لا يمكن إنكار أن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي كانت ولا تزال إحدى أهم التكنولوجيات التي أثّرت بشدة خلال العقدين الأخيرين في مناحي الحياة الشخصية والمهنية كافة، وازدادت وتيرة تطورها بسرعة كبيرة في منتصف العقد الماضي وبداية العقد الحالي، تزامناً مع الكثير من الابتكارات اللافتة التي كانت نتيجتها إنجازات رائعة أدّت إلى تحقيق قفزات نوعية أثّرت في مختلف جوانب الحياة اليومية والمجالات التقنية والصناعية.
فمع تقنيات مثل التعلم الآلي والرؤية الحاسوبية ومعالجة اللغات الطبيعية وغيرها من تقنيات الذكاء الاصطناعي المتقدمة، يمكننا بكل ثقة أن نتطلع إلى مستقبل أكثر إشراقاً سيكون الذكاء الاصطناعي هو المحرك الأساسي فيه. في هذا المقال نستعرض أبرز إنجازات الذكاء الاصطناعي عام 2024، مع التركيز على الابتكارات التي أحدثت نقلة نوعية في استخدام التكنولوجيا لخدمة البشرية.
الذكاء الاصطناعي مساهم بارز في الاكتشافات العلمية البارزة
ترددت أخبار جائزة نوبل لعام 2024 في أنحاء العالم كافة، فحتى أولئك الذين لم يهتموا أبداً بالإنجازات العلمية سمعوا على الأرجح عن جوائز هذا العام، والسبب يعود بشكلٍ أساسي إلى مساهمة الذكاء الاصطناعي في فوز العلماء بجوائز عام 2024.
جائزة نوبل في الكيمياء 2024: الذكاء الاصطناعي يتنبأ بهياكل البروتين
منحت جائزة نوبل في الكيمياء لعام 2024 لثلاثة علماء، كان المساهم الرئيسي الذي ساعدهم على تطوير أبحاثهم الفائزة بالجائزة المرموقة هو الذكاء الاصطناعي، حيث تمكن العلماء من تطوير نموذج خاص مدعوم بالذكاء الاصطناعي لحل مشكلة عمل العلماء على حلها مدة 50 عاماً، فمنذ سبعينيات القرن العشرين حاول العلماء التنبؤ ببنية البروتين بناءً على تسلسل الأحماض الأمينية، لكن العدد الهائل من التركيبات الممكنة جعلها مهمة معقدة.
وعلى الرغم من أن العالِم ديفيد بيكر (David Baker) أحد الفائزين الثلاثة بالجائزة ابتكر عام 2003 بروتيناً جديداً تماماً من الأحماض الأمينية لا يشبه أي بروتين آخر، فإن التحدي المتمثل في التنبؤ بهياكل البروتين بقي قائماً، لهذا السبب طوّر العلماء الثلاثة نموذجاً مدعوماً بالذكاء الاصطناعي يُسمَّى ألفافولد2 (AlphaFold2) تمكنوا بسببه من التنبؤ ببنية كل بروتين معروف تقريباً.
ومنذ ذلك الحين استخدم أكثر من مليوني عالم من 190 دولة النموذج لإنشاء بروتينات جديدة لاستخدامها في الأدوية والمواد النانوية واللقاحات وأجهزة الاستشعار، كما فهم الباحثون بشكلٍ أفضل مقاومة المضادات الحيوية، وحتى ابتكروا إنزيمات يمكنها تكسير البلاستيك، ولم يكن أي من هذه الإنجازات ممكناً دون تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي.
جائزة نوبل في الفيزياء لعام 2024: التعلم الآلي للشبكات العصبونية الاصطناعية
حصل كلٌ من العالمين جون هوبفيلد (John Hopfield) وجيفري هينتون (Geoffrey Hinton) على جائزة نوبل في الفيزياء لعام 2024 لاختراعهما آلية تُسمَّى آلة بولتزمان (Boltzmann Machine)، وهي نموذج يستخدم التعلم الآلي في الشبكات العصبونية الاصطناعية، يمكنه التعلم من البيانات الداخلية وحل المشكلات التوافقية والتعرف إلى الميزات الرئيسية في مجموعات بيانات محددة.
وتأتي أهمية اختراعهما الجديد في وضعهما حجر الأساس لتكنولوجيا التعلم الآلي الحديث، الذي يُستخدم في العديد من التطبيقات، بما في ذلك نماذج اللغة الكبيرة مثل تشات جي بي تي والسيارات ذاتية القيادة، والمساهمة في تطوير مواد جديدة بخصائص محددة.
اقرأ أيضاً: ما الذي يعنيه فوز أبحاث الذكاء الاصطناعي بجائزتي نوبل في الفيزياء والكيمياء لعام 2024؟
نموذج أوبن أيه آي أو ون: هل أصبح الذكاء الاصطناعي يفكر مثل البشر؟
على الرغم من ارتفاع العديد من الأصوات التي تنادي بالتمهل في تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي، فإن شركة أوبن أيه آي لا تزال تعمل على إصدار النماذج الجديدة بوتيرة متسارعة قد تبدو مخيفة ومثيرة للقلق وأحد ابتكاراتها الأخيرة هو إطلاق نموذج ذكاء اصطناعي جديد يُسمَّى أو ون (o1) الذي يمكنه التفكير مثل البشر بحسب وصف الشركة.
وقد أظهرت الاختبارات أن النموذج الجديد يتفوق بشكل كبير على النموذج الحالي تشات جي بي تي 4 (ChatGPT-4) في العديد من المجالات، بسبب خوارزميته الجديدة تماماً، والتي تسمح بتقديم إجابات على مستوى الخبراء ومطابقة إجابات الأشخاص الحاصلين على درجات علمية متقدمة في المجالات المتخصصة.
على سبيل المثال حتى عندما يرتكب المستخدمون أخطاءً معقدة لا يتعرف عليها سوى الناطقين بها، يشرح النموذج بوضوح أن ما كُتب غير صحيح، وهو أمر لا يمكن لأي أداة موجودة الآن القيام به. علاوة على ذلك، يمكن للنموذج أن يحل الألغاز المنطقية على مستوى البشر نفسه أو حتى أفضل، من خلال معالجة المشكلة أولاً ثم تجربة طرق مختلفة للحل ثم تقديم الحل الصحيح في النهاية.
هذا التطور الكبير في قدرات النموذج المتاح حالياً لمشتركي الخدمة المدفوعة تشات جي بي تي بلس (ChatGPT Plus) وعبر واجهة برمجة التطبيقات يُعدّ إنجازاً كبيراً، ويفتح آفاقاً لانهاية لها في كيفية تأثير نماذج الذكاء الاصطناعي في العديد من المجالات، ويُعدّ خطوة كبيرة إلى الأمام في تكنولوجيا معالجة اللغة الطبيعية ووضع معايير جديدة لمدى جودة ومقدار ما يمكن الذكاء الاصطناعي القيام به.
لأول مرة: رسم خريطة للدماغ البشري تكشف عن تفاصيل مذهلة
من خلال الجمع بين أدوات تصوير الدماغ المعروفة باسم تكنولوجيا التصوير العصبي (Neuroimaging Technique) وتكنولوجيا الرؤية الآلية المدعومة بالذكاء الاصطناعي، تمكن باحثان من مختبر جوجل للأبحاث ومختبر ليشتمان في جامعة هارفارد من تحليل قطعة دماغ بشري بحجم حبة الأرز تحولت لاحقاً إلى الخريطة الأكثر تفصيلاً لعينة دماغ بشري.
وقد احتوت عينة الأنسجة التي يبلغ قطرها مليمتراً مكعباً على نحو 5 آلاف خلية ونحو 150 مليون نقطة اشتباك عصبي، وهي نقاط الاتصال التي تتقاطع فيها الإشارات من خلية عصبية إلى أخرى، كما كان لبعض أزواج الخلايا العصبية خاصية مدهشة تتمثل في الاتصال ببعضها بعضاً بقوة شديدة من خلال ما يصل إلى 50 نقطة اشتباك عصبي.
وتأتي أهمية هذا الاختراق العلمي الذي وفّرت جوجل الصور الخاصة به للجميع في مشروع عبر الإنترنت باسم (Neuroglancer) والذي نُشرت تفاصيله أيضاً في مجلة العلوم (Science)، في إمكانية مساعدته الباحثين على فهم رؤى أعمق في وظائف الدماغ وتطوره، كما يضع الأساس لأبحاث مستقبلية قد تؤدي إلى علاجات مبتكرة للاضطرابات العصبية مثل الصرع أو آلزهايمر أو مرض طيف التوحد.
اقرأ أيضاً: 5 نصائح لتقييم دقة المعلومات الصحية التي توفّرها مواقع الويب وأدوات الذكاء الاصطناعي
الابتكارات في تكنولوجيا الجلد الاصطناعي عام 2024
شهد قطاع تكنولوجيا الجلد الاصطناعي (Artificial Skin) تقدماً كبيراً عام 2024 بمساعدة الذكاء الاصطناعي، حيث ظهر العديد من الابتكارات التي تعد بتعزيز التطبيقات الطبية والروبوتات والجراحات التجميلية أبرزها:
جلد يُشفى ذاتياً للروبوتات: طوّر باحثون من جامعة طوكيو جلداً قادراً على إصلاح نفسه يمكن ربطه بوجوه الروبوتات، ما يسمح بتعبيرات أكثر واقعية وقد يعمل على تعزيز قطاع الروبوتات البشرية، بالإضافة إلى مساهمته في الدراسات في مجال شيخوخة الجلد والإجراءات الجراحية.
نظام استشعار لمس لاسلكي: تمكن باحثون من ابتكار نظام استشعار لمس لاسلكي قابل للزرع بالكامل مدمج داخل الجلد الاصطناعي ومصمم لاستعادة الوظائف اللمسية المفقودة بسبب الإصابات الشديدة أو الحروق، ما يمثّل تقدماً كبيراً في ابتكار جلود صناعية يمكنها استبدال الوظائف الحسية التالفة بشكلٍ فعّال.
نموذج ذكاء اصطناعي للكشف عن حرائق الغابات في غضون 20 دقيقة
في خلال الأعوام القليلة السابقة ازدادت وتيرة حرائق الغابات بشكلٍ كبير، حيث زادت المساحة التي تأثرت بحرائق الغابات بنحو 5.4% سنوياً من عام 2001 إلى عام 2023. ولمعالجة هذه المشكلة أطلق قسم أبحاث جوجل بالشراكة مع دائرة الغابات الأميركية أداة مدعومة بالذكاء الاصطناعي تُسمّى فاير سات (FireSat) لاكتشاف إشارات الحرائق في الغابات في وقتٍ وجيز.
يعمل النموذج المدمج مع مجموعة أقمار صناعية عالمية على اكتشاف حرائق الغابات وتتبعها، من خلال صور عالمية عالية الدقة تُحدَّث كل 20 دقيقة، ما يُتيح الكشف عن حرائق الغابات التي يبلغ حجمها تقريباً حجم الفصل الدراسي والذي بدوره يسهم في تحسين أوقات الاستجابة بشكلٍ كبير، ما يؤدي إلى إنقاذ الأرواح والموارد في الوقت المناسب.
اقرأ أيضاً: الذكاء الاصطناعي سلاح ذو حدين لمواجهة التغير المناخي
الاستثمار في تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي يشهد ارتفاعاً كبيراً
كان بوت الدردشة تشات جي بي تي الذي صدر في أواخر عام 2022 بمثابة الشرارة التي أطلقت سباق تسلح الذكاء الاصطناعي (AI Arms) بين شركات التكنولوجيا الكبرى، التي دفعت قوتها المالية والبحثية كلّها للاستثمار في القطاع تجنباً للمنافسة المستقبلية من شركات الذكاء الاصطناعي الناشئة التي ظهرت بقوة مثل أوبن أيه آي وأنثروبيك وإنفليكشن، التي أصبحت الوجهة المفضلة للمستثمرين وصناديق التمويل وشركات رأس المال المغامر.
فعلى صعيد الشركات الناشئة غير المذكورة أعلاه، استثمرت شركات رأس المال المغامر نحو 3.9 مليارات دولار في شركات الذكاء الاصطناعي التوليدية الناشئة، بمجموع 206 صفقات في الربع الثالث من عام 2024 منها 2.9 مليار دولار لشركات مقرها في الولايات المتحدة الأميركية بمجموع 127 صفقة، وفقاً لتقرير من شركة الأبحاث ورؤى السوق بيتش بوك (PitchBook).
أمّا على صعيد شركات التكنولوجيا الكبرى، فلا يبدو هناك أي مؤشر على التباطؤ في الاستثمار في تطوير المنتجات المدعومة بالذكاء الاصطناعي التوليدي. على سبيل المثال، من المتوقع أن يصل إنفاق شركات التكنولوجيا الأربع: أمازون ومايكروسوفت وميتا وألفابت إلى نحو 200 مليار دولار بنهاية هذا العام، بهدف جعل نماذج أعمالها المستقبلية أكثر ربحية من النماذج الحالية التي تركّز على بيع الإعلانات الرقمية والأجهزة والبرمجيات.
ولا تكتفي هذه الشركات بضخ الاستثمارات في الأصول غير الملموسة فقط مثل البرمجيات، بل اتجهت للتركيز بشكلٍ أساسي على ضخ الأموال في البنية التحتية للذكاء الاصطناعي، بما في ذلك مراكز البيانات الضخمة اللازمة لتشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي التي تطوّرها الشركات الناشئة والمتوسطة، وتطوير شرائح الذكاء الاصطناعي المخصصة لدمجها في منتجاتها عملاً بمبدأ من يأتي أولاً يستحوذ على كل شيء، أو كما قال الرئيس التنفيذي لشركة أمازون، آنجي جاسي، إن الاستثمار في الذكاء الاصطناعي التوليدي يشبه الفرص التي تأتي مرة واحدة في العمر.
اقرأ أيضاً: أين أمازون من سباق الذكاء الاصطناعي؟
ابتكارات وإنجازات أخرى بارزة في صناعة الذكاء الاصطناعي عام 2024
- كشفت شركة مايكروسوفت في مؤتمرها الأخير عن العديد من المنتجات والميزات المدعومة بالذكاء الاصطناعي، بما في ذلك تحديثات خدمة مايكروسوفت 365 كوبايلوت (Microsoft 350 Copilot) والتي دُمجت الآن في نحو 70% من أعمال شركات فورتشن 500، ما يؤكد التزام الشركة بتعزيز الإنتاجية من خلال الذكاء الاصطناعي.
- قدمت شركة ديب مايند للأبحاث التابعة لشركة ألفابت عام 2024 نموذج الذكاء الاصطناعي ألفا جيومتري (AlphaGeometry) القادر على حل مشكلات الهندسة المعقدة بمستوى مماثل للفائزين بجوائز الأولمبياد الدولي للرياضيات، ما يُظهر قدرة الذكاء الاصطناعي المتزايدة على المعالجة وحل المشكلات التي كانت مخصصة تقليدياً للخبراء البشريين.
- أصبحت أنظمة الذكاء الاصطناعي أكثر اندماجاً في العمليات الإبداعية، ما قد يدفع حدود الإبداع إلى مستوى آخر. حيث تُعدّ قدرة الذكاء الاصطناعي على إنشاء المحتوى الصوتي والنصي والمرئي بشكلٍ لا يمكن تمييزه عن الإبداعات البشرية إنجازاً كبيراً قد يحوّل الصناعات الإبداعية بالكامل.
- تمكّن فريق من الباحثين من ابتكار نموذج ذكاء اصطناعي يُسمَّى جيو لاما (Geo-Llama) مصمم لإنشاء بيانات واقعية بواسطة الكمبيوتر تحاكي كيفية تنقل الناس في المدن والبيئات الأخرى، ما يجعلها ذات قيمة للبحث في مجال النقل وتخطيط المدن والصحة العامة وغيرها من المجالات التي يكون فيها فهم أنماط الحركة البشرية أمراً بالغ الأهمية.
- شهد عام 2024 تركيزاً كبيراً من الحكومات على صياغة مسودات قوانين وتشريعات لتنظيم صناعة الذكاء الاصطناعي وإدارة مخاطرها، بما يحافظ على خصوصية المستهلكين والدفاع عنها وتعزيز الإنصاف والحقوق المدنية وتعزيز الابتكار والمنافسة.