ضمن حدث بلومبرغ على هامش منتدى دافوس الاقتصادي 2024، ذكر الرئيس التنفيذي لشركة أوبن أيه آي سام ألتمان، أنه من المتوقع أن تلقى أنظمة الطاقة العالمية صعوبات في التعامل مع الطلب المتزايد من أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدي، مُسلطاً الضوء على قضية استهلاك نماذج الذكاء الاصطناعي للطاقة بكثافة، وهي قضية طالما تجاهلتها شركات الذكاء الاصطناعي عن عمد وسط السباق المحموم الذي تخوضه لجذب انتباه المستخدم لمنتجاتها.
ويُعدّ هذا الاعتراف مهماً للغاية من شخصية تقود ثورة الذكاء الاصطناعي التوليدي حالياً، وإن كان يُنظر إلى التصريح بطريقةٍ أو أخرى على أنه ترويج ولفت للانتباه إلى استخدام تكنولوجيا الاندماج النووي لحل هذه المشكلة، والذي يؤيّده شخصياً، من واقع أنه من أكبر المستثمرين في أكبر شركة ناشئة تطوّر حالياً تقنيات الاندماج النووي لتوليد الطاقة التي يمكن أن تساعد العالم يوماً ما على خفض الانبعاثات الكربونية.
اقرأ أيضاً: ما الحلول التي يقترحها سام ألتمان لحل مشكلات الطلب المتزايد على الطاقة في الذكاء الاصطناعي؟
سباق شركات الذكاء الاصطناعي الذي لا يراه المستخدم
وسط السباق الشرس بين شركات الذكاء الاصطناعي الساعية لتوفير أفضل نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي أمام المستخدم، يكمن سر لا يتكلم عنه الجميع: وهو الاستهلاك الكثيف للطاقة التي يتطلبها تطوير النماذج ونشرها، استهلاكٌ لا يُرى ولا يُتَناول كثيراً، ولكن أثره في الكوكب سيكون مدمّراً من خلال زيادة انبعاثات الكربون في قادم السنوات.
إحصائيات عن الأثر البيئي لنماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي
كشفت دراسة أجرتها مجموعة بوسطن الاستشارية ونُشرِت عام 2023، أنه إذا استُخدِم الذكاء الاصطناعي بمسؤولية فقد يساعد على التخفيف من انبعاثات غازات الدفيئة بنسبة تصل إلى نحو 5-10% بحلول عام 2030، ولكن عند الحديث عن الذكاء الاصطناعي التوليدي فإن الأمر يختلف كُلياً.
والسبب يعود بحسب الخبراء إلى أنه بينما يمكن للشركات أن تحدَّ من الأثر البيئي عند استخدامها الذكاء الاصطناعي من خلال شراء أجهزة أكثر توفيراً للطاقة أو الحد من استخدام الأنظمة في أوقاتٍ معينة، فإن المستخدم العادي لا يهمه سوى استخدام النموذج بكفاءة، دون أن يصرف الكثير من الانتباه إلى الأثر البيئي للنموذج.
اقرأ أيضاً: الذكاء الاصطناعي يستهلك الطاقة بشراهة فما تأثير ذلك في التغيّر المناخي؟
- وجدت دراسة أجريت على 88 نموذجاً من أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدي، أن إنشاء صورة واحدة يستهلك نحو نصف طاقة بطارية هاتف ذكي، مع الأخذ في الاعتبار الفرق بين النماذج وحجم الصورة التي تنشئها.
- تتضاعف قوة الحوسبة المطلوبة لجهاز واحد مدعوم بالذكاء الاصطناعي كل 100 يوم، ومن المتوقع أن تزداد بأكثر من مليون مرة خلال السنوات الخمس المقبلة.
- تستهلك محادثة قصيرة مع بوت الدردشة تشات جي بي تي 3 (ChatGPT-3) تتكون من نحو 20-50 سؤالاً عبوة سعة 500 مل من المياه العذبة من مركز البيانات.
- في شهر يناير 2023 وصل عدد مستخدمي بوت الدردشة تشات جي بي تي إلى نحو 590 مليوناً، ومع متوسط خمسة أسئلة لكل مستخدم، بلغ استهلاكه للطاقة ما يعادل استهلاك 175 ألف شخص خلال الفترة نفسها.
- تستهلك مراكز البيانات بالفعل نحو 1-1.5% من استخدام الكهرباء العالمي، وقد يؤدي النمو السريع في إنشاء المراكز مستقبلاً إلى زيادة هذه النسبة بشكل كبير.
- تشير التوقعات إلى أنه بحلول عام 2027، يمكن أن تُطلق شركة إنفيديا نحو 1.5 مليون وحدة خادم ذكاء اصطناعي على أساس سنوي، ومن المتوقع أن تستخدم هذه الخوادم أكثر من 85.4 تيراواط لكل ساعة من الكهرباء كل عام، وهو ما يمثّل أكثر من الاستهلاك السنوي للعديد من البلدان الصغيرة.
- من المتوقع أن تنبعث عن صناعة مراكز البيانات العالمية ما يقرب من 2.5 مليار طن متري من مكافئ ثاني أوكسيد الكربون حتى عام 2030، أي ما يعادل نحو 40% من إجمالي انبعاثات غازات الاحتباس الحراري السنوية للولايات المتحدة بأكمله.
- تُقدّر وكالة الطاقة الدولية أنه بحلول عام 2026 يمكن أن يصل استهلاك الكهرباء من قِبل مراكز البيانات والعملات المشفرة والذكاء الاصطناعي إلى 4% من الاستخدام العالمي السنوي للطاقة، أي ما يعادل كمية الكهرباء التي تستخدمها دولة اليابان تقريباً.
- من المتوقع أن تنمو النفايات الإلكترونية الناتجة عن دورات الاستبدال السريعة لأجهزة الذكاء الاصطناعي التوليدي إلى نحو 16 مليون طن بشكلٍ تراكمي بحلول عام 2030.
اقرأ أيضاً: ما هو جديد الذكاء الاصطناعي في 2025؟
الأثر البيئي لصناعة البحث المدعوم بنماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي
مع تفجر صناعة الذكاء الاصطناعي التوليدي، سارعت شركات التكنولوجيا مثل جوجل ومايكروسوفت الأميركيتين، وبايدو الصينية، لتنفيذ إصلاحات كبرى لمحركات البحث الخاصة بها، حيث أنفقت وما زالت تنفق مبالغ طائلة على تطوير نماذج اللغة الكبيرة ودمجها في منتجاتها، على أمل أن تمنح المستخدمين تجربة أكثر ثراءً ودقة في فهم الأسئلة المعقدة والرد عليها.
ولكن ما لم تذكره هذه الشركات أن هذه الإصلاحات الثورية تحمل معها أثراً بيئياً سالباً للغاية، حيث من المرجّح أن يتطلب السباق لتطوير محركات بحث عالية الأداء مدعومة بالذكاء الاصطناعي التوليدي أو تحسينها ارتفاعاً كبيراً في قوة الحوسبة، ومعها زيادة هائلة في كمية الطاقة التي تستهلكها، والتي سوف تسهم في زيادة انبعاثات غاز ثاني أوكسيد الكربون.
وما يجعل للبحث المدعوم بالذكاء الاصطناعي التوليدي تأثيراً في البيئة هو اختلاف معالجة عملية البحث نفسها، فبينما يعتمد البحث التقليدي في المقام الأول على مطابقة الكلمات الرئيسية لترتيب النتائج، نجد أن البحث المدعوم بالذكاء الاصطناعي التوليدي يعمل بطريقة مختلفة كُلياً تُعرف باسم المنطق الاستدلالي (Abductive reasoning) تقوم على فهم الفروق الدقيقة في اللغة وتحديد السياق المحيط بالسؤال بناءً على بيانات التدريب.
وبناءً على هذه العملية المعقدة، يمكن لمحركات البحث المدعومة بالذكاء الاصطناعي التوليدي أن تتوصل إلى استنتاجات منطقية وترسم الروابط بين المفاهيم لتوفير استجابات أكثر اكتمالاً، من خلال فهم نية المستخدم، وليس فرز الكلمات الرئيسية، ما يسمح له بإنشاء إجابات شاملة وتفاعلية وأكثر دقة على غرار الطريقة التي يفكر بها الإنسان قبل الإجابة عن سؤال محدد.
هذه العملية تتطلب موارد حاسوبية ضخمة تُكلّف مليارات الدولارات، ما يجعل تنفيذها ونشرها يقتصر فقط على الشركات ذات الموارد المالية الضخمة والشركات الناشئة ذات التمويل المستمر مثل شركتي أوبن أيه آي وبيربلكسيتي، نتيجة لذلك بدأت شركات الذكاء الاصطناعي الاعتماد على مراكز البيانات فائقة النطاق (Hyperscale Data Centers) لتشغيل نماذجها، والتي تستهلك كميات كبيرة من الطاقة تتجاوز 100 ميغاوات غالباً ما يتم الحصول عليها عبر الوقود الأحفوري.
بالإضافة إلى ذلك، تؤدي كمية المياه المستخدمة في تبريد أنظمة مراكز البيانات إلى اختلال التوازن الذي قد يضغط على موارد المياه المحلية. على سبيل المثال، استهلكت عملية تدريب نموذج جي بي تي 4 (GPT-4) عام 2022 نحو 6% من كمية المياه في النهرين الموجودين في وسط ولاية أيوا الأميركية، ما أدّى إلى استياء واسع وسط السكان الذين يعتمدون على هذين النهرين في إمدادات مياه الشرب.
اقرأ أيضاً: أيّهما أخطر: الذكاء الاصطناعي العام أمْ إساءة استخدام الذكاء الاصطناعي الحالي؟
ما الذي يمكن فعله لتقليل البصمة الكربونية لأنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدي؟
حتى الآن لا يزال من الصعب جداً الحصول على بيانات دقيقة وكاملة عن استهلاك أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدي ومراكز البيانات للطاقة بشكلٍ رسمي، حيث تعتمد معظم الأرقام على دراسات يجريها باحثون ومراكز مستقلة أو شبه حكومية أو البيانات الصادرة عن الحكومات المحلية.
ومن ثَمَّ، مع وجود حافز ضئيل لشركات الذكاء الاصطناعي لتغير سياساتها البيئية في الوقت الحاضر، بدأ الباحثون بالبحث عن أكثر الطرق كفاءة لتقليل الأثر البيئي لنماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي مثل:
- تشجيع التعاون بين الجميع على إنشاء معايير واضحة لتقييم التأثير البيئي لأنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدي، وإنشاء إطار عمل يُلزم شركات الذكاء الاصطناعي للإبلاغ الطوعي عن الأثر البيئي الناتج عن تطوير ونشر أنظمتها.
- تطوير تقنيات جديدة لجعل نماذج الذكاء الاصطناعي أكثر كفاءة في أثناء التدريب والاستدلال،ـ مثل طريقة التقليم (Pruning) أو التكميم (Quantization ) أو تقطير المعرفة (Knowledge Distillation) التي بإمكانها تقليل استهلاك النماذج للطاقة في أثناء تدريبها.
- تنفيذ تقنيات التبريد الفعّالة في مراكز البيانات، مثل مفهوم مركز البيانات تحت الماء الذي قدمته شركة مايكروسوفت عام 2015، والذي أصبح أكثر رواجاً الآن، حيث تتسابق الشركات لإيجاد أفضل الحلول لتنفيذها.
- تطوير أدوات موحدة لقياس البصمة الكربونية للذكاء الاصطناعي، ما يُتيح اتخاذ قرارات أفضل بشأن جهود الاستدامة.
الاستفادة من تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي نفسه لتطوير أدوات فعّالة تُسهم في عملية الاستدامة البيئية، مثل التنبؤ بالطقس وتتبع انبعاثات غازات الدفيئة وتحسين شبكات الطاقة للتنبؤ تلقائياً بكمية الكهرباء اللازمة للتدريب أو التشغيل.