كشفت شركة فيسبوك عام 2017 عن خططها لتطوير قبعة تقرأ الدماغ يمكن استخدامها للكتابة بمجرد التفكير. وقال الرئيس التنفيذي للشركة، مارك زوكربيرغ، في منشور ذلك العام: "نحن نعمل على نظام يُتيح لك الكتابة باستخدام دماغك مباشرة".
نفّذت هذه الشركة، التي أصبح اسمها "ميتا" الآن، هذا المشروع، لكن الأداة تزن نصف طن وتكلّف مليوني دولار، فضلاً عن أنها غير قابلة للاستخدام خارج المختبر.
مع ذلك، فإن قدرة باحثي علم الأعصاب والذكاء الاصطناعي في شركة ميتا على تحليل أدمغة البشر بينما يكتبون وتحديد المفاتيح التي يضغطون عليها من خلال أفكارهم مذهلة.
ما يجعل هذا البحث، الذي فصّله العلماء في ورقتين بحثيتين نشروهما في خادم ما قبل الطباعة أركايف (arXiv) بتاريخ 7 فبراير/شباط 2025، مثيراً للإعجاب بصورة خاصة هو أن الباحثين قاسوا الأفكار خارج الجماجم باستخدام ماسح ضوئي مغناطيسي ثم عالجوها باستخدام شبكة عصبونية عميقة.
اقرأ أيضاً: زرعات دماغية تُعيد القدرة على الكلام لمرضى التصلب بمساعدة الذكاء الاصطناعي
قراءة الدماغ من خارج الجمجمة
يقول مؤسس شركة فورست نيوروتك (Forest Neurotech)، سمنر نورمان، الذي لم يشارك في البحث الجديد: "كما رأينا مراراً وتكراراً، الشبكات العصبونية العميقة قادرة على كشف رؤى رائعة عندما تقترن ببيانات عالية الجودة"، ويشيد بميتا لأنها "بذلت جهداً كبيراً لجمع بيانات عالية الجودة".
وفقاً لقائد فريق أبحاث الدماغ والذكاء الاصطناعي في ميتا، جان ريمي كينغ، فإن النظام الجديد قادر على تحديد الحرف الذي ضغط عليه الكاتب الماهر بدقة تصل إلى 80%، وهي دقة عالية بما يكفي لإعادة بناء جمل كاملة من الإشارات الدماغية.
واجهت فيسبوك عقبات تقنية في مساعيها لابتكار قبعة أو عصابة لقراءة الدماغ يمكن أن يستخدمها المستهلكون، وألغت الشركة الفكرة بعد أربع سنوات.
لكن شركة ميتا لم تتوقف عن دعم الأبحاث في أسس علم الأعصاب، وهو ما تعتقد الآن أنه سيساعدها على تطوير أدوات ذكاء اصطناعي أكثر فاعلية تفكّر مثل البشر. يقول كينغ إن مجموعته، التي مقرها باريس، مكلّفة على وجه التحديد باكتشاف "أسس الذكاء" من خلال دراسة الدماغ البشري.
ابتكار موجّه لعلوم الأعصاب
يقول كينغ: "قد تمثّل محاولة فهم البنية أو الأسس الدقيقة للدماغ البشري وسيلة لإرشاد جهود تطوير ذكاء الآلة. هذا هو الطريق الذي يجب أن نتبعه".
لا شك في أن النظام الجديد ليس منتجاً تجارياً، وهو ليس في طور التحول إلى منتج تجاري. يجمع الماسح الضوئي المغناطيسي الدماغي الذي استخدمه العلماء في البحث الجديد الإشارات المغناطيسية التي تولّدها القشرة الدماغية بينما تنشط العصبونات، ولكنه كبير ومكلف ويجب تشغيله في غرفة محمية لأن الحقل المغناطيسي الأرضي أشدّ بتريليون مرة من الحقل المغناطيسي الدماغي.
يشبّه نورمان الجهاز بـ "جهاز تصوير بالرنين المغناطيسي مقلوب على جانبه ومعلق فوق رأس المستخدم".
بالإضافة إلى ذلك، يشير كينغ إلى أن الإشارة تضيع مباشرة عندما يحرك الشخص الذي يقرأ الجهاز أفكاره رأسه؛ إذ يقول: "لا نركّز في عملنا على تطوير منتجات. في الواقع، أنا أحرص على التصريح بأن هذا النظام لن يتحول إلى منتج لأن عملية تحويله صعبة جداً".
كيفية تنفيذ المشروع
عمل الباحثون في مشروع الكتابة الدماغية مع 35 متطوعاً في موقع بحثي في إسبانيا، وهو مركز باسكيه للإدراك والدماغ واللغة (Basque Center on Cognition). أمضى كل مشارك نحو 20 ساعة داخل الماسح الضوئي وهو يكتب عبارات مثل "el procesador ejecuta la instrumentcción" (أي "المعالج ينفذ التعليمات") بينما أدخل الباحثون إشارات دماغه في نظام تعلم عميق تطلق عليه ميتا اسم "برين 2 كويرتي" (Brain2Qwerty)، في إشارة إلى تخطيط الحروف على لوحة المفاتيح.
تتمثل مهمة نظام التعلم العميق هذا في تحديد الإشارات الدماغية التي تُبيّن أن المشارك يكتب حرف "a" وتلك التي تبين أنه يكتب الحرف "z" وهكذا. في نهاية المطاف، بعد أن يقيس النظام دماغ المشارك وهو يكتب عدة آلاف من الأحرف، يمكنه تخمين المفتاح الذي كان يضغط عليه بالفعل.
أفاد باحثو ميتا بأن متوسط معدل الخطأ في الطبعة الأولية الأولى بلغ نحو 32%، أي ما يقرب من حرف واحد لكل ثلاثة أحرف. مع ذلك، وفقاً لميتا، هذه النتائج هي الأدق حتى الآن في مجال الكتابة الدماغية باستخدام لوحة مفاتيح أبجدية كاملة وإشارات يجمعها النظام خارج الجمجمة.
يحرز العلماء تقدماً سريعاً في مجال قراءة الدماغ، على الرغم من أن أكثر الأساليب فاعلية تعتمد على أقطاب كهربائية مزروعة في الدماغ أو على سطحه مباشرة. تحمل هذه الأساليب اسم "واجهات الكمبيوتر البينية الدماغية الباضعة"، وعلى الرغم من أنها تتطلب إجراء جراحة دماغية، فإنها قادرة على جمع المعلومات الكهربائية بدقة شديدة من مجموعات صغيرة من العصبونات.
على سبيل المثال، تمكّن شخص فقد صوته بسبب التصلب الجانبي الضموري من التحدث عام 2023 عن طريق برنامج قارئ للدماغ ومتصل بجهاز تركيب الصوت، وفعل ذلك بمعدل طبيعي تقريباً. تختبر شركة نيورالينك، التي أسسها إيلون ماسك، غرسة دماغية طوّرتها بنفسها تمنح الأشخاص المصابين بالشلل القدرة على التحكم في مؤشر.
تقول ميتا إن جهودها لا تزال موجهة نحو الأبحاث في أسس طبيعة الذكاء، وتستطيع الشركة الاستفادة من الماسح الضوئي المغناطيسي الكبير في هذا السياق. على الرغم من أن استخدام هذا النظام من قبل المرضى ليس عملياً، علاوة على أنه لا يقيس العصبونات الفردية، فإنه قادر على قياس الدماغ بأكمله على نطاقٍ واسع وفي وقتٍ واحد.
اقرأ أيضاً: نموذج الذكاء الاصطناعي الجديد من ميتا يستطيع ترجمة الكلام بين أكثر من 100 لغة
الدماغ يولّد المعلومات اللغوية تصاعدياً
قال فريق ميتا في طبعة أولية ثانية نشرها بتاريخ 7 فبراير/شباط 2025 أيضاً وتعتمد على بيانات الكتابة نفسها إنه استخدم هذه النظرة الأوسع نطاقاً لجمع أدلة تبين أن الدماغ يولد المعلومات اللغوية بنهج تصاعدي، أي إنه يولد إشارة أولية لجملة ما تولّد بدورها إشارات منفصلة للكلمات ثم للمقاطع وأخيراً للحروف المكتوبة.
يقول نورمان: "ينصُّ الادعاء الأساسي على أن بنية عملية توليد اللغة في الدماغ هرمية". هذه ليست فكرة جديدة، لكن تقرير ميتا يُسلّط الضوء على "الآلية التي تتفاعل وفقها هذه المستويات المختلفة بصفتها نظاماً"، حسب تعبيره.
قد تسهم هذه الرؤى في نهاية المطاف في تصميم أنظمة الذكاء الاصطناعي؛ إذ إن بعض هذه الأنظمة، مثل بوتات الدردشة، يعتمد بالفعل على اللغة كثيراً لمعالجة المعلومات والتفكير، تماماً كما يفعل البشر.
يقول كينغ: "أصبحت اللغة أساس الذكاء الاصطناعي، لذا فإن دراسة الأسس الحسابية التي تُتيح للدماغ، أو أي نظام آخر، اكتساب هذه القدرة هي الدافع الرئيسي لإجراء هذه الأبحاث".