عندما نتأمل إسهامات الذكاء الاصطناعي في العلم، فمن المرجح أن نفكر في ألفافولد، وهو برنامج طي البروتينات من شركة جوجل ديب مايند (Google DeepMind)، الذي كان السبب في فوز مبتكره بجائزة نوبل العام الماضي.
والآن، تقول شركة أوبن أيه آي (OpenAI) إنها ستدخل المجال العلمي أيضاً، بنموذج مخصص للتصميم الهندسي للبروتينات.
تقول الشركة إنها طورت نموذجاً لغوياً يبتكر بروتينات قادرة على تحويل الخلايا العادية إلى خلايا جذعية، وإنه تمكن من التغلب على البشر في هذه المهمة بسهولة.
يمثل هذا العمل أول نموذج بنته أوبن أيه آي للتركيز على البيانات الحيوية، وأول ادعاء علني لها بأن نماذجها قادرة على تقديم نتائج علمية غير متوقعة. ولهذا، فإنه يمثل خطوة إلى الأمام نحو حسم مسألة قدرة الذكاء الاصطناعي على التوصل إلى اكتشافات فعلية، وهو ما يعتبره البعض اختباراً مهماً على الطريق نحو الحصول على "الذكاء الاصطناعي العام".
منذ فترة وجيزة، قال الرئيس التنفيذي لأوبن أيه آي، سام ألتمان، إنه "واثق" من أن شركته تعرف كيف تبني الذكاء الاصطناعي العام، مضيفاً أن "الأدوات الفائقة الذكاء يمكن أن تسرع الاكتشاف العلمي والابتكار إلى حد يتجاوز بكثير ما نحن قادرون على فعله بمفردنا".
بدأ مشروع التصميم الهندسي للبروتينات قبل عام، عندما تواصلت شركة أبحاث إطالة العمر ريترو بايوساينسز (Retro Biosciences) التي يقع مقرها في سان فرانسيسكو مع أوبن أيه آي بهدف التعاون معها.
لم يكن هذا الارتباط محض صدفة، فقد مول الرئيس التنفيذي لأوبن أيه آي سام ألتمان، شخصياً، شركة ريترو بمبلغ 180 مليون دولار، كما أفادت مجلة إم آي تي تكنولوجي ريفيو أول مرة في 2023.
اقرأ أيضاً: بعد 100 عام: كيف ستتطور علاقة البشر بالتكنولوجيا؟
الهدف: إطالة عمر الإنسان بمقدار 10 أعوام
حددت ريترو هدفها بإطالة عمر الإنسان الطبيعي بمقدار 10 أعوام. ولتحقيق هذا الهدف، تعمل على دراسة ما يسمى "عوامل ياماناكا" (Yamanaka factors). وهي مجموعة من البروتينات التي تؤدي إضافتها إلى خلية جلدية بشرية إلى تحويل هذه الخلية إلى خلية جذعية تتمتع بمظهر يافع، من النوع القادر على إنتاج أي نسيج آخر في الجسم.
تمثل هذه الظاهرة بالنسبة إلى الباحثين في ريترو، والشركات ذات التمويل الكبير مثل ألتوس لابز (Altos Labs)، نقطة انطلاق محتملة لتجديد شباب الحيوانات، أو بناء الأعضاء البشرية، أو توفير إمدادات من الخلايا البديلة.
لكن "إعادة برمجة" الخلايا هذه ليست فعالة للغاية. فقد تستغرق أسابيع عدة، إضافة إلى أن نسبة الخلايا التي تجتاز رحلة التجديد بالكامل بين الخلايا المعالجة في الأطباق المخبرية أقل من 1%.
جرى تدريب نموذج أوبن أيه آي الجديد، الذي يحمل اسم "جي بي تي 4 بي مايكرو" (GPT-4b micro)، كي يقترح طرقاً لإعادة تصميم العوامل البروتينية هندسياً من أجل تعزيز قدراتها. وفقاً لأوبن أيه آي، استخدم الباحثون النموذج لتغيير اثنين من عوامل ياماناكا لزيادة فعاليتهما بأكثر من 50 ضعفاً، وفقاً لبعض القياسات الأولية على الأقل.
يقول الباحث في أوبن أيه آي جون هولمان: "عموماً، يبدو أن هذه البروتينات أفضل من تلك التي تمكن العلماء من إنتاجها بأنفسهم".
كان هولمان وآرون جايك من أوبن أيه آي، إضافة إلى ريكو مينل من ريترو، المطورين الرئيسيين للنموذج.
لن يتمكن العلماء من خارج الشركتين من التحقق من مصداقية النتائج إلا بعد نشرها، وهو ما تقول الشركتان إنهما تخططان له. علاوة على أن النموذج ليس متاحاً للاستخدام على نطاق أوسع، فهو ما زال نموذجاً تجريبياً مصمماً لمهمة محددة للأغراض التوضيحية، لا منتجاً أطلقته الشركتان رسمياً.
يقول جايك: "يهدف هذا المشروع إلى إظهار مدى جديتنا إزاء الإسهام في العلوم. لكننا لم نحدد بعد إن كنا سنظهر هذه الإمكانات للعالم بصيغة نموذج منفصل أو سندمجها ضمن نماذج التفكير الرئيسية لدينا".
اقرأ أيضاً: جوجل ديب مايند تقدّم أقوى نموذج ذكاء اصطناعي للتنبؤ بالطقس
كيف يعمل النموذج الجديد؟
لا يعمل النموذج وفق الطريقة نفسها التي يعمل بها نموذج ألفافولد من جوجل، الذي يتنبأ بالأشكال التي ستتخذها البروتينات. بما أن عوامل ياماناكا هي بروتينات مرنة وغير منظمة على نحو غير معتاد، وفقاً لأوبن أيه آي، فقد استدعى ذلك منها اتباع أسلوب مختلف للتعامل معها، وهو أسلوب تبين أن نماذجها اللغوية الكبيرة مناسبة له.
خضع النموذج للتدريب على أمثلة من التسلسلات البروتينية من العديد من أنواع الأحياء، إضافة إلى معلومات حول البروتينات التي تميل إلى التفاعل بعضها مع بعض. وعلى حين أن هذا يمثل كمية كبيرة من البيانات، فإنه لا يكافئ سوى جزء بسيط مما تدربت عليه بوتات الدردشة الرئيسية لدى أوبن أيه آي، ما يجعل من جي بي تي 4 بي مايكرو مثالاً على "نموذج لغوي صغير" يعمل بالاعتماد على مجموعة بيانات مركزة.
عندما حصل علماء ريترو على النموذج، حاولوا توجيهه نحو اقتراح تصاميم جديدة محتملة لبروتينات ياماناكا. وقد استخدموا في أوامرهم النصية طريقة مماثلة لطريقة "التعلم بأمثلة قليلة" (few-shot)، حيث يوجه المستخدم سؤالاً إلى بوت الدردشة من خلال تزويده بسلسلة من الأمثلة مع الإجابات، متبوعة بمثال يجب على البوت أن يجيب عنه.
على الرغم من أن مختصي الهندسة الجينية يمتلكون وسائل تتيح لهم توجيه تطور الجزيئات في المختبر، فإنهم لا يستطيعون عادة أن يختبروا سوى عدد محدود من الاحتمالات. وحتى البروتين ذو الطول المعتاد قابل للتغير بطرق لا حصر لها تقريباً (لأنه يتكون من المئات من الحموض الأمينية، ويوجد 20 شكلاً محتملاً لكل من هذه الحموض).
غير أن نموذج أوبن أيه آي يقدم في أغلب الأحيان اقتراحات تتضمن تغييرات تشمل ثلث الحموض الأمينية في البروتينات.
اقرأ أيضاً: تقنية حديثة مستوحاة من الخلايا البشرية لتخزين البيانات في الحمض النووي
يقول الرئيس التنفيذي لريترو، جو بيتس لاكروا: "لقد باشرنا باستخدام هذا النموذج في المختبر على الفور، وحصلنا على نتائج واقعية". ويضيف قائلاً إن الأفكار التي اقترحها النموذج كانت استثنائية، وأدت إلى تحسينات على عوامل ياماناكا الأصلية في نسبة كبيرة من الحالات.
يقول الباحث المختص بالشيخوخة في جامعة هارفارد، فاديم غلاديشيف، الذي يقدم الاستشارات لريترو، إننا في حاجة إلى طرق أفضل لصنع الخلايا الجذعية، ويقول: "بالنسبة لنا، سيكون ذلك مفيداً للغاية. فخلايا الجلد قابلة لإعادة البرمجة بسهولة، لكن الخلايا الأخرى ليست كذلك. وعندما نحاول فعل هذا في نوع جديد من الكائنات الحية، فإن العملية غالباً ما تكون مختلفة للغاية، ولا تؤدي إلى أي نتيجة".
ليس من الواضح بالضبط كيف يتوصل جي بي تي 4 بي مايكرو إلى تخميناته، كما هو الحال في أغلب الأحيان مع نماذج الذكاء الاصطناعي. يقول بيتس لاكروا: هذا مماثل لما حدث عندما سحق ألفاغو أفضل اللاعبين البشر في لعبة غو، غير أننا استغرقنا وقتاً طويلاً لمعرفة السبب. ما زلنا نحاول اكتشاف الطريقة التي يتبعها في العمل، ونعتقد أن الأسلوب الذي نتبعه لتحقيق هذا لم يجعلنا نتعمق بعد في الجوانب الجوهرية".
تقول أوبن أيه آي إن هذا المشروع المشترك لم يتضمن أي دفع للأموال بين الشركتين. لكن بما أن هذا العمل قد يفيد ريترو –التي يمثل ألتمان أكبر مستثمريها– فإن هذا الإعلان قد يزيد التساؤلات التي تحيط بالمشاريع الجانبية للرئيس التنفيذي لأوبن أيه آي.
في العام الماضي، قالت صحيفة وول ستريت جورنال (Wall Street Journal) إن استثمارات ألتمان الواسعة النطاق في الشركات الناشئة التكنولوجية الخاصة تمثل بمجموعها "إمبراطورية استثمارية غامضة" تعمل على "خلق قائمة متزايدة من النزاعات المحتملة"، بما أن بعض هذه الشركات يتعامل تجارياً مع أوبن أيه آي أيضاً.
في حالة ريترو، فإن مجرد الارتباط بألتمان وأوبن أيه آي والسباق نحو الذكاء الاصطناعي العام قد يعزز سمعتها ويزيد قدرتها على توظيف العاملين وجمع الأموال. لم يجب بيتس لاكروا عن الأسئلة التي تتعلق بتوجه الشركة التي ما زالت في بداياتها نحو جمع الأموال في المرحلة الحالية.
تقول أوبن أيه آي إن ألتمان لم يشارك في هذا العمل على نحو مباشر، وإنها لا تتخذ قراراتها بناء على استثمارات ألتمان الأخرى أبداً.