يظل الذكاء الاصطناعي محط العديد من التساؤلات خاصة فيما يتعلق بالصحة العامة، وتأثيره في تحديد نمط التدريبات والغذاء. وبالتالي، فإن هذه التكنولوجيا لا يمكن أن تحل محل المدرب أو الحكم الذي يمثّل الهيئة الرسمية التي يجب أن تتحمل مسؤولية القرارات، أو استشاري التغذية.
يسهم الذكاء الاصطناعي في الرياضة بطريقة مبتكرة، خاصة أنها تُعدّ ميداناً غنياً بالبيانات، وأصبحت التطبيقات التي تعتمد على هذه التكنولوجيا جزءاً من روتين اللياقة البدنية اليومي من خلال اقتراح التمارين التي تلائم كل فرد وأوقات النوم والحميات الغذائية، كما تؤدي دوراً محورياً في دعم إنجازات الفِرق الرياضية الكبرى من خلال تحليل أداء اللاعبين وتقديم توصيات مدروسة لتحسين لياقتهم البدنية وتقليل مخاطر الإصابة.
وقد استطاعت تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في الأجهزة القابلة للارتداء، تغيير طرق تحسين اللياقة البدنية من خلال خوارزمياتها التي توفّر بيانات دقيقة ومخصصة لتحسين خطط التمرين ومتابعة التقدم وتعزيز الصحة بصفة عامة. إذ يقول الدكتور باول نورمان غريمشاو في كلية العلوم الصحية والحيوية بجامعة حمد بن خليفة عضو مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع، إن هذه الأجهزة التي تتضمن الساعات والخواتم وسماعات الأذن توفّر كميات هائلة من البيانات الحيوية للأفراد، ويمكنها مساعدة الرياضيين والمدربين أيضاً على تحقيق أفضل أداء.
الذكاء الاصطناعي لتحسين الرياضة
تتمتّع نماذج الذكاء الاصطناعي بالقدرة على تقديم ملاحظات في الوقت الفعلي لكمية هائلة من البيانات المجمعة. ومن المتوقع أن تصل القيمة السوقية للذكاء الاصطناعي في الرياضة إلى نحو 29.7 مليار دولار بحلول عام 2032.
وقد تطورت هذه التكنولوجيا باعتبارها ضرورة لإعادة هيكلة المشهد الرياضي بعدة طرق، منها:
تطبيقات اللياقة البدنية
تستخدم تطبيقات اللياقة البدنية تحليلات البيانات والخوارزميات المدعومة بالذكاء الاصطناعي لوضع خطط التمارين مخصصة لكل فرد. وفي نهاية المطاف، يمكن لهذه التطبيقات أن تصبح مدرباً وخبير تغذية على مدار الساعة. على سبيل المثال، اعتبر مؤسس شركة ووب (Whoop)، ويل أحمد، الذكاء الاصطناعي التوليدي عاملاً حاسماً في نجاح التطبيق، وقال في ملتقى مركز طلاب المدينة التعليمية بمؤسسة قطر، إن التطبيق يمكّن المستخدمين من التفاعل معه وطرح الأسئلة حول بياناتهم، مثل اقتراح التمارين المناسبة، وأوقات النوم، وأسباب الشعور بالإرهاق، ومن ثَمَّ يمكن للتطبيق الإجابة عن هذه الأسئلة بناءً على بيانات المستخدم التي يمكنه الوصول إليها، موضحاً أن التطبيق يتمتّع بدقة كبيرة في تتبع معدل ضربات القلب وأوقات النوم.
التكنولوجيا القابلة للارتداء
تشهد التكنولوجيا القابلة للارتداء نمواً ملحوظاً، ومن المتوقع أن يتجاوز نمو السوق العالمية لهذه الأجهزة 115 مليار دولار بحلول عام 2030. توفّر هذه التكنولوجيا للرياضيين والمدربين الأدوات التي يحتاجون إليها للحفاظ على صحتهم والارتقاء بأدائهم، إذ تراقب لياقتهم البدنية وبياناتهم البيومترية مثل تقلب معدل ضربات القلب وأنماط النوم. ويقول غريمشاو إن بعض الأجهزة تسهم في قياس ضربات القدم في الرياضات التي تتطلب ركضاً. على سبيل المثال، يوجد هذا الجهاز على مضرب تنس اللاعب الإسباني رافاييل نادال، ليسهم في تحسين أدائه من خلال تحليل البيانات.
ويمكن لهذه التكنولوجيا معرفة سرعة التأرجح في رياضة الغولف، فضلاً عن مقارنة أداء الرياضي خلال فترة زمنية محددة بزملائه أصحاب الأداء الأفضل، ما يساعد المدربين على تحديد برامج التدريب التي يجب اتباعها وتغييرها إذا تطلب الأمر ذلك.
تحليل الأداء
يمكن للأندية الرياضية استخدام الذكاء الاصطناعي لتحليل أداء فرقها وديناميكيات اللعبة في آلاف المباريات سواء في الوقت الفعلي أو التاريخي، ما يكشف أنماط الرياضيين والتقنيات المتبعة في الملاعب. وبناءً عليه، يمكن وضع خطط مفصّلة تتضمن استراتيجيات تساعد الفريق في التغلب على منافسيه وفقاً لتحليلات نقاط ضعفه وقوته. على سبيل المثال، اعتمد نادي ليذرهيد (Leatherhead) لكرة القدم الإنجليزي على الذكاء الاصطناعي لوضع استراتيجيات فريقه، وتعاون مع شركة "آي بي إم" (IBM) لاختبار تقنية واتسون للرد على استفسارات اللاعبين، من خلال بناء نماذج التعلم الآلي.
إنشاء نماذج محاكاة واقعية
يمكن دمج الذكاء الاصطناعي في أجهزة الواقع الافتراضي والواقع المعزز لمحاكاة موقف يمكن مشاهدته مراراً وتكراراً لتحليل أداء الرياضيين. وتُستخدم تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي لإنشاء نموذج محاكاة يمكنه التنبؤ بالنتيجة من التدريبات الرياضية المختلفة، ما يعني أن الرياضي والمدرب لا يحتاجان إلى قضاء ساعات في تجربة أنظمة مختلفة لمعرفة الأفضل. إذ يمكن للذكاء الاصطناعي المساعدة على تقليل الوقت المطلوب لتتبع الإصابات السابقة وأنماط الحركة المرتبطة بهذه الإصابة ثم إنشاء نموذج لإعادة التأهيل الفعّال، من خلال تتبع المعلومات الطبية للرياضي مثل فحوص التصوير بالرنين المغناطيسي أو الأشعة السينية.
ويوضّح غريمشاو أن هذه الآلية تعتمد على التعلم الآلي، إذ تستخدم جمع البيانات الإحصائية والنمذجة الإحصائية للتنبؤ وتحديد عوامل الخطر لإنشاء نماذج المحاكاة.
حكم الفيديو المساعد
ظهرت تكنولوجيا "حكم الفيديو المساعد"Video Assistant Referee) ) أول مرة في كأس العالم في روسيا 2018، واستُخدِمت في أكثر من 100 مباراة حول العالم حتى الآن، إذ تُعدّ من أفضل الآليات التي تعزّز دقة قرارات الحكام التي يتخذونها في الوقت الفعلي، من خلال الوصول إلى 42 كاميرا بث، بما في ذلك كاميرات الحركة البطيئة للغاية لتوفير أفضل الزوايا الممكنة.
ويهدف نظام حكم الفيديو المساعد إلى تتبع 4 مجالات رئيسية، وهي الأهداف، وضربات الجزاء، والبطاقات الحمراء، والخطأ في تحديد الهوية.
دعم الرياضات الإلكترونية
أسهم الذكاء الاصطناعي في تقدم الرياضات الإلكترونية بشكلٍ كبير، إذ يحسّن أداء اللاعبين ويدعم استراتيجيات الألعاب بما يثري تجربة المشاهد. إذ توفّر الأدوات القائمة على الذكاء الاصطناعي معلومات مفصّلة في الوقت الفعلي حول تحديثات اللعبة، ما يخلق فهماً شاملاً للحالة الحالية للعبة ويسمح برؤى أعمق لتحركات الفريق في أثناء البطولات. وتعتمد بعض الفرق على تحليل الأداء القائم على الذكاء الاصطناعي. على سبيل المثال، يعتمد فريق "تيم ليكويد" (Team Liquid) تقنية الذكاء الاصطناعي لتحسين استعداداته وأدائه الاستراتيجي، من خلال تحليل بيانات آلاف المباريات، ما وفّر له رؤى حول ديناميكيات اللعبة وسلوكيات اللاعبين.
وقد ظهرت كفاءة استخدام الذكاء الاصطناعي في الرياضات الإلكترونية والألعاب مثل "بلاي ستيشن 5" (Playstation 5)، وفقاً لما قاله غريمشاو، الذي أفاد بأن هذه التكنولوجيا أسهمت في تخزين البيانات وإعادة تشغيل آلاف الساعات من لقطات التشغيل، ما يساعد على إدارة الفِرق وإعدادها للأداء بأفضل ما لديها.
التنبؤ بالإصابات
يستخدم الذكاء الاصطناعي تقنيات التعلم الآلي لدراسة الخوارزميات الإحصائية وتحليل البيانات قبل الإصابة وبعدها. ويوضّح غريمشاو أن التطبيقات المدعومة بالذكاء الاصطناعي يمكنها استخدام تقنيات التعلم الآلي والخوارزميات الإحصائية لتتبع أداء الرياضيين خلال فترات زمنية طويلة، ومعرفة طبيعة إصاباتهم السابقة، وتحليل بياناتهم لاستشراف مستقبل لياقتهم البدنية.
وأضاف أن هناك جهاز "المختبر على الشريحة" المُصغر الذي يُعدّ أحدث التكنولوجيات للتفاعل مع البشرة وتقديم فحص العينات والسوائل الحيوية مثل العرق واللعاب والدم والدموع والأحماض الأمينية ومستويات اللاكتات والغلوكوز. ويمكن لهذه المعلومات تقييم مدى التعب وآلام العضلات واحتمال الإصابة.
هل يمكننا حقاً الوثوق في بيانات الذكاء الاصطناعي؟
يظل الذكاء الاصطناعي محط العديد من التساؤلات خاصة فيما يتعلق بالصحة العامة، وتأثيره في تحديد نمط التدريبات والغذاء. ويقول غريمشاو "لا أعتقد أن الخوارزميات المستخدمة في الذكاء الاصطناعي جيدة بما يكفي حتى الآن لتكون قادرة على التنبؤ بمرض ما أو الإصابة، فضلاً عن المخاوف المتعلقة بالخصوصية وتخزين البيانات الفسيولوجية. لذا، تُعدّ لوائح حماية البيانات القوية ضرورية لضمان الشفافية في استخدام البيانات، لكنني لا أرى أن هذه اللوائح حالياً دقيقة أو موثوقة".
وبالتالي، فإن هذه التكنولوجيا لا يمكن أن تحل محل المدرب أو الحكم الذي يمثّل الهيئة الرسمية التي يجب أن تتحمل مسؤولية القرارات، مضيفاً أن البيانات التي تحللها هذه التكنولوجيا لا بُدّ من تصفيتها نظراً لحجمها الهائل، فلا فائدة من تزويد المدربين بهذه الكميات الهائلة من البيانات دون معرفة المهم منها. ويواجه الذكاء الاصطناعي في مجال الرياضة مجموعة من التحديات التي يجب مراعاتها، منها:
- الدقة: على الرغم من التحسن المستمر في تقنيات الذكاء الاصطناعي، فإنه ينبغي ألّا نعتمد عليها كُلياً في اتخاذ القرارات المهمة، وتفتقد بعض الأجهزة القابلة للارتداء عنصر الدقة، ما يعزّز ضرورة التأكد من جودة البيانات المجمعة.
- حجم الأجهزة القابلة للارتداء: يجب أن يكون الجهاز خفيف الوزن وقابلاً للحمل ومرناً حتى لا يتداخل مع ممارسة الرياضة.
- تكلفة استخدام الذكاء الاصطناعي: يمكن أن تكون مرتفعة، ما يصعّب على بعض الفِرق واللاعبين الاستفادة من هذه التكنولوجيا.
- الخصوصية: من الضروري الحصول على الموافقة المناسبة عند استخدام هذه التكنولوجيا، والتأكد من التزام التكنولوجيا بالقوانين والمعايير الأخلاقية، ما يعزّز موثوقيتها وقبولها في المجتمع الرياضي.
وعلى الرغم من هذه التحديات، فإن التقدم المستمر في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، يعزّز الابتكارات والتحسينات التي تسهم في تحقيق إنجازات رياضية غير مسبوقة وتقديم تجارب رياضية أكثر إثارة وتفاعلاً. لذا، من الضروري التغلب على هذه التحديات ومراعاة الجوانب الأخلاقية والخصوصية، لضمان تحقيق الفوائد القصوى لمستقبل الرياضة.
تولي مؤسسة قطر اهتماماً لتطوير البحوث ودعم الابتكار في مجالات تكنولوجيا المعلومات والتعليم والبيئة والرعاية الصحية، وتسعى من خلالها إلى طرح تقنيات جديدة في السوق العالمية ورصد التحديات واستكشاف الفرص.
وتمتلك مؤسسة قطر منظومة بحثية فريدة عكفت على تعزيزها على مدار العقد ونصف العقد الماضيين، وذلك في إطار دعمها رؤية قطر الوطنية في مجالات التنمية البشرية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية. وتشمل هذه المنظومة البحثية دورة البحوث المتكاملة في مجالات التعليم والبحث والتطوير والابتكار والتسويق وريادة الأعمال.