تطبيقات الحوسبة الكمومية في مجال الكيمياء والطب أقرب مما تتوقع

6 دقيقة
تطبيقات الحوسبة الكمومية في مجال الكيمياء والطب أقرب مما تتوقع
بساي كوانتوم

في 8 يناير/كانون الثاني، أحدث الرئيس التنفيذي لشركة إنفيديا، جينسن هوانغ، صدمة في سوق الأوراق المالية عندما قال إن الحوسبة الكمومية العملية ما زالت تبعد عنا من 15 إلى 30 عاماً، مشيراً في الوقت نفسه إلى أن أجهزة الكمبيوتر هذه سوف تحتاج إلى وحدات المعالجة الرسومية من إنفيديا حتى تستطيع تطبيق العمليات الضرورية لتصحيح الأخطاء.

غير أن التاريخ يثبت أن الأشخاص اللامعين ليسوا معصومين عن ارتكاب الأخطاء. فتنبؤات هوانغ خاطئة، سواء من حيث الجدول الزمني لظهور الحوسبة الكمومية المفيدة، أم من حيث الدور الذي ستؤديه تكنولوجيا شركته في المستقبل.

لقد كنت أتابع تطورات الحوسبة الكمومية من كثب بوصفي مستثمراً فيها، ومن الواضح أنها تقترب بسرعة من الوصول إلى المرحلة التي ستصبح فيها عملية ومفيدة. ففي العام الماضي، أظهرت شركة جوجل من خلال جهازها "ويلو" (Willow) وجود مسار واعد نحو زيادة حجوم أجهزة الكمبيوتر على نحو متواصل. فقد تبين أنه يمكن تقليل الأخطاء بوتيرة هائلة مع زيادة عدد البتات الكمومية، أو الكيوبتات. كما تمكّن الجهاز، في أقل من 5 دقائق، من اجتياز اختبار معياري تحتاج أسرع أجهزة الكمبيوتر الخارقة اليوم لاجتيازه إلى 10 سبتيليونات سنة (السبتيليون يعادل تريليون تريليون). وعلى حين أن ويلو صغير إلى درجة لا تتيح إمكانية الاستفادة منه تجارياً مع الخوارزميات المعروفة، فإنه يظهر أن مفهوم "التفوق الكمومي" (quantum supremacy) (أي تنفيذ مهمة مستحيلة عملياً بالنسبة إلى أي كمبيوتر تقليدي خلال زمن معقول) ومفهوم "التسامح مع الأخطاء" (fault tolerance) (أي تصحيح الأخطاء بوتيرة أكبر من وقوعها) أمران قابلان للتحقيق.

اقرأ أيضاً: هل يشكّل الذكاء الاصطناعي تهديداً لمكانة الحوسبة الكمومية؟

الحوسبة الكمومية المفيدة أقرب مما يتوقع هوانغ

على سبيل المثال، تستعد شركة بساي كوانتوم (PsiQuantum) الناشئة، التي تستثمر فيها شركتي، لبدء العمل على جهازي كمبيوتر كموميين سيدخلان نطاق الخدمة التجارية قبل نهاية هذا العقد. تتضمن الخطة أن يكون حجم كل منهما 10 آلاف ضعف حجم ويلو، وهو حجم كبير بما يكفي لمعالجة أسئلة مهمة حول المواد، والأدوية، والجوانب الكمومية للطبيعة. لن يعتمد هذان الجهازان على وحدات المعالجة الرسومية لتطبيق عمليات تصحيح الأخطاء. وبدلاً من ذلك، سيكونان مزودين بمكونات مادية مخصصة تعمل بسرعات مستحيلة بالنسبة إلى تجهيزات إنفيديا.

في الوقت نفسه، تتحسن الخوارزميات الكمومية بسرعة أكبر بكثير من المكونات المادية. ومؤخراً، أجرت شركة بساي كوانتوم بالتعاون مع شركة الأدوية العملاقة بورينغر إنغلهايم (Boehringer Ingelheim) تجربة أظهرت تحسناً يزيد على 200 ضعف في الخوارزميات المستخدمة في محاكاة الأدوية والمواد المهمة. أما فيزكرافت (Phasecraft)، وهي شركة أخرى استثمرنا فيها، فقد حسنت أداء المحاكاة لمجموعة واسعة من المواد البلورية، ونشرت نسخة محسّنة كمومياً من خوارزمية مستخدَمة على نطاق واسع في علم المواد، والتي تكاد تقترب من التفوق على التطبيقات التقليدية كلها التي تعمل على الأجهزة الحالية.

تدفعني مثل هذه التطورات إلى الاعتقاد بأن الحوسبة الكمومية المفيدة حتمية، وأننا نقترب من تحقيق ذلك يوماً بعد يوم. وهذا خبر سار، لأننا نأمل بأن هذه التكنولوجيا سوف تتمكن من إجراء حسابات لا يمكن تنفيذها بأي مستوى من إمكانات الحوسبة التقليدية أو الذكاء الاصطناعي.

اقرأ أيضاً: جوجل تتصدر السباق في الحوسبة الكمومية بفضل ابتكار خوارزمية تصحيح الأخطاء

الحوسبة الكمومية وأهميتها الخاصة في العمليات الكيميائية

علينا أن نهتم باحتمالات ظهور أجهزة الكمبيوتر الكمومية المفيدة، لأننا اليوم لا نعرف حقاً كيف نجري العمليات الكيميائية. فنحن نفتقر إلى المعرفة المتعلقة بآليات عمل العديد من أهم الأدوية لدينا. إن المحفزات التي تدفع عجلة صناعاتنا هي أدوية قد لا نعلم عنها عموماً سوى القليل، أو يتطلب تصنيعها مواد غريبة ومكلفة جداً، أو كلا الأمرين معاً. وعلى الرغم من المظاهر، فإن قدرتنا على السيطرة على العالم المادي المحيط بنا تعاني ثغرات كبيرة، وتُخفي إنجازاتنا حقيقة مفادها أننا نبحث على غير هدى.

تعمل الطبيعة وفق مبادئ ميكانيك الكم. ولهذا فإن أساليبنا الحاسوبية التقليدية تعجز عن محاكاة الطبيعة الكمومية للواقع بدقة، على الرغم من أن قدراً كبيراً من موارد الحوسبة العالية الأداء مكرس لهذه المهمة. وعلى الرغم مما أنفقناه من رأسمال فكري ومالي، فإننا ما زلنا لا نفهم كيفية عمل مسكن الألم أسيتامينوفين، أو كيفية عمل النواقل الفائقة من النوع الثاني، أو معرفة السبب الذي يمكّن بلورة بسيطة من الحديد والنيتروجين من أن تؤدي دور مغناطيس يولد حقلاً مغناطيسياً ذا شدة مذهلة. نحن نبحث في لحاء الأشجار الأمازونية عن مركبات لعلاج السرطان وغيره من الأمراض، ونبذل جهوداً مضنية في دراسة مجموعة فرعية صغيرة، إلى درجة مثيرة للشفقة، ضمن حيز تصميمي يتضمن من الجزيئات الصغيرة عدداً هائلاً يصل إلى 10 مرفوعة إلى القوة 60. إن أساليبنا محرجة وضعيفة للغاية.

غير أننا نمتلك بعض الأدوات التي نستطيع استخدامها. ففي الصناعة، تُعد نظرية الكثافة الوظيفية (DFT) أساساً عملياً للكيمياء الحاسوبية ونمذجة المواد، وهي مستخدمة على نطاق واسع لدراسة البنية الإلكترونية للأنظمة المتعددة الأجسام، مثل الذرات والجزيئات والمواد الصلبة. عند تطبيق هذه النظرية على أنظمة ذات ترابطات ضعيفة بين الإلكترونات، فإنها تقدم نتائج معقولة، لكنها تخفق تماماً عند تطبيقها على نطاق أوسع من المسائل المثيرة للاهتمام.

لنتأمل، على سبيل المثال، الضجة التي أثيرت في صيف عام 2023 حول "الناقل الفائق الذي يعمل في درجة حرارة الغرفة" الذي يحمل اسم "إل كيه 99" (LK-99)؛ فقد لجأ العديد من الكيميائيين المخضرمين إلى نظرية الكثافة الوظيفية في محاولة لتوصيف هذه المادة وتحديد إذا ما كانت ناقلاً فائقاً بالفعل. وقد كانت النتائج متباينة (وهو توصيف ملطّف للغاية)، لذا تخلينا عن أفضل أساليبنا الحسابية وعدنا إلى أساليبنا التقليدية في محاولة لاستكمال العمل. ومع أن "إل كيه 99" قد يتمتع بالعديد من الخصائص الجديدة، فمن المؤسف أنه لم يكن ناقلاً فائقاً يعمل في درجة حرارة الغرفة. وهذا أمر مؤسف، لأن مثل هذه المادة يمكن أن تُحدث ثورة في توليد الطاقة ونقلها وتخزينها، إضافة إلى الاحتواء المغناطيسي لمفاعلات الاندماج، ومسرعات الجسيمات، وغير ذلك الكثير.

الحوسبة الكمومية لإنتاج بيانات تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي

سيساعدنا الذكاء الاصطناعي دون شك على تعزيز فهمنا للمواد، لكنه ليس حلاً سحرياً. لقد ظهرت تقنيات جديدة في الذكاء الاصطناعي خلال الأعوام القليلة الماضية، مع بعض النتائج الواعدة. على سبيل المثال، فإن شبكات البيان (graph networks) لاستكشاف المواد التي تسمى اختصاراً "غنوم" (GNoME) من شركة ديب مايند تمكنت من اكتشاف 380,000 مادة جديدة مستقرة محتملة. لكن غنوم تعتمد في جوهرها على نظرية الكثافة الوظيفية، ولهذا فإن أداءها محدود بقدرة هذه النظرية على تقديم إجابات جيدة.

تكمن المشكلة الأساسية في أن جودة نموذج الذكاء الاصطناعي تعتمد على جودة البيانات التي تدرب عليها. فتدريب نموذج لغوي كبير على المحتوى اللغوي للإنترنت بأسره، على سبيل المثال، يمكن أن يؤدي إلى إنتاج نموذج يتمتع باطلاع جيد على معظم الثقافات البشرية، وفعالية عالية في معالجة اللغة. لكن إذا كانت نظرية الكثافة الوظيفية عاجزة عن التعامل مع أي أنظمة كمومية تتمتع بترابط لا يستهان به، فما هي درجة الفائدة المرجوة من مجموعة تدريب مستمدة من هذه النظرية؟ يمكننا أيضاً أن نلجأ إلى تصنيع المواد وإجراء التجارب عليها لإنشاء بيانات التدريب، لكن عدد العينات الفيزيائية التي نستطيع إنتاجها واقعياً ضئيل نسبياً مقارنة بفضاء التصميم الهائل، ما يترك قدراً كبيراً من الإمكانات غير المستغلة. عندما نتمكن من تصميم عمليات محاكاة كمومية موثوقة لإنتاج بيانات تدريب دقيقة بما فيه الكفاية، سنتمكن من بناء نماذج ذكاء اصطناعي قادرة على الإجابة عن الأسئلة الكمومية باستخدام الأجهزة التقليدية.

وهذا يعني أننا نحتاج إلى أجهزة كمبيوتر كمومية. فهي تتيح لنا الفرصة للانتقال من عالم الاكتشاف إلى عالم التصميم. نحن نعتمد حالياً على عملية تكرارية تتضمن التخمين وتصنيع المواد واختبارها، وهي عملية مضنية وضعيفة الكفاءة إلى درجة مثيرة للسخرية.

في بعض الحالات المثيرة للاهتمام، عثرنا بالصدفة على مواد، مثل النواقل الفائقة، ذات خصائص شبه خارقة. كم مادة مماثلة قد تساعدنا هذه الأدوات الجديدة على اكتشافها في الأعوام المقبلة؟ سنتوصل في نهاية المطاف إلى بناء آلات تحتوي على الملايين من الكيوبتات، وعند استخدامها لمحاكاة المواد البلورية، ستفتح أمامنا فضاءً جديداً هائلاً للتصميم. سوف يكون الأمر أشبه بأن نستيقظ يوماً ما لنجد أنه أصبح لدينا مليون عنصر جديد بخصائص مذهلة على الجدول الدوري.

بطبيعة الحال، فإن بناء كمبيوتر كمومي بمليون كيوبت ليس بالمهمة السهلة. وستكون هذه الآلات بحجم أجهزة الكمبيوتر الخارقة التقليدية، وستتطلب مقادير هائلة من رأس المال، ومنشآت تبريد ضخمة، إضافة إلى الكثير من الكهرباء والخرسانة والصلب. كما ستتطلب أيضاً تصميم مكونات فوتونية من السيليكون بأداء يتفوق كثيراً على أي شيء صُنع حتى الآن، وأجهزة لتصحيح الأخطاء بسرعة كافية لمجاراة الفوتونات، وأجهزة لكشف الفوتونات الإفرادية بحساسية غير مسبوقة. لكن بعد أعوام من البحث والتطوير، واستثمارات تجاوزت المليار دولار، انتقل التحدي الآن من العلوم والهندسة إلى البناء.

من المستحيل التنبؤ بالكامل بكيفية تأثير الحوسبة الكمومية في عالمنا، لكن بعض التمارين الذهنية قد تتيح لنا بناء تصور ذهني لبعض هذه الاحتمالات.

اقرأ أيضاً: كيف تتعلم الحوسبة الكمومية؟ دورات متاحة للجميع عبر الإنترنت

نحن لا ندرك دور الحوسبة الكمومية بعد!

لنتخيل عالمنا من دون معادن. قد يكون في وسعنا بناء منازل خشبية باستخدام أدوات حجرية، وإنجاز الأعمال الزراعية، وصنع المحاريث الخشبية، والطباعة بأسلوب تقليدي باستخدام الحروف المتحركة، وأن ننظم القصائد الشعرية، بل وحتى ننشر دوريات علمية خضعت للتحرير بعناية. لكن لن يكون لدينا أي فكرة حول ظواهر مثل الكهرباء أو الكهرطيسية، لن تكون لدينا أي محركات أو مولدات أو أجهزة راديو أو آلات للتصوير بالرنين المغناطيسي أو سيليكون أو أنظمة ذكاء اصطناعي. ولن نفتقد هذه الأشياء، لأننا لن نكون مدركين لوجودها في المقام الأول.

حالياً، نحن نعيش في عالم من دون مواد كمومية، غير مدركين لما يكمن خلف الأفق مباشرة من القدرات الكامنة ووفرة الوسائل. ومع اقتراب حصولنا على أجهزة الكمبيوتر الكمومية الضخمة، وإحراز المزيد من التقدم في الخوارزميات الكمومية، نحن على وشك الانتقال من الاكتشاف إلى التصميم، ودخول حقبة من الدينامية غير المسبوقة في مجالات الكيمياء وعلم المواد والطب. سوف يكون عصراً جديداً من السيطرة على العالم المادي.

المحتوى محمي