو وهواوي وتينسنت وديب سيك، التي تؤكد أن نماذجها تضاهي أداء أفضل النماذج الأميركية، مع ميزة إضافية وهي انخفاض التكلفة.
"ديب سيك" تفرض حضورها في الصين
تشير التقارير إلى أنه من بين النماذج الصينية المتنافسة كافة، تبدو نماذج "ديب سيك" هي الأكثر نجاحاً داخل البلاد، حيث سارعت مئات الشركات الصينية العاملة في مختلف القطاعات، من السيارات والهواتف إلى المستشفيات، إلى دمج تقنيات "ديب سيك" في منتجاتها وخدماتها. كما أن بعض شركات التكنولوجيا العملاقة، مثل تنسنت، بدأت باعتمادها على الرغم من امتلاكها نماذج خاصة بها.
وتقول "ديب سيك" إن نموذجها "آر1" يتمتّع بقدرات تُنافس نموذج الاستدلال أو1 (o1) الذي طوّرته "أوبن أيه آي"، ولكن بتكلفة لا تتعدى 5% من تكلفة "أو1". وقد يكون انخفاض هذه التكاليف هو السبب وراء إعلان مؤسس الشركة، ليانغ وينفنغ، عدم تسرعه في السعي للحصول على استثمارات، ورغبته في الحفاظ على الطابع العلمي الذي أكسبه شهرة عالمية.
بالإضافة إلى انخفاض التكاليف، فإن أحد الأسباب الرئيسية لاعتماد نماذج "ديب سيك" بسرعة يتمثل في كونها برمجيات مفتوحة المصدر، ما يعني أنه يمكن لأي شخص تنزيلها وتعديلها واستخدامها، مقابل تحمل تكلفة القدرة الحوسبية فقط. في المقابل، فإن معظم النماذج الأميركية المماثلة لها في القدرات (باستثناء نماذج لاما (Llama) التي تطوّرها شركة ميتا) هي نماذج مغلقة المصدر، ما يحدُّ من إمكانات استخدامها ويرفع التكاليف على المستخدمين. وقد أقرّ الرئيس التنفيذي لشركة "أوبن أيه آي"، سام ألتمان، مؤخراً بأن شركته كانت "على الجانب الخطأ من التاريخ" فيما يخصُّ سياسة المصادر المفتوحة.
ويرى خبراء أن التدافع على استخدام تقنيات "ديب سيك" من قِبل القطاعين الخاص والعام يعكس توجهاً أوسع في الصين مفاده أن الميزة التنافسية القادمة للبلاد تكمن في توسيع التطبيقات العملية للذكاء الاصطناعي، بدلاً من التركيز فقط على زيادة حجم النماذج لتحسين أدائها.
استثمارات ضخمة وقوة عاملة متخصصة
تنظر بكين إلى تطوير الذكاء الاصطناعي باعتباره محركاً أساسياً للنمو الاقتصادي وركيزة استراتيجية في المنافسة التكنولوجية العالمية. ونتيجة لذلك، تتدفق الاستثمارات الحكومية والخاصة بكثافة لدعم هذا القطاع. على سبيل المثال، بلغت قيمة صناديق الاستثمار الحكومية الصينية 912 مليار دولار خلال العقدين الماضيين، وهو ما يُضاهي إنفاق الولايات المتحدة على السياسات الصناعية الحكومية كلّها خلال الفترة نفسها. وقد خُصص 23% من هذا المبلغ للشركات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي. كما أعلنت الحكومة الصينية، مطلع هذا الشهر، تأسيس صندوق لرأس المال الاستثماري بقيمة تريليون يوان (140 مليار دولار) مخصص للاستثمارات التي تركّز على التكنولوجيا، وذلك بعد أسابيع فقط من إنشاء صندوق آخر بقيمة 60 مليار يوان لدعم الذكاء الاصطناعي.
علاوة على ذلك، يشير تقرير صادر عن شركة الاستشارات "أكسنتشر" إلى أن 87% من الشركات الصينية تعتزم زيادة استثماراتها في الذكاء الاصطناعي هذا العام، كما أظهرت بيانات صادرة عن شركة الأبحاث السوقية سي سي آي دي كونسلتينغ (CCID Consulting) أن صناعة الذكاء الاصطناعي في الصين ستشهد نمواً كبيراً خلال السنوات العشر إلى الخمس عشرة المقبلة، مع توقعات بوصول حجمها السوقي إلى 1.73 تريليون يوان (237.4 مليار دولار) بحلول عام 2035، ما يمثّل 30.6% من إجمالي السوق العالمية.
بالإضافة إلى الاستثمارات، يعتمد نجاح الصين في هذا المجال على امتلاكها عدداً كبيراً من المتخصصين، حيث تخرّج أكثر من 3.5 مليون طالب عام 2020 بشهادات في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (STEM)، وهو عدد يفوق أي دولة أخرى في العالم. وتعمل بكين على استثمار هذا التفوق لتعزيز مكانتها.
وتتجلى إحدى ثمار هذا التفوق العددي في تقرير صادر عن المنظمة العالمية للملكية الفكرية، العام الماضي، الذي أشار إلى أن عدد ابتكارات الذكاء الاصطناعي التوليدي الصينية بين عامي 2014 و2023 يزيد بمقدار 6 أضعاف على الابتكارات الأميركية، التي تحتل المركز الثاني عالمياً.
الرقائق المتقدمة: معضلة صينية وأميركية
أذهلت هذه التطورات خبراء وادي السيليكون الذين لم يتوقعوا أن تلحق الصين بالركب بهذه السرعة. وتبدو بعض التخوفات واضحة حتى بين الشركات الأميركية الكبرى، كما يتضح من وصف شركة "أوبن أيه آي"، الأسبوع الماضي، لـ "ديب سيك" بأنها مدعومة من الدولة الصينية وخاضعة لسيطرتها، وتوصيتها الحكومة الأميركية بالنظر في حظر نماذجها ونماذج الجهات المدعومة من الصين.
ومع ذلك، قد يواجه هذا الاندفاع الصيني السريع في مجال الذكاء الاصطناعي عقبة كبيرة قريباً: الوصول إلى الرقائق المتطورة. في الوقت الحالي، لا تزال الإمدادات كافية، خاصة وأن الشركات الصينية قادرة على شراء رقائق إتش 20 (H20) من إنفيديا، وهي أقل قوة من تلك التي حظرت أميركا بيعها للصين لكنها تفي بالغرض. وتشير التقارير إلى أن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تدرس فرض قيود أشد على الصين، بما في ذلك تقييد وصولها حتى إلى هذا النوع من الرقائق. في الوقت نفسه، تواجه الشركة الصينية المصنّعة للرقائق، بما فيها إس إم آي سي (SMIC) المملوكة للدولة، تحديات كبيرة في الطاقة الإنتاجية، كما أن أفضل الرقائق المحلية من شركة هواوي لا تزال متأخرة بشكلٍ ملحوظ عن نظيراتها من إنفيديا من حيث الأداء.
لكن ثمة معضلة تواجه فرض المزيد من القيود الأميركية لكبح تقدم الصين في هذا المجال، إذ إن زيادة القيود قد تؤدي إلى نتيجة عكسية. فتشغيل النماذج اللغوية الكبيرة، مثل نماذج "ديب سيك"، بعد تدريبها، لا يتطلب بالضرورة أجهزة متطورة. وقد أمّنت "ديب سيك" بالفعل إمكانية تشغيل نماذجها على رقائق وحدة المعالجة العصبونية "آسيند" من هواوي، التي تنتجها شركة "إس إم آي سي". وفي حال اكتسبت النماذج اللغوية الصينية حصة سوقية كبيرة، وفي غياب منافسين قادرين على تقديم أداء مماثل بتكلفة منخفضة للغاية، قد يبدأ المستخدمون حول العالم بالاعتماد على رقائق هواوي، ما قد يؤدي إلى تدفق رأسمالي ضخم يعزّز نمو الشركات الصينية، بينما يلحق الضرر بشركات مثل إنفيديا وإنتل وسامسونغ و"تي إس إم سي"، التي تشكّل العمود الفقري للهيمنة الغربية على صناعة الرقائق.