البحث كما عرفناه منذ عقود
لطالما ارتبط البحث عبر الإنترنت بمفهومٍ بسيطٍ يتمثل في كتابة استعلام نصي والحصول على قائمة روابط زرقاء مرتبة بناءً على خوارزميات معقدة لتقييم صلة كل رابط بالكلمات التي كتبتها ودرجة موثوقيته. وقد أصبحت عبارات مثل "اسأل جوجل" أو باللهجة الدارجة "جوجلها" جزءاً من حياتنا اليومية، لكن هذه العملية التقليدية ليست مثالية؛ حيث تتطلب منك قراءة العناوين، والنقر على الروابط، واستكشاف الصفحات للحصول على المعلومات التي تبحث عنها إن كانت موجودة حقاً.
هذه الطريقة تتطلب وقتاً ومهارة في اختيار الكلمات المفتاحية، وتظل عملية البحث غير مباشرة، خاصة إذا كنت بحاجة إلى نتائج دقيقة أو إذا تطلب الأمر سلسلة من الأسئلة للوصول إلى الجواب النهائي. علاوة على ذلك، عليك أن تكون "ماهراً" في البحث وتعرف كيفية اختيار الكلمات المفتاحية المهمة لتزيد احتمال حصولك على إجابة في النتائج الأولى.
كيف تغير البحث على الإنترنت؟
هل تتذكر دليل الهواتف الورقي القديم بجوار هاتفك الأرضي؟ عملية البحث عن اسم كانت يدوية حسب الترتيب الهجائي، وبعد أن تعثر على اسم الشخص، تستخرج رقمه، وتبدأ بضغط الأرقام على الهاتف لتتمكن من الاتصال به. هكذا كان البحث. أمّا اليوم، تمسك هاتفك الذكي وتعطيه أمراً صوتياً: "اتصل بفلان". وعلى الرغم من أن عملية البحث عن رقم فلان ما زالت تجري في الخلفية، فإن ما تغير هو أن البحث نفسه خفي بالنسبة لك، وهاتفك أصبح يفهم أمرك الصوتي وينفذه.
مثالٌ آخر: يمكننا تشبيه البحث التقليدي بسؤال مسؤول المكتبة عن مكان وجود كتاب معين، وبعد أن يرشدك إليه، عليك أن تفتح الكتاب وتبحث بين صفحاته عن المعلومة التي تريدها. أمّا البحث اليوم، فقد أصبح يشبه أن تدخل المكتبة، تطرح سؤالاً بصوت عالٍ، ليأتيك الجواب فوراً على شكل فقرات مقتبسة من عدة كتب مختلفة، ملخصةً ومجمعةً في إجابة شاملة واحدة.
لقد أصبح البحث الرقمي أقرب إلى إجراء محادثة مع شخص موسوعي متخصص في موضوع معين، يقدّم لك الإجابة الدقيقة بدلاً من توجيهك إلى مصادر متعددة.
اقرأ أيضاً: بماذا يتميز محرك بحث أوبن أيه آي سيرش جي بي تي عن جوجل؟
محركات بحث ذكية تعتمد على الذكاء الاصطناعي
إليك بعض هذه المحركات ومتى عليك استخدام كل منها تبعاً لحاجتك:
- جوجل أوفرفيوز (Google AI Overviews): يوفّر ملخصات مولّدة بالذكاء الاصطناعي تظهر مباشرة ضمن نتائج البحث. تجمع هذه الميزة المعلومات من الإنترنت ومن قاعدة بيانات مخطط المعرفة (Knowledge Graph) الخاصة بجوجل. وتعتمد هذه الميزة على نموذج جيميناي (Gemini) لتقديم إجابات دقيقة للاستفسارات، كما تدعم البحث المتعدد الوسائط، بما في ذلك النصوص والصور والفيديو. يمكن استخدامه عندما تكون بحاجة إلى ملخصات موثوقة وغنية بالمعلومات، أو عند البحث باستخدام الصور.
- مايكروسوفت بينغ (Microsoft Bing): يتميز بدمج تقنيات نماذج الذكاء الاصطناعي جي بي تي GPT من أوبن إيه آي (OpenAI)، ما يجعله قادراً على تقديم بحث تفاعلي وإجابات دقيقة مدعومة بمصادر. يُعدّ خياراً مثالياً عند الحاجة إلى التحقق من المعلومات أو للحصول على إجابات مبنية على مصادر واضحة ومفسرة، كما أنه مناسب للاستفسارات التي تتطلب تفاعلاً شخصياً أو متابعة لموضوع معقد.
- تشات جي بي تي سيرش (ChatGPT Search): يُتيح تجربة بحث تفاعلية عبر المحادثة مع الذكاء الاصطناعي، حيث يتميز بقدرته على تقديم إجابات عن أسئلة معقدة وقدرته على الحفاظ على سياق المحادثة. إضافة إلى ذلك، يمكنه التكيُّف مع الطلبات الطويلة أو التعليمات المتسلسلة. يُنصح باستخدامه عندما تكون بحاجة إلى التعمق في موضوع ما، أو إذا كنت تبحث عن طريقة مرنة لصياغة الأفكار أو متابعة استفسارات طويلة.
- بيربليكسيتي (Perplexity AI): يقدّم إجابات تفصيلية مدعومة بمصادر موثوقة. ويتميز بقدرته على تقديم إجابات معمقة، حيث يُنتج ملخصات شبيهة بالأبحاث الصغيرة حول الموضوعات المعقدة، كما أنه متفوق في تلخيص الأحداث الجارية بطريقة واضحة وشاملة.
- هناك العديد من محركات البحث القائمة على الذكاء الاصطناعي التي يمكنك تجربتها مثل: يو (You)، وآندي (Andi)، وكومو (Komo)، ووالدو (Waldo)، وبيرل (Pearl)، هذا الأخير يَعدك بأنه في حال لم ينجح الذكاء الاصطناعي في إعطائك إجابة شافية، سيوفّر إنساناً خبيراً يجيبك عن سؤالك!
اقرأ أيضاً: أيّهما أكثر إبداعاً: تشات جي بي تي أمْ محرك البحث جوجل؟
المستقبل: من البحث إلى الإنجاز
التحول الأكبر في البحث سيأتي مع تطور المهام التي يمكن أن يؤديها الذكاء الاصطناعي. لن يقتصر الأمر على تقديم الإجابات فقط، بل سيتطور ليصبح مساعداً شخصياً ينفّذ المهام نيابة عنك.
على سبيل المثال، بدلاً من البحث عن "تذاكر طيران من دبي إلى الرياض"، يمكنك إعطاء أمر كامل مثل:
"أريد السفر إلى الرياض الخميس المقبل. احجز لي ولعائلتي تذاكر الطيران، الفندق المعتاد نفسه ليومين، وأضف حجزاً لسينما في المساء وجدول جولة سياحية لليوم التالي".
سيُعالج محرك البحث الطلب كاملاً، بدءاً من اختيار الرحلات، الحجز، الدفع، وحتى إرسال التأكيدات عبر البريد الإلكتروني.
هل تشعر بأن هذا المستقبل بعيد بعض الشيء؟ أعِد ضبط توقعاتك. هل قرأت عن الوكيل الذكي أوبريتور؟ إليك الخبر: "أطلقت أوبن إيه آي أداة جديدة تحمل اسم أوبريتور (Operator)، يمكنها تصفح الإنترنت والتفاعل مع صفحات الويب وأداء مهام متنوعة، مثل ملء النماذج وطلب البقالة وحجز الرحلات، بالإضافة إلى القدرة على الرؤية عبر لقطات الشاشة".
ستكون محركات البحث أيضاً قادرة على تحويل أنواع مختلفة من المعلومات إلى أشكال متعددة من المحتوى. ولعل أقرب تطبيق قائم الآن هو نوت بوك إل إم (NotebookLM) من جوجل، الذي يحوّل ملفات نصية مختلفة إلى بودكاست حي.
مثلاً، عوضاً عن البحث عن طريقة إصلاح عطل في الغسالة، تلتقط صورة للغسالة وصورة للخطأ الظاهر على شاشتها، ثم تطلب صوتياً:
"أرني كيف يمكنني إصلاح هذا العطل".
ليعتمد محرك البحث على الصورة والتسجيل الصوتي وشبكة الإنترنت بتوليد فيديو متكامل خطوة بخطوة لكيفية إصلاحها!
مع التقدم السريع في تقنيات البحث المدعومة بالذكاء الاصطناعي، يبدو المستقبل مليئاً بالفرص التي ستغيّر الطريقة التي نتفاعل بها مع المعلومات. ستتحول محركات البحث من مجرد أدوات تعرض روابط إلى حلول متكاملة تنفذ المهام نيابة عنا، ما يجعلها أشبه بمساعدِات شخصية قادرة على فهم احتياجاتنا وتقديم حلول مخصصة.