تَعِدُ الحوسبة الكمومية بالتحقيق في العديد من الاختراقات في مختلف القطاعات، مدفوعة بقدرتها على حل المشكلات المعقدة بسرعات غير مسبوقة، حيث من المتوقع أن تستفيد الصناعات مثل الخدمات اللوجستية وتطوير الأدوية وإدارة سلاسل التوريد والتمويل من قدرات التحسين للحوسبة الكمومية، ولكن ما يخشاه الكثيرون هو التهديد الكبير الذي تشكّله لطرق التشفير المستخدمة حالياً في تأمين المعلومات والبيانات، ما قد يجعل أنظمة التشفير التقليدية عرضة للخطر.
وهنا تأتي أهمية تطوير اتصالات كمومية آمنة، وهو ما يمثّل نهجاً تحويلياً لحماية البيانات في وقتٍ قد تتعثر فيه الأساليب التقليدية لتشفير البيانات والمعلومات كما نعرفها الآن، فما هي الاتصالات الآمنة الكمية؟ وما هي أهميتها؟ وما آخر ما توصلت إليه الأبحاث عنها؟
ما هي الاتصالات الآمنة الكمية QSC؟
يشير الاتصال الآمن الكمومي (Quantum Secure Communication، اختصاراً كيو إس سي QSC) إلى طريقة لنقل المعلومات بأمان باستخدام مبادئ ميكانيكا الكم، حيث تضمن الخصائص الفريدة للحالات الكمومية مثل التشابك الكمومي اكتشاف أي محاولة للتنصت على الاتصال، ما يوفّر فعلياً تشفيراً غير قابل للكسر ضد المتسللين المحتملين حتى مع أجهزة الكمبيوتر الكمومية القوية.
ومن أهم المفاهيم الرئيسية في الاتصالات الكمومية الآمنة هي:
- توزيع المفاتيح الكمومية Quantum Key Distribution: يُعدّ بروتوكولاً أساسياً في الاتصالات الكمومية الآمنة يسمح لطرفين بإنشاء مفتاح سري مشترك بأمان غير مشروط، حيث يستفيد من الخصائص الكمومية مثل التراكب الكمومي والتشابك الكمومي للكشف عن محاولات التنصت.
- الشبكات القائمة على التشابك Entanglement-based Networks: تعمل على تعزيز الأمان من خلال ضمان عدم تعرض المعلومات الكمومية للاختراق أبداً في أثناء نقلها، فحتى لو اختُرِق الاتصال الآمن واختُرِقت أجزاء من الشبكة، ستظل المعلومات الكمية محمية.
- الانتقال الآني الكمي Quantum Teleportation: تمكِّن هذه العملية من نقل الحالات الكمية بين المواقع دون تحريك الجسيمات المادية نفسها، حيث تؤدي دوراً حاسماً في الاتصالات الكمية الآمنة من خلال السماح بنقل المعلومات بشكلٍ فوري وآمن.
- التشفير الكمي Quantum Cryptography: إلى جانب توزيع المفاتيح الكمومية، يشمل التشفير الكمي تقنيات مختلفة تستخدم خصائص الكم للتشفير وفك التشفير، حيث صُمِمت هذه الأساليب لتكون آمنة ضد الهجمات المحتملة من أجهزة الكمبيوتر الكمومية المستقبلية.
اقرأ أيضاً: ما هي الحوسبة الكمومية؟ وكيف تعمل وما الفائدة منها؟
ما هي أهمية الاتصالات الآمنة الكمية؟
تعتبر الاتصالات الآمنة الكمومية بالغة الأهمية خاصة في سياق التهديدات الناشئة من الحوسبة الكمومية والحاجة إلى حماية قوية للبيانات، وتأتي أهميتها من خلال:
الحماية من التهديدات الكمومية
مع تقدم أجهزة الكمبيوتر الكمومية فإنها قد تشكّل خطراً كبيراً على طرق التشفير التقليدية، وذلك لأن التشفير الكلاسيكي المتبع حالياً يعتمد على المشكلات الرياضية التي يمكن لأجهزة الكمبيوتر الكمومية حلها بكفاءة، ما يسمح للمخترقين بفك تشفير المعلومات الحساسة.
ولكن تستخدم الاتصالات الكمومية الآمنة مبادئ ميكانيكا الكم مثل نظرية عدم الاستنساخ ومبدأ عدم اليقين لإنشاء قنوات آمنة محصنة نظرياً ضد الاختراق، ما يضمن أنه حتى إذا كانت هناك محاولة لاعتراض الاتصالات بواسطة كمبيوتر كمومي، فإن أي اضطراب في الحالة الكمومية سينبّه الأطراف المعنية ما يحافظ على سلامة البيانات.
اقرأ أيضاً: كيف تتعلم الحوسبة الكمومية؟ دورات متاحة للجميع عبر الإنترنت
عدم قابلية المعلومات للتغيير نظرياً
يُعدّ توزيع المفاتيح الكمومية (QKD) أحد المكونات الرئيسية للاتصال الكمومي الآمن، حيث يُتيح لطرفين إنشاء مفتاح سري مشترك بشكلٍ آمن، ومن ثَمَّ يضمن أن أي محاولة لقياس الحالات الكمية المستخدمة في تبادل المفاتيح أو مراقبتها ستغيّر تلك الحالات، ما يجعل التنصت قابلاً للكشف ويوفّر مستوى من الأمان لا يمكن تحقيقه باستخدام طرق التشفير الكلاسيكية.
الأهمية الاستراتيجية لمختلف القطاعات
يُعدّ تنفيذ الاتصالات الآمنة الكمومية أمراً حيوياً للقطاعات التي تتعامل مع البيانات الحساسة، بما في ذلك القطاعات الحكومية والمالية والرعاية الصحية والاتصالات، حيث تتطلب هذه القطاعات تدابير أمنية قوية للحماية من التجسس والهجمات الإلكترونية، ومن ثَمَّ مع شيوع حوادث خروقات البيانات وتطورها بشكلٍ متزايد، تقدّم الاتصالات الآمنة الكمية حلاً واعداً لحماية المعلومات المهمة.
تسهيل التقنيات المستقبلية
لا يتعلق الاتصال الآمن الكمومي باحتياجات الأمن الفورية فحسب، بل إنه يضع الأساس أيضاً للتقدم التكنولوجي المستقبلي، حيث يمكّن للشبكات القائمة نفسها على التشابك التي تسهّل الاتصالات الآمنة الكمية أن تدعم أيضاً التطورات في الحوسبة الكمومية الموزعة وتقنيات الاستشعار المتقدمة، ومع تطور هذه التقنيات سيكون وجود إطار اتصال آمن ضرورياً لنشرها بنجاح.
الاستعداد العالمي للحوسبة الكمومية
مع الاستعداد لما يُسمَّى كيو داي (Q-Day)، وهو اليوم الذي تمتلك فيه أجهزة الكمبيوتر الكمومية القدرة على كسر خوارزميات التشفير الحالية، فإن وجود اتصال كمومي آمن أمر ضروري للحفاظ على أمان البيانات، حيث بدأ تطوير تقنيات النقل الآمنة الكمومية وتنفيذها على مستوى العالم بشكلٍ استباقي لمعالجة تحديات الأمن المستقبلية التي تفرضها الحوسبة الكمومية.
اقرأ أيضاً: ما المتوقع في مجال الحوسبة إن نجحت آي بي إم ببناء حاسوب كمومي بسعة 100 ألف كيوبت؟
إلى أين وصلت الأبحاث المتعلقة بالاتصالات الآمنة الكمية وتطبيقاتها؟
أحرزت الأبحاث والتطبيقات المتعلقة بالاتصالات الكمومية الآمنة تقدماً كبيراً وخاصة في مجالات توزيع المفاتيح الكمومية والتشفير ما بعد الكم، حيث بدأ العلماء بمعالجة التحديات التي تواجه الحلول الفيزيائية للحوسبة الكمومية، وبالتحديد ما يتعلق بتوزيع المفاتيح الكمومية الذي ثبت رياضياً أنه آمن للغاية. ولكن مع ذلك، فإنه يعتمد على قناة اتصال مباشرة بين الطرفين وضرورة وجود أجهزة استشعار دقيقة ومكلفة.
حيث يشترط لأمان توزيع المفاتيح الكمومية (QKD) أن تكون الإشارة المرسلة منخفضة جداً، ما يحدُّ من المسافة القصوى للتواصل بين الطرفين، بالإضافة إلى الحاجة إلى مستشعرات أكثر دقة وأعلى تكلفة. ولمعالجة هذه المشكلة، أعد الباحث السعودي والمختص في مجال الحوسبة والاتصالات الكمومية إبراهيم المسلم، ورقة بحثية لحل معضلة تواجه علماء التشفير الكمومي منذ أكثر من 20 عاماً.
والورقة البحثية التي لم تخضع لمراجعة الأقران بعد، هي عبارة عن نظرية رياضية توصل إليه الدكتور إبراهيم المسلم وأثبت فيها إمكانية استخدام إشارات أعلى شدة مع المحافظة على مستوى الأمان نفسه، ما قد يمكّن من التواصل على مسافات أبعد باستخدام أجهزة أقل تكلفة.
بحمدالله وتوفيقه، انتهيت من إعداد ورقة علمية في ((الاتصالات الآمنة الكمية)) والتي تقدم حل لمعضلة تواجه علماء التشفير الكمي منذ أكثر من ٢٠ سنة
سأعرف بالمعضلة والحل، ومشاكل طرق التشفير المعتمدة من NIST، المعروفة بتشفير ما بعد الكم (Post Quantum Cryptography)شاهد على إكس— إبراهيم المسلَّم (@csibrahim) December 31, 2024
اقرأ أيضاً: تعرّف إلى جهود الإمارات والسعودية وقطر في تطوير الحوسبة الكمومية
ويُعدّ الحل الذي قدّمه إبراهيم المسلم أحد الجهود القليلة التي لا يزال يجريها العديد من الباحثين ومراكز الأبحاث والحكومات لتطوير شبكات اتصالات كمومية عملية لتوفير نقل آمن محسن للبيانات، حيث طوّر فريق بحث تعاوني من أوروبا وآسيا وأميركا الجنوبية مصدراً جديداً للضوء تنبعث منه فوتونات متشابكة ساطعة بشكلٍ استثنائي، والتي تُعدُّ عناصر رئيسية في الاتصال الكمي لتوفير اتصال فوري غير قابل للكسر، ما يجعلها مثالية لنقل البيانات بشكل آمن.
كما أحرز باحثون في المعهد الوطني للمعايير والتكنولوجيا (NIST) أيضاً تقدماً كبيراً في أنظمة توزيع المفاتيح الكمومية، حيث حققوا سرعات قياسية للمفاتيح تتجاوز مليوني بت في الثانية عبر الألياف الضوئية، وطوّروا تكوينات تقلل التكاليف عن طريق تقليص عدد أجهزة الكشف عن الفوتون الفردية المطلوبة إلى النصف، حيث يُعدّ هذا الكشف ضرورياً لنشر الاتصالات الآمنة الكمومية في الشبكات المحلية وخارجها.
اقرأ أيضاً: 6 من أبرز الوظائف في مجال الحوسبة الكمومية
وفيما يتعلق بالتطبيقات العملية، فإن دولة الإمارات تُعتبر من ضمن دول قليلة عملت على إنشاء محطة اتصالات كمومية فائقة الآمان، والتي تعتبر الأولى من نوعها في المنطقة العربية بغرض تطوير الاتصالات الضوئية الآمنة بالأقمار الصناعية ودمج أبوظبي في الشبكة العالمية لطاقة الكم.
بالإضافة إلى ذلك، قامت العديد من الدول ببناء شبكات اتصالات كمومية آمنة لحماية بنيتها التحتية باستخدام توزيع المفاتيح الكمومية، من ضمنها جهود شركة الاتصالات الكورية الجنوبية التي طوّرت تقنية أمان اتصالات كمومية خاصة تجمع بين توزيع المفاتيح الكمومية (QKD) والتشفير ما بعد الكم (PQC)، والذي يستفيد من نقاط القوة في كلتا التقنيتين لتأمين الاتصالات بشكلٍ فعّال.
كما يُعدّ مشروع الاتحاد الأوروبي متمثلاً في القمر الاصطناعي إيغل ون (Eagle-1) أحد أبرز الجهود في هذا الصدد، حيث يهدف المشروع الذي يضم أكثر من 20 شركة أوروبية إلى تعزيز الأمن السيبراني والاتصالات داخل الاتحاد الأوروبي، من خلال الاستفادة من مبادئ ميكانيكا الكم لضمان نقل البيانات بشكلٍ آمن.