ستصبح الخلايا المجففة وجبة رئيسية. على الأقل، هذا ما تحاول أن تقنعنا به مجموعة جديدة من الشركات الناشئة المختصة بالتكنولوجيا الحيوية، متسلحة بالبكتيريا التي تلتهم الكربون، بالإضافة إلى تمويل ضخم. تبدو مزاعم هذه الشركات رائعة إلى درجة يصعب تصديقها: فهي تقول إنها قادرة على صُنع الغذاء من الهواء.
غير أن هذا ما تفعله أنواع محددة من البكتيريا التي تعيش في التربة، تماماً. في الطبيعة، تعيش هذه الميكروبات "الذاتية التغذية" على نظام غذائي شحيح مكون من الأوكسجين والنيتروجين وثنائي أوكسيد الكربون، إضافة إلى بخار الماء المسحوب مباشرة من الغلاف الجوي. في المختبر، تفعل هذه الميكروبات الشيء نفسه، حيث تتغذى على نفايات الكربون، وتتكاثر بسرعة هائلة إلى درجة أن تجمعاتها تتضخم حتى تملأ خزانات تخمير كبيرة الحجم. بعد شفط هذه الكتلة الحيوية البكتيرية وتجفيفها، تتحول إلى مسحوق غني بالبروتين وغني للغاية بالمواد المغذية، ويتسم جوهرياً بأنه مصدر متجدد على نحو غير محدود.
اقرأ أيضاً: تقنيات إنتاج الغذاء الحديثة قد تعيد 80% من الأراضي الزراعية في العالم إلى الطبيعة
بحث مُستَلهم من وكالة ناسا
أسست ليزا دايسون إحدى هذه الشركات الناشئة، آير بروتين (Air Protein). وعندما تتحدث عما ألهمها لتأسيس شركتها، غالباً ما تستشهد ببحث لوكالة ناسا يعود إلى الستينيات. في ذلك الحين، كانت الوكالة تأمل بتغذية رواد الفضاء في الرحلات الفضائية الطويلة، لذا درست فكرة زراعة أطباق بكتيرية على متن المركبة الفضائية، غير أنها وجدت في نهاية المطاف أن هذا الغذاء قد لا يكون مستساغاً لدى رواد الفضاء من الناحية النفسية. وأوضحت دايسون في أحد مؤتمرات تيد (TED) في 2016 قائلة: "في الواقع، الأرض شبيهة بمركبة فضائية. لدينا مساحة محدودة وموارد محدودة، كما أننا في حاجة ماسة على الأرض لاستكشاف طرق أفضل لإعادة تدوير ما لدينا من الكربون". هل يمكن لهذه البكتيريا أن تكون حلاً لهذه المشكلة؟
حالياً، الجواب القاطع هو "ربما". بدأت نحو 25 شركة حول العالم تقبل مواجهة هذا التحدي، على أمل تحويل الكميات الوفيرة من ثنائي أوكسيد الكربون إلى "بروتين هوائي" مغذٍّ. يسعى الأشخاص الذين يعملون في هذه الشركات إلى تصميم مصدر غذائي يتسبب بإطلاق انبعاثات بكميات أقل بكثير مما تتسبب به الأساليب الزراعية التقليدية، بل وقد يؤدي إلى إحداث زعزعة في الزراعة بأسرها. لتحقيق هذا الهدف، يجب أن يتجاوزوا بعض المعوقات الواقعية للغاية. سيحتاجون إلى زيادة كميات إنتاج هذا البروتين إلى مستوى كافٍ للمنافسة التجارية، وتحقيق هذا الأمر بطريقة لا تتسبب بالمزيد من الانبعاثات أو غيرها من المشكلات البيئية. أمّا الأمر الأصعب فهو التالي: يتعين عليهم التغلب على المشاعر السيئة التي قد تنتاب الأشخاص عند التفكير في تناول وجبة مصنوعة من البكتيريا.
يركّز البعض من هذه الشركات على الأعلاف الحيوانية الصناعية، وطعام الأسماك، وطعام الحيوانات الأليفة، وهي منتجات ذات هوامش ربح أصغر، لكنها مرتبطة بمستهلكين أقل تطلباً، وتقلل من العقبات التنظيمية. غير أن الغذاء البشري هو مكمن الأرباح الحقيقية والتأثير الحقيقي. لهذا السبب، يركّز العديد من الشركات، مثل آير بروتين التي أسستها دايسون، على الغذاء البشري. في 2023، افتتحت آير بروتين أول "مزرعة هواء" في مدينة سان لياندرو في ولاية كاليفورنيا، وهي مركز لصناعة إنتاج الأغذية التجارية، وأعلنت اتفاقية تطوير استراتيجية مع إحدى أكبر شركات تجارة السلع الزراعية على مستوى العالم، أيه دي إم (ADM)، للتعاون في مجال البحث والتطوير، وبناء مصنع أضخم على مستوى الإنتاج التجاري. بدأ منتج الشركة الذي يحمل اسم "الدجاج الهوائي" (Air Chicken) (وهو ليس دجاجاً فعلياً على الإطلاق، تفادياً للالتباس) يشق طريقه ببطء إلى رفوف متاجر البقالة وموائد الطعام. لكن هذه ليست سوى البداية. أحرزت شركات أخرى أيضاً بعض التقدم في مجال الاستفادة من قدرة البكتيريا على تحويل الهواء إلى بروتين، وقريباً، قد تصبح أقراص البروتين الميكروبي هذه شائعة شأنها شأن البرغر النباتي.
اقرأ أيضاً: شركة مصرية تطور نموذجاً مبتكراً للذكاء الاصطناعي يتحدث لغة البروتينات
بديل للبروتين
إن الميزات البيئية للبروتين الميكروبي واضحة بما يكفي، فهي عملية حسابية بسيطة تأخذ بعين الاعتبار الأراضي الصالحة للزراعة والطاقة والأفواه التي يجب إطعامها. لقد وصل الطلب العالمي على البروتين إلى أعلى مستوياته على الإطلاق بالفعل، ومع التوقعات بوصول عدد سكان الأرض إلى 9.7 مليارات نسمة بحلول عام 2050، لن تتمكن أساليب الزراعة التقليدية من تلبية هذا الطلب بسهولة، خاصة وأنها تكافح التغيّر المناخي وتدهور التربة والأمراض. من المتوقع أن ترتفع مستويات استهلاك اللحوم مع تنامي الطبقة المتوسطة العالمية، لكن اللحوم التي تنتجها المزارع الصناعية (factory-farmed meat) تمثّل أحد الأسباب الرئيسية لانبعاثات غازات الدفيئة. على الرغم من أن البدائل الغنية بالبروتين مثل الصويا أكثر استدامة بكثير، فإن معظم كميات الصويا المزروعة في العالم مخصصة لعلف الحيوانات، لا الاستهلاك البشري.
على النقيض من ذلك، تحوِّل "المحاصيل" البكتيرية ثنائي أوكسيد الكربون مباشرة إلى بروتين، في عملية تستهلك قدراً أقل بكثير من الأراضي والمياه. يمكن أن تعمل "مزارع" البروتين الميكروبي على مدار العام في أي مكان تتوفر فيه كهرباء متجددة زهيدة التكاليف، حتى في أماكن مثل صحراء أتاكاما في تشيلي، حيث الزراعة شبه مستحيلة. يمكن أن يساعد هذا على تخفيف العبء عن الأراضي الزراعية، بل وقد يمنحنا حتى فرصة التخلي عنها لصالح الحياة البرية.
وكما أوضح المؤسس المشارك والرئيس التنفيذي للتكنولوجيا في الشركة الناشئة الفنلندية سولار فودز (Solar Foods)، يوها-بيكا بيتكانين، في مقطع فيديو نشرته الشركة مؤخراً: "نحن نعمل على تحرير إنتاج الغذاء من قيود الزراعة". في أبريل/نيسان من عام 2024 افتتحت سولار فودز مصنعاً تجريبياً في مدينة فانتا، التي تبعد مسافة رحلة قصيرة بالقطار عن مطار هلسينكي. وفي ذلك المصنع، الذي يحمل اسم "فاكتوري 01" (Factory 01)، تأمل الشركة بإنتاج ما يكفي من مسحوقها البروتيني سولين (Solien) ذي اللون الأصفر الذي يشبه لون نبتة عصا الذهب لإثبات نجاح طريقتها، أي ما يقارب 160 طناً مترياً في العام.
اقرأ أيضاً: كيف تساعدنا تقنية كريسبر على مواجهة التغيّر المناخي؟
وعلى غرار آير بروتين، تبدأ سولار فودز عمليتها الإنتاجية باستخدام البكتيريا المؤكسِدة للهيدروجين بصورة طبيعية التي تستخدم ثنائي أوكسيد الكربون في عملية الاستقلاب، على غرار النباتات. تتكاثر البكتيريا في الماء ضمن مفاعلات حيوية معقمة شبيهة بأحواض التخمير المستخدمة في صناعة المشروبات؛ معتمدة على نظام غذائي ثابت من ثنائي أوكسيد الكربون والهيدروجين وبضع مواد مغذية إضافية، مثل النيتروجين والكالسيوم والفوسفور والبوتاسيوم. مع تكاثر البكتيريا، يصبح الماء أكثر كثافة متحولاً إلى سائل لزج يجري شفطه وتجفيفه باستمرار، لإنتاج المسحوق الغني بالبروتين الذي يمكن استخدامه لصنع اللحوم البديلة، ومنتجات الألبان والأجبان، والوجبات الخفيفة.
"نحن نعمل على تحرير إنتاج الغذاء من قيود الزراعة".
يوها-بيكا بيتكانين، سولار فودز
كما يوضّح بيتكانين، فإن فريقه البحثي في مركز الأبحاث التقنية في تي تي (VTT Technical Research Centre) الذي تمتلكه الدولة الفنلندية، كان يعلم بوجود هذه الكائنات الدقيقة في الطبيعة. وللعثور على المرشح المناسب بين هذه الكائنات الدقيقة، ضيق الفريق نطاق البحث ليقتصر على الظروف الطبيعية التي تسمح بوجودها، وبعد ذلك –على الطريقة الفنلندية طبعاً- ارتدى أفراد الفريق أحذية المشي وانطلقوا إلى الطبيعة. يقول بيتكانين ببرود: "في فنلندا، الطبيعة منتشرة في كل مكان. ويمكن العثور على شيء مفيد في حفرة ما".
ومع ذلك، ليس بإمكان أي بكتيريا قديمة أن تنجز المهمة. فالنوع المطلوب يجب أن يكون قادراً على استهلاك ثنائي أوكسيد الكربون والاستمرار بالتكاثر حتى بعد عزله عن الأوساط الميكروبية التي كان يتعايش معها أو يتنافس معها في الطبيعة. يقول بيتكانين: "كنا نبحث عن كائنات دقيقة مسالمة. إنها نادرة للغاية". وجد الباحثون ضالتهم في البكتيريا التي تسكن التربة المبللة من النوع زانثوباكتير (Xanthobacter)، فهي ميكروبات غير سامة ومتوافقة مع الظروف في المختبر ومستساغة بما يكفي للاستخدام في تحضير عدة أنواع من الأغذية.
وفي هذا العام، ضمن الحفلة الصيفية السنوية التي تقيمها شركة سولار فودز، قدم كبير الطهاة في الشركة طبقاً من اللازانيا الصفراء الزاهية المصنوعة من مسحوق سولين. يقول بيتكانين إن المسحوق يمثل طحيناً ممتازاً لصنع عجينة الباستا الطازجة، كما أنه بديل رائع إلى درجة تثير الدهشة للحليب المستخدم في صُنع المثلجات. يتميز هذا المسحوق بأنه غني بأشباه الكاروتينات (carotenoids)، ولهذا فإن مذاقه "قريب من مذاق الجزر"، كما أنه غني بفيتامين ب 12 والحديد الحيوي، ما يجعله رائعاً للنباتيين. لكن هذا المنتج ليس بديلاً فورياً للحليب أو البيض أو حتى اللحم. بل إنه مكوِّن على غرار المكونات الأخرى، ويتنافس معها من حيث القيمة الغذائية والتكلفة والقوام. قال لي بيتكانين إن المنافس الرئيسي للشركة ليس البروتينات الجديدة الأخرى، بل لحم الصويا.
تقول مستشارة اللوائح التنظيمية لصناعة الأغذية الجديدة في الاتحاد الأوروبي، هانا ليستر: "شهد مجال البروتينات البديلة بأسره تغيرات كبيرة وجذرية في الأعوام العشرة الأخيرة". أصبحت أقراص الصويا وبرغر الفاصولياء الآن منتشرة إلى درجة أفقدتها رونقها وجعلتها أقرب إلى موضة بائدة، فالبروتينات البديلة الحديثة الحالية مستنبتة من الخلايا الحيوانية، ومستخلصة من كائنات دقيقة مصممة خصيصاً باستخدام تقنيات جرى تطويرها في المقام الأول لإنتاج اللقاحات وغيرها من المستحضرات الدوائية. كما أن "المزارعين الجزيئيين" أصبحوا يعتنون بحقول من فول الصويا ذي اللون الوردي الزاهي الذي جرى تعديل تركيبته الجينية بحيث يحتوي على بروتينات مطابقة للبروتينات التي تنتجها الخنازير. تقول ليستر: "لقد وصلنا إلى مرحلة أصبحت فيها الشركات تستخدم أكثر التكنولوجيات إثارة للدهشة لإنتاج الغذاء".
إنها عملية تخمير في نهاية المطاف
تعمل شركتا آيربروتين وسولار فودز في مجال جديد للغاية، إلى درجة أن المصطلحات المعتمدة فيه لم تستقر بعد. فالبعض في صناعة البروتينات البديلة يطلق عليها اسماً معبراً: "الزراعة الخلوية" (cellular agriculture)، لكن آخرين يشيرون إليها باسم "تخمير الغاز" (gas fermentation) تعبيراً عن العملية المستخدمة في التصنيع، أو باسم "تخمير الكتلة الحيوية" (biomass fermentation) تعبيراً عن المنتج النهائي. هذه المصطلحات تختلف عن مصطلح "التخمير الدقيق" (precision fermentation)، الذي يشير إلى عملية حيوية أخرى أثارت الكثير من الحماس والضجيج الإعلامي، حيث تعتمد على الخمائر المعدّلة جينياً وأنواع أخرى من الفطريات والبكتيريا لإنتاج بروتينات يصعب تمييزها عن نظيراتها المشتقة من الحيوانات. التخمير الدقيق ليس تقنية جديدة. فقد وافقت إدارة الغذاء والدواء الأميركية على استخدام هذه الطريقة لإنتاج الإنسولين في 1982، كما أن 80% من المنفحة المستخدمة في إنتاج الأجبان حالياً مصنوعة بهذه الطريقة، لتفادي الحاجة إلى استخراج الإنزيمات من بطانة معدات العجول الحية.
بدلاً من دفع الكائنات الدقيقة إلى إنتاج البروتينات المشتقة من الحيوانات، والمألوفة لدينا مسبقاً، تقترح الشركات مثل آير بروتين وسولار فودز تجاوز الوسيط، والتهام الميكروبات نفسها ببساطة، بعد تجفيفها لتحويلها إلى مسحوق. تتسم الكتل الحيوية الميكروبية المصنوعة باستخدام تكنولوجيات التخمير الجديدة هذه بأنها ليفية، وغنية بالفيتامينات، ومتنوعة. أما الأهم من ذلك فهو أن هذه البكتيريا تستهلك الكربون، ولا تتطلب سوى القليل من الأراضي والمياه، ولا تحتاج إلى أسمدة مشتقة من الوقود الأحفوري. وفقاً لتحليل دورة الحياة من جامعة هلسينكي وشركة معهد الموارد الطبيعية في فنلندا (Natural Resources Institute Finland)، فإن إنتاج البروتين الميكروبي أكثر فاعلية من إنتاج البروتين الحيواني بنسبة تتراوح بين 53% و100%.
اقرأ أيضاً: كيف تساعدنا تقنية كريسبر على مواجهة التغيّر المناخي؟
هذا مجال واسع بطبيعة الحال. تتضمن تركيبة مصادر الكهرباء في فنلندا نسبة كبيرة من الطاقات المتجددة مثل الطاقة الكهرومائية وطاقة الرياح، أما في بلد أكثر اعتماداً على الوقود الأحفوري، فإن الأثر البيئي لإنتاج سولين، أو أي بروتين ميكروبي، قد يكون أكبر بكثير. يتطلب استنبات الميكروبات بكميات كبيرة خلق الظروف المثالية لها حتى تتكاثر، وعلى غرار أي عملية إنتاج صناعية، يحتاج هذا إلى مصانع وتجهيزات، إضافة إلى طاقة لتشغيل المنظومة بأسرها. تتطلب هذه العملية أيضاً كميات كبيرة من عناصر مثل ثنائي أوكسيد الكربون والهيدروجين.
يمثّل الهيدروجين الذي يصنعه البشر أحد العناصر الأساسية في النظام الغذائي للبكتيريا، وينتج هذا الهيدروجين بالكامل تقريباً، على مستوى العالم، عن عمليات إنتاج الوقود الأحفوري، أمّا الهيدروجين "الأخضر"، الذي تستخدمه سولار فودز في مصنعها التجريبي، فهو ناتج عن استخدام التحليل الكهربائي الذي يعتمد على الطاقات المتجددة في تفكيك الماء، وهي طريقة ما زالت غير شائعة حتى الآن. وفقاً للرئيس التنفيذي لشركة البروتينات الميكروبية نوفونيوتريينتس (NovoNutrients) التي تعمل حالياً على توسيع عملها الحالي في الإنتاج الصناعي لغذاء الأسماك ليشمل الغذاء البشري، ديفيد تزي، فإن القطاعات التي تعتمد على الهيدروجين في صناعة البروتينات الميكروبية ستستقر، على الأرجح، حيث يكون الهيدروجين الأقل تكلفة.
مصادر الكربون
تتسم مصادر الكربون لهذه التكنولوجيا بالتنوع، على غرار مصادر الهيدروجين. فإذا أرادت شركة أن تستخدم نفايات الكربون المُلتَقَط، ستحتاج إلى علاقات وسيطة مع الصناعات لربط مصانعها للبروتين بهذه المصادر. أمّا الطريقة الأخرى، أي استخدام الكربون المسحوب مباشرة من الغلاف الجوي من خلال "الالتقاط الهوائي المباشر" (direct air capture)، أو داك (DAC) اختصاراً، فهي ما زالت جديدة ومكلفة، وتتطلب مقادير كبيرة من الطاقة. حالياً، تعتمد آير بروتين على ثنائي أوكسيد الكربون المتوفر تجارياً والمستخدم في إنتاج المياه الغازية، وعلى الرغم من أن سولار فودز تستخدم طريقة داك للحصول على 15% تقريباً من الكربون الذي تحتاج إليه في مصنعها التجريبي، فإنها تستجر النسبة المتبقية تجارياً. تأمل الشركتان بتعديل مصادرهما للكربون مع توسيع نطاق العمل، ومع زيادة الجدوى الاقتصادية لطريقة داك.
حتى لو كان النظام الغذائي للبكتيريا مكوناً بالكامل من الكربون المُلتَقَط، فإن البكتيريا لن تزيل هذا الكربون من الغلاف الجوي على نحو دائم، بما أننا نُطلق ثنائي أوكسيد الكربون عندما نهضم الطعام. على الرغم من هذا، يقول تزي إننا "نجدد استخدام ثنائي أوكسيد الكربون، ونتيح له إضافة قيمة إيجابية كبيرة للغاية إلى الاقتصاد". أمّا الأهم من ذلك فهو أن المنتجات البكتيرية تؤدي إلى تخفيض كبير في بصمة الانبعاثات للبروتين. وفقاً لدراسة تعود إلى عام 2016 لمعهد الموارد العالمية، فإن إنتاج طن واحد من لحم البقر يتسبب بإطلاق 2,400 طن متري تقريباً من انبعاثات غازات الدفيئة. بالنسبة لمصادر البروتين النباتية، على غرار البقوليات، فإن الرقم أقل بكثير من 300 طن، أما في حالة البروتينات الميكروبية، فإن الرقم قد يصل في نهاية المطاف إلى 9 أطنان على الأكثر. يقول تزي: "إذا تمكن شخص ما من تناول قضمة من منتجنا بدلاً من قضمة من أي شيء آخر، فقد يحدث فرقاً كبيراً للغاية".
اقرأ أيضاً: ما الحجم الحقيقي للأثر الكربوني للذكاء الاصطناعي؟ قد يكون أكبر مما تتوقع
بطبيعة الحال، لن ينجح كل هذا إذا بقيت صناعة البروتينات الميكروبية صناعة ضيقة النطاق، أو إذا تبين أن المنتج مكلف للغاية بالنسبة إلى المستهلك العادي. فحتى عند العمل بالاستطاعة القصوى، يستطيع مصنع سولار فودز التجريبي أن ينتج من البروتين في العام ما يكفي وجبة واحدة فقط لسكان فنلندا كافة. غير أن بيتكانين يعتقد أن هذا يمثّل جانباً مشرقاً، من وجهة نظر الأعمال. فهو يعني وجود مجال كبير للنمو. لكن إذا كانت هذه الشركات، مثل سولار فودز وآير بروتين، تأمل بإحراز تقدم في استدامة أنظمتنا الغذائية على المدى الطويل، فيجب أن تزيد إنتاجها أضعافاً مضاعفة أيضاً. ويبقى أن نرى إن كانت ستتمكن من مواجهة هذا التحدي، وإن كان المستهلكون مستعدين للإقبال على منتجاتها.
على الرغم من أن عملية الإنتاج (أي التخمير) والمادة نفسها (أي الكائنات الحية الدقيقة) طبيعيتان تماماً وقديمتان للغاية، فإن فكرة خلط الهواء والميكروبات معاً لصنع وجبة رئيسية لا تزال غريبة للغاية بالنسبة إلى الكثيرين. فالطعام جزء من الثقافة في نهاية المطاف، كما أن البروتين يمثّل قضية سياسية، خصوصاً في الولايات المتحدة. في المقابلات، تحرص دايسون على الإشارة إلى البكتيريا التي تعتمد عليها عملية آير بروتين الإنتاجية باسم "المستنبتات البكتيرية" (cultures)، مشددة على ارتباطها بالأطعمة التقليدية المخمرة، على غرار اللبن الرائب ومعجون فول الصويا المخمر (ميسو). وعلى موقع الويب الخاص بسولار فودز، يظهر أشخاص متأنقون يشربون مخفوق سولين الأصفر على موائد جميلة مصممة على الطريقة الاسكندنافية. ولا توجد صورة لأي بكتيريا.
ما زالت سولار فودز تنتظر الموافقة التنظيمية النهائية في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، لكنها بدأت تبيع سولين في سنغافورة بالفعل، حيث يدخل في صناعة مثلجات الشوكولاتة وقطع السكاكر بنكهة البندق والفراولة. ولا يبدو حتى الآن أن السنغافوريين يجدون أي مشكلة في تناول مسحوق البكتيريا. عادة ما تكون البلدان الأكثر انفتاحاً على منتجات التكنولوجيا الحيوية الغذائية هي تلك التي تمتلك أقل مساحة من الأراضي الصالحة للزراعة. فسنغافورة التي تستورد كل شيء تقريباً، تأمل بأن تلبي 30% من احتياجاتها الغذائية بنفسها بحلول عام 2030. وثمة دول شبه جرداء ومحدودة المساحة (في الشرق الأوسط على سبيل المثال) استثمرت مبالغ ضخمة في التصنيع الحيوي، شأنها شأن هولندا التي استنزفت أراضيها الزراعية بشدة بسبب الأسمدة الكيميائية. لكن، حتى في البلدان التي لا تعاني هذه القيود، "أصبحت الزراعة في وضع حرج بسبب التغيّر المناخي"، على حد قول خبيرة اللوائح التنظيمية ليستر. وتُضيف قائلة: "من المؤسف أننا سنصل، عاجلاً أم آجلاً، إلى مرحلة نعجز فيها عن إنتاج الغذاء بالطريقة التقليدية. نحن في حاجة إلى بدائل حقاً، نحن في حاجة إلى الدعم الحكومي، ونحن في حاجة إلى تغيير جذري في السياسات المتبعة في تمويل الغذاء".
يبدو أن هذه الآراء وجدت أذناً صاغية في الولايات المتحدة. ففي سبتمبر/أيلول من عام 2022، وقّع الرئيس السابق جو بايدن أمراً تنفيذياً لدعم التصنيع الحيوي من خلال توسيع نطاق التدريب، وتبسيط اللوائح التنظيمية، وتعزيز الاستثمار الفيدرالي في البحث والتطوير في مجال التكنولوجيا الحيوية، وقد أشار الأمر التنفيذي على وجه الخصوص إلى "تعزيز إنتاج الكتلة الحيوية المستدامة" بوصفه أحد الأهداف الرئيسية. وفي 2021، أطلقت وكالة مشاريع أبحاث الدفاع المتقدمة "داربا" (DARPA) برنامج "كورنيوكوبيا" (Cornucopia)، حيث طلبت من 4 فرق بحثية -يتضمن أحد هذه الفرق شركة دايسون، آير بروتين- إنشاء نظام تغذية كامل بتصميم صغير بما يكفي لوضعه في سيارة هامفي، بحيث يستطيع سحب النيتروجين والكربون من الهواء واستخدامهما لإنتاج حصص غذائية ميكروبية في شكل مشروبات مخفوقة وألواح وهلام ولحم مقدد. من المحتمل ألّا نشهد على الإطلاق استخدام البروتين الميكروبي في الرحلات الفضائية الطويلة كما كانت ناسا تحلم، لكن الحكومات، على ما يبدو، تراهن على قدرة هذا البروتين على الحفاظ على حياتنا في رحلتنا على متن سفينتنا الفضائية الضخمة المتمثلة بالأرض، شريطة ألّا يرفض طاقم السفينة هذا الطعام بصورة قطعية.