إذا كان يمكن إطلاق اسم على الوضع الراهن بين الصين والولايات المتحدة، فلن نجد اسماً أفضل من "حرب الرقائق". فقد وضعت الولايات المتحدة الأميركية قيوداً على تصدير تكنولوجياتها خاصة الرقائق الحديثة إلى الصين، ما أدّى إلى صعوبات كبيرة في تقدم صناعات تعتمد بشكلٍ حيوي على هذه الرقائق في الصين.
لكنْ، وبالعودة إلى شهر يوليو/تموز من العام الماضي، بدأت الهزة الأولى التي تثبت انعدام جدوى هذه القيود على الصناعات التكنولوجية التي تعتمد عليها الصين، فآنذاك أصدرت هواوي نظام تشغيلها هارموني أو إس Harmony OS، الذي باعت 900 مليون هاتف ذكي يعمل به في الربع الأول من 2024، لتصل حصة النظام السوقية إلى 17%، متفوقة على نظام التشغيل آي أو إس من آبل الذي بلغت حصته السوقية 16% بعد فترة ذهبية لمنتجات آبل في السوق الصينية، ولتحل مبيعات الأجهزة العاملة بهذا النظام في المرتبة الثانية بعد أندرويد.
وفي الأسابيع الأخيرة، حدث زلزال أقوى في عالم التكنولوجيا، وفي صناعة الذكاء الاصطناعي التي تتصدرها الولايات المتحدة، حين أصدرت شركة صينية مغمورة بوت الدردشة ديب سيك، فكيف أثّر بوت الدردشة هذا في مشهد صناعة الذكاء الاصطناعي العالمي والأميركي تحديداً؟ وكيف سينعكس على إنفيديا؟
اقرأ أيضاً: ما هو المتوقع في حدث آبل القادم «حان وقت التألق»؟ وهل ستفسد هواوي عليها فرحتها؟
بتكاليف منخفضة: ديب سيك يخرج بهدوء إلى العلن
لا يُثير الاستغراب إطلاق بوت دردشة جديد، فهذا ما يحدث يومياً في المشهد التكنولوجي، وللاعتماد المتزايد على بوتات الدردشة التي أصبحت ضرورة حتمية. لكن الضجة يعود سببها إلى عوامل رئيسية ثلاثة:
1- التكلفة المنخفضة جداً للنموذج اللغوي الذي يعتمد عليه ديب سيك
يشغل بوت الدردشة ديب سيك النموذج اللغوي الكبير R1، ونموذجه الأساسي هو V3، وقد اتبعت الشركة استراتيجيات متنوعة في تدريب النموذج خفّضت إلى حدٍّ كبير من وقت الحوسبة اللازم لتدريب النموذج R1، بالإضافة إلى الذاكرة المطلوبة لتخزينه. فوفقاً للتقارير، دُرِّب النموذج الأساسي لـ R1 على 2.788 مليون ساعة تدريب تمت عبر وحدات معالجة رسوميات متنوعة في الوقت ذاته، بتكلفة لم تتجاوز الـ 6 ملايين دولار، في حين بلغت تكلفة تدريب النموذج GPT-4، من أوبن أيه آي وفقاً لرئيسها التنفيذي سام ألتمان 100 مليون دولار.
2- الرقائق المستخدمة
حظرت القيود التي وضعتها إدارة بايدن تصدير رقائق H800 إلى الصين، إلّا أن المفاجأة هي أن ديب سيك درّبت نموذجها اللغوي باستخدام رقائق H800، وهي رقائق يتوقع الخبراء أن تكون الصين قد توصلت إليها بتعديلات على رقائق H100. لكن الرقائق الأساسية التي حظر توريدها إلى الصين هي رقاقات H100 وA100 من إنفيديا، ورقاقات H800 وA800، وهي إصدارات عُدِّلت لتكون أقل قوة من H100 وA100، وذلك لتمكين تصديرها إلى الصين مع الالتزام بالقيود الأميركية لكن شملها الحظر أيضاً، وسُمِح برقاقات أخرى ذات أداء محدود في الحوسبة. من المتوقع أن الرقائق التي جرى تعديلها كانت مخزنة قبل عام 2023، ودفعت حاجة الصينيين إلى الابتكار لتعديلها.
3- التأثيرات البيئية
لم يعد التأثير البيئي الكبير لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي خفياً على أحد، ومن المحتمل أن تخفيض متطلبات الحوسبة المستخدمة لتدريب نموذج R1 قد رافقه أيضاً انخفاض في التبعات البيئية للنموذج، إذ تتطلب الخوادم كميات كبيرة من المياه والكهرباء لتبريدها، ويرافق توليد هذه الكهرباء بصمة كربونية كبيرة لا تصرّح عنها شركات الذكاء الاصطناعي عادة. لكن تقديراً حديثاً يُقدّر البصمة الكربونية لتدريب النماذج اللغوية المشغلة لبوت الدردشة تشات جي بي تي بـ 260 طناً شهرياً، ما يعادل 260 رحلة طيران بين لندن ونيويورك.
العامل الأكثر تأثيراً والمضاف إلى العوامل السابقة هو الهدوء الذي خرج به البوت إلى العلن، وهو أمر صدم صُنّاع التكنولوجيا الأميركيين، لا سيما في صناعة تُحدِث الكثير من الضجيج العالمي، كالذكاء الاصطناعي.
اقرأ أيضاً: هل ينقذ الذكاء الاصطناعي كوكب الأرض من تهديد التغيّر المناخي؟
كيف تلقى لاعبون مختلفون نبأ إصدار ديب سيك؟
اختلفت أصداء ديب سيك باتساع الهوة بين طرفي الهادئ والأطلسي، فقد تلقته شركات أوروبية بحذر شديد، بينما تبنّته أخرى لتكلفته المنخفضة مقارنة ببوتات الدردشة الأخرى، فيما انتشرت صيحات تحذير هنا وهناك من النموذج، أبرزها كانت في الولايات المتحدة التي وصفت النموذج بأنه "جرس إنذار".
قبول عام في أوروبا مع بعض الترقب
اندرج تأثير ديب سيك في أوروبا في فئتين أساسيتين:
- الشركات الناشئة: تحوّل العديد من الشركات الناشئة إلى ديب سيك بسرعة لخفض نفقاتها على هذه التكنولوجيا.
- الشركات الكبرى تراقب المشهد وتنتظر.
مثلاً، تحولت الشركة الألمانية الناشئة نوفو أيه آي Novo AI إلى ديب سيك بعد أن كانت تستخدم تشات دي بي تي من أوبن أيه آي، كما كانت الشركة البريطانية نت مايند أيه آي NetMind.AI أيضاً من أولى شركات الذكاء الاصطناعي التي سارعت إلى تبنّي ديب سيك. يعزو المدراء التنفيذيون في أوروبا عامة ونوفو أيه آي ونت مايند أيه آي هيمانث مانداباتي Hemanth Mandapati وسينا ريجال Seena Rejal سبب التحول لسرعة وسهولة التحول، بالإضافة إلى الكفاءة التي لا تختلف كثيراً عن كفاءة النماذج الأميركية، والعامل الأهم بنظرهما هو التكلفة، حيث تقل تكلفة استخدام ديب سيك عن تكلفة استخدام تشات جي بي تي بـ 20-40 ضعفاً.
كما ترى الشركات الناشئة في ديب سيك لاعباً محتملاً قد يؤدي إلى تقدمها في مجال صناعة الذكاء الاصطناعي لتتمكن من منافسة الشركات الأميركية المهيمنة على المشهد، فحصة أوروبا في سوق الذكاء الاصطناعي لا تتجاوز الـ 15 مليار دولار مقابل 100 مليار دولار للولايات المتحدة، فيما ينظر المشرعون الأوروبيون إلى ديب سيك بتشكك وقد بدؤوا تحقيقاً حول مصدر إجابات ديب سيك، وما إذا كان ينسخ إجابات أوبن أيه آي المتعلقة بالصين ويعدّلها.
إنفيديا واقعة تحت الضغط لكن توقعاتها لا تزال إيجابية
منذ إصدار ديب سيك وحتى الآن، انخفضت أسعار أسهم إنفيديا في الأسواق بمقدار 22% عن آخر ذروة وصلت إليها أسهم هذه الشركة. قيّم البعض هذا التأثير بالسلب، إذ إن التكنولوجيا التي توصلت إليها ديب سيك التي أدّت إلى تطوير نموذجها اللغوي صُنِّفت على أنها ابتكار مزعزع في هذه الصناعة، ومن المحتمل أن يردم الهوة التنافسية بين البلدين التي تمتلك فيها الولايات المتحدة اليد العليا بسبب تقدمها في صناعة الرقائق، التي تمثّل إنفيديا العملاق فيها دون منازع.
لكنْ، وعلى الرغم من ترجيح اعتماد ديب سيك على تطوير مخزون من وحدات المعالجة الرسومية، فإن هذا الاعتماد لن يكون كافياً إذا أرادت ديب سيك دخول ميدان منافسة الذكاء الاصطناعي إلى جانب أسماء كبرى أخرى يمكنها الوصول إلى رقائق إنفيديا الأكثر تقدماً، كما أن ارتفاع حدة المنافسة بين الشركات على الرقائق لدفع الصناعة قدماً قد يدفع إنفيديا لإنتاج رقائق أكثر كفاءة وقوة، وخصوصاً تلك المطلوبة للتقدم نحو تطوير الذكاء الاصطناعي العام، الذي يُعدّ العلامة الفارقة اللاحقة بين الشركات.
قد يكون الوصف الدقيق لمعدل نمو إنفيديا "معقداً"، ولكن ليس سلبياً على الإطلاق، إذ من المتوقع أن تصل إيرادات الشركة هذا العام إلى 197 مليار دولار، بربح يُقدّر بـ 51% على السهم الواحد الذي تبلغ قيمته 4.45 دولارات. لكن في حال ابتعاد العملاء عن الطلبات الكبيرة من إنفيديا، قد يتغير هذا الواقع.
إجابة كل ذلك أقرب مما نتصور، وستكون يوم 26 فبراير/شباط الراهن، حين تصدر الشركة تقرير أرباح الربع الرابع والسنة المالية 2025 القادم للشركة، ومن الآن يجب أن تكون لدى الرئيس التنفيذي للشركة جنسن هوانغ، خطةٌ لطمأنة المستثمرين والعملاء بعد تداعيات ظهور ديب سيك.
هل تنقذ تي إس إم سي الموقف؟
قد يتفاءل البعض بشركة تي إس إم سي أو الشركة التايوانية لصناعة أشباه الموصلات، بديلاً محتملاً لإنفيديا في تزويد ديب سيك بالرقائق، لكن يجدر بالذكر أن الشركة عالقة بين نيران واشنطن وبكين، وقد علّقت الشركة صادراتها من رقائق الذكاء الاصطناعي المتقدمة إلى الصين منذ شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، في امتثال للقوانين التي وضعتها واشنطن، كما سارعت الحكومة التايوانية إلى حظر استخدام ديب سيك في الدوائر الحكومية لدواعٍ أمنية.
اقرأ أيضاً: كيف تمكنت شركة «ديب سيك» من تحدي عمالقة الذكاء الاصطناعي بأقل الموارد؟
أصداء أخرى في أميركا تحديداً
بعد أن تربع ديب سيك على قمة عدد التنزيلات على متجر آبل، متفوقاً بذلك على تشات جي بي تي للمرة الأولى، أصبح حديث الساعة منذ إصداره في الولايات المتحدة، فقد وصفه الرئيس التنفيذي لمايكروسوفت ساتيا ناديلا بـ "الابتكار الحقيقي"، وسام ألتمان الرئيس التنفيذي لأوبن أيه أي بـ"النموذج العظيم الذي لا لبس فيه"، كما علّق عليه تيم كوك الرئيس التنفيذي لآبل بالقول: "الابتكار الدافع للكفاءة هو أمر جيد"، أمّا أليكس كارب الرئيس التنفيذي لبلانتير، فقد رأى الأمر على أنه "جهد مشترك بين الدول كافة".
من جهة أخرى، يرى زوكربيرغ الرئيس التنفيذي لميتا، الحُكم المبدئي على النموذج "معقداً"، وأنه لا يزال من المبكر توقع أن يغيّر النموذج مشهد صناعة الذكاء الاصطناعي. وستواصل شركته الاستثمار في الحوسبة المتقدمة القائمة على الذكاء الاصطناعي بمبلغ يتراوح بين 60 و65 مليار دولار.
وبالعودة إلى ألتمان، فقد أقر أن شركته في الجانب الخاطئ من التاريخ بعدم اعتمادها سياسة النماذج مفتوحة المصدر، وأن على الشركة اعتماد استراتيجيات مفتوحة المصدر لتطوير نماذجها اللغوية، على الرغم من أن وجهة النظر هذه لا يشاركه فيها الجميع في أوبن أيه أي كما أنها ليست أولوية.
جاء إصدار ديب سيك في وقتٍ حرج بالنسبة لشركات التكنولوجيا الأميركية؛ فشركات كبرى كتسلا ومايكروسوفت وآبل كانت على وشك إصدار تقارير أرباحها المالية للعام الفائت، كما أطلق الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، مشرع ستارغيت الذي يهدف إلى الحفاظ على تصدر الولايات المتحدة مشهد الذكاء الاصطناعي، بدعوته أوبن أيه آي وأوراكل وسوفت بانك لضخ مليارات الدولارات في الصناعة، وقد قال عن ديب سيك إنه "جرس إنذار".
اقرأ أيضاً: تشات جي بي تي وديب سيك آر 1: أيّهما أفضل؟
ماذا يعني ديب سيك للمستخدم العادي؟
على الرغم من الهزة التي حدثت في وادي السيليكون، فإن المنتجات الصينية -وكعادتها- قد تكون حلاً مناسباً للمستخدم العادي:
- يمكن استخدام ديب سيك بكفاءة لا تقل عن تشات جي بي تي في معظم المطالبات للمستخدم العادي، بسعر أقل من تشات جي بي تي بكثير.
- يوفّر للمطورين وصولاً بأسعار مقبولة لبناء تطبيقات الذكاء الاصطناعي، لأنه مفتوح المصدر.
- يندمج بسهولة في ملحقات المتصفح، ويمكن الحصول على 50 مطالبة منه مجاناً باستخدام إصدار المتصفح.