تضخ الشركات التكنولوجية المليارات من الدولارات في أجهزة الكمبيوتر الكمومية منذ سنوات عديدة. وتأمل الشركات بأن هذه الأجهزة ستُحدِث تغييراً جذرياً في مجالات متنوعة، مثل التمويل واكتشاف الأدوية والخدمات اللوجستية.
وقد كانت التوقعات عالية للغاية على وجه الخصوص في مجالي الفيزياء والكيمياء، حيث يظهر مفعول التأثيرات الغريبة لميكانيك الكم. من الناحية النظرية، هذه هي المجالات التي يمكن فيها لأجهزة الكمبيوتر الكمومية أن تتمتع بأفضلية كبرى مقارنة بأجهزة الكمبيوتر التقليدية.
لكن، فيما يواجه مجال أجهزة الكمبيوتر الكمومية صعوبات جمة في التعامل مع حقائق المكونات المادية الكمومية ذات التصاميم المعقدة والمشاكل المتعددة، ثمة منافس جديد بدأ يحرز بعض التقدم في بعض من أكثر حالات الاستخدام الواعدة هذه. يطبّق الباحثون حالياً مفاهيم الذكاء الاصطناعي على أساسيات الفيزياء والكيمياء وعلم المواد بأسلوب يشير إلى أن الميدان المفترض للحوسبة الكمومية قد لا يكون في مأمن من المنافسة على الإطلاق.
يقول أستاذ الفيزياء الحاسوبية في المعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا (EPFL)، جيوسيبيه كارليو إن الأنظمة الكمومية التي يمكن محاكاتها باستخدام الذكاء الاصطناعي تشهد تقدماً سريعاً على صعيد النطاق والتعقيد. مؤخراً، شارك كارليو في تأليف ورقة بحثية منشورة في مجلة "ساينس" (Science)، وتُبيّن هذه الورقة أن الأساليب التي تعتمد على الشبكات العصبونية في طريقها لتصبح بسرعة التقنية الرائدة المعتمَدة في نمذجة المواد ذات الخصائص الكمومية الفائقة. أيضاً، كشفت شركة ميتا (Meta) الستار مؤخراً عن نموذج ذكاء اصطناعي مدرب على مجموعة بيانات ضخمة جديدة من المواد، وقد اعتلى هذا النموذج على الفور قمة قائمة الأساليب المتصدرة المتبعة في التعلم الآلي لاكتشاف المواد.
نظراً لوتيرة التطورات الأخيرة، ثمة عدد متزايد من الباحثين الذين يتساءلون الآن إن كان الذكاء الاصطناعي قادراً على حل نسبة كبيرة من أكثر المسائل إثارة للاهتمام في مجالي الكيمياء وعلم المواد قبل أن تتحول أجهزة الكمبيوتر الكمومية الضخمة إلى حقيقة واقعة.
يقول كارليو: "إن وجود منافسين جدد في مجال التعلم الآلي يشكّل ضربة قاصمة للتطبيقات المحتملة لأجهزة الكمبيوتر الكمومية، وأعتقد أن الشركات التي دخلت مجال الحوسبة الكمومية ستكتشف عاجلاً أم آجلاً أن استثماراتها في غير محلها".
مشكلات متفاقمة
تكمن الإمكانات الواعدة لأجهزة الكمبيوتر الكمومية في قدرتها على إجراء حسابات معينة بسرعة أكبر بكثير مقارنة بأجهزة الكمبيوتر التقليدية. غير أن تحقيق هذه الإمكانات الواعدة سيتطلب صُنع معالجات كمومية أكبر بكثير مما هو موجود حالياً. لقد تجاوزت أضخم الأجهزة للتو حاجز الألف كيوبت (بت كمومي)، لكن تحقيق التفوق على أجهزة الكمبيوتر التقليدية على نحو لا يمكن إنكاره من المرجّح أن يتطلب عشرات الآلاف من الكيوبتات، بل وربما الملايين منها. لكن، عندما تصبح هذه المكونات المادية متوفرة، يمكن لمجموعة صغيرة من الخوارزميات الكمومية، على غرار خوارزمية شور (Shor) لكسر التشفير، أن تحل المسائل بسرعة أكبر بكثير مقارنة بالخوارزميات الكلاسيكية.
لكن أفضلية السرعة هذه تصبح أضعف تأثيراً بالنسبة إلى العديد من الخوارزميات الكمومية ذات التطبيقات التجارية الأوضح، مثل البحث في قواعد البيانات أو مسائل الأمثَلَة أو تشغيل الذكاء الاصطناعي. وفي العام الماضي، جرى نشر ورقة بحثية شارك في تأليفها مدير الحوسبة الكمومية في شركة مايكروسوفت، ماتياس تروير، وبيّنت هذه الورقة أن هذه الأفضليات النظرية تختفي إذا أخذنا بعين الاعتبار أن المكونات المادية الكمومية تعمل بسرعات أقل بكثير من رقاقات الكمبيوتر الحديثة. وتشكّل صعوبة إدخال كميات كبيرة من البيانات الكلاسيكية إلى الكمبيوتر الكمومي أو استخراجها منه عائقاً كبيراً أيضاً.
ولهذا، استنتج تروير وزملاؤه أنه علينا بدلاً من ذلك أن نركّز على استخدام أجهزة الكمبيوتر الكمومية في حل المسائل في الكيمياء وعلم المواد التي تتطلب محاكاة الأنظمة التي تهيمن عليها التأثيرات الكمومية. نظرياً، من الطبيعي أن تكون الأفضلية في هذه الحالة لصالح الكمبيوتر الذي يعمل وفق المبادئ الكمومية نفسها التي تخضع لها هذه الأنظمة. في الواقع، كانت هذه هي الفكرة الرئيسية الدافعة لتطور الحوسبة الكمومية منذ أن اقترح الفيزيائي الشهير ريتشارد فاينمان فكرة الحوسبة الكمومية أول مرة.
ثمة الكثير من الأشياء التي تخضع لقواعد ميكانيك الكم والتي تتميز بقيمة ضخمة للغاية عملياً وتجارياً، مثل البروتينات والأدوية والمواد. تتحدد خصائص هذه الأشياء من خلال تفاعلات الجسيمات المكونة لها، خاصة إلكتروناتها، ومحاكاة هذه التفاعلات باستخدام الكمبيوتر من شأنها أن تُتيح لنا التنبؤ بخصائص جزيء ما. قد يثبت هذا أهميته البالغة في اكتشاف أشياء مثل الأدوية الجديدة أو أنظمة كيميائية أكثر فاعلية للبطاريات، على سبيل المثال.
لكن قواعد ميكانيك الكم المنافية للمنطق المعتاد -خصوصاً ظاهرة التشابك الكمومي، التي تُتيح إنشاء صلة بين الحالات الكمومية للجسيمات المتباعدة- قد تجعل هذه التفاعلات معقدة للغاية. يتطلب تتبع هذه التفاعلات بدقة استخدام عمليات رياضية معقدة تزداد صعوبتها أضعافاً مضاعفة مع زيادة عدد الجسيمات المدروسة. وهو ما يمكن أن يجعل محاكاة الأنظمة الكمومية الضخمة على أجهزة الكمبيوتر التقليدية أمراً صعباً للغاية.
هنا يمكن لأجهزة الكمبيوتر الكمومية أن تتألق. وبما أن هذه الأجهزة تعمل أيضاً وفق المبادئ الكمومية، فهي قادرة على تمثيل الحالات الكمومية بفاعلية أكبر بكثير مما هو ممكن على أجهزة الكمبيوتر التقليدية. ويمكنها أيضاً الاستفادة من التأثيرات الكمومية لتسريع حساباتها.
لكن الأنظمة الكمومية ليست متشابهة كلها. فتعقيدها يتحدد بدرجة تفاعل جسيماتها، أو ترابطها المتبادل فيما بينها. ففي الأنظمة ذات التفاعلات النشطة والقوية، فإن تتبع هذه العلاقات كلها يمكن أن يؤدي بسرعة إلى زيادة حادة في عدد العمليات الحسابية المطلوبة لنمذجة النظام. لكن الترابط ضعيف في معظم الأنظمة التي تهم علماء الكيمياء وعلماء المواد من الناحية العملية، على حد قول كارليو. هذا يعني أن الجسيمات في هذه الأنظمة لا تؤثّر في سلوك بعضها بعضاً إلى حدٍّ كبير، ما يجعل نمذجة هذه الأنظمة أبسط بكثير.
وفي المحصلة، كما يقول كارليو، من المستبعد أن توفّر أجهزة الكمبيوتر الكمومية أي ميزة لمعظم المسائل المتعلقة بالكيمياء وعلم المواد. ثمة أدوات موجودة بالفعل لنمذجة الأنظمة الضعيفة الترابط بدقة، وأبرز هذه الأدوات نظرية الكثافة الوظيفية (DFT). تعتمد نظرية الكثافة الوظيفية على فكرة مفادها أنه يمكن وضع تصور واضح حول الخصائص الرئيسية لنظام ما من خلال معرفة كثافة الإلكترونات فيه وحسب، وهو معيار يعبّر عن توزيع إلكتروناته في الفراغ. يؤدي هذا إلى تبسيط العمليات الحسابية إلى درجة كبيرة، لكنه ما زال يُتيح الحصول على نتائج دقيقة عند دراسة الأنظمة الضعيفة الترابط.
تتطلب محاكاة الأنظمة الضخمة باستخدام هذه الأساليب إمكانات حاسوبية كبيرة. لكن السنوات القليلة الماضية شهدت زيادة حادة في الأبحاث التي تتضمن استخدام نظرية الكثافة الوظيفية لتوليد البيانات المتعلقة بالمواد الكيميائية والجزيئات الحيوية والمواد، وهي بيانات يمكن استخدامها لتدريب الشبكات العصبونية. نماذج الذكاء الاصطناعي هذه تتعلم الأنماط الموجودة في البيانات، ما يُتيح لها التنبؤ بالخصائص التي من المحتمل أن تمتلكها بنية كيميائية معينة، لكن تشغيل هذه النماذج أقل تكلفة بكثير من إجراء حسابات نظرية الكثافة الوظيفية التقليدية.
أدّى هذا إلى زيادة هائلة في حجم الأنظمة التي يمكن نمذجتها -حيث وصل إلى 100,000 ذرة في الوقت نفسه- وزيادة كبيرة في الفترة الزمنية التي تغطيها عملية المحاكاة، على حد قول أستاذ الفيزياء في جامعة لوكسمبورغ، ألكسندر تكاتشينكو. ويقول: "إنه أمر رائع، فقد أصبح بإمكاننا إجراء معظم الدراسات الكيميائية بهذه الطريقة".
أمّا أستاذ الكيمياء في جامعة كارنيغي ميلون، أوليكساندر إيساييف، فيقول إن الشركات المختصة في الكيمياء وعلوم الحياة تطبّق هذه التقنيات على نطاقٍ واسع. أمّا بالنسبة إلى الباحثين، فأصبحت المشكلات التي كانت بعيدة المنال في السابق مثل تحسين التفاعلات الكيميائية، وتطوير مواد جديدة للبطاريات، وفهم الترابط البروتيني، قابلة للحل أخيراً.
يقول إيساييف إنه كما الحال مع معظم تطبيقات الذكاء الاصطناعي، فإن العائق الأكبر هو البيانات. تتكون مجموعة بيانات المواد التي أصدرتها شركة ميتا (Meta) مؤخراً من حسابات نظرية الكثافة الوظيفية المطبقة على 118 مليون جزيء. وقد حقق نموذج مُدرَّب على هذه البيانات أداءً متطوراً للغاية، لكن إنشاء بيانات التدريب تطلب استخدام موارد حوسبة هائلة، تتجاوز بكثير ما هو متاح لمعظم الفرق البحثية. وهذا يعني أن الوفاء بالوعود الكاملة لهذا النهج سوف يتطلب استثمارات ضخمة.
غير أن نمذجة نظام ضعيف الترابط باستخدام نظرية الكثافة الوظيفية ليست من المسائل التي يزداد تعقيدها أضعافاً مضاعفة (تعقيدها يزداد وفق دالة أسّيّة) مع اتساع حجمها. ويقول تكاتشينكو إن هذا يشير إلى أن الاعتماد على المزيد من البيانات وموارد الحوسبة سيسمح للأساليب التقليدية التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي بمحاكاة حتى أكبر هذه الأنظمة. ويُضيف أنه نظراً لأن أجهزة الكمبيوتر الكمومية التي تتمتّع بقدرات عالية بما يكفي للمنافسة، لن تظهر على الأرجح قبل عدة عقود، فإن المسار الحالي للذكاء الاصطناعي يشير إلى أنه قد يبلغ مراحل مفصلية مهمة، مثل المحاكاة الدقيقة لكيفية ارتباط الأدوية بالبروتينات، في وقتٍ أبكر بكثير.
ترابطات قوية
عند محاكاة الأنظمة الكمومية المترابطة بقوة -تلك التي تتفاعل جسيماتها كثيراً- فإن الطرق مثل نظرية الكثافة الوظيفية سرعان ما تصبح عديمة النفع. وعلى حين أن هذه الأنظمة أندر من غيرها، فإنها تشمل موادَّ تتمتّع بإمكانات محتملة لإحداث تغييرات كبيرة، مثل الناقلية الفائقة في درجات الحرارة العالية، أو الاستشعار الفائق الدقة. لكن الذكاء الاصطناعي يحرز تقدماً كبيراً، حتى في هذا المجال.
في 2017، نشر كارليو من المعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا وتروير من مايكروسوفت ورقة بحثية مهمة في مجلة "ساينس" (Science)، حيث أظهرا أنه يمكن استخدام الشبكات العصبونية لنمذجة الأنظمة الكمومية المترابطة بقوة. لا تعتمد هذه الطريقة على التعلم من البيانات بالمعنى التقليدي. وبدلاً من ذلك، كما يقول كارليو، فإنها مماثلة لطريقة عمل نموذج ألفازيرو (AlphaZero) من شركة ديب مايند (DeepMind)، الذي أتقن ألعاب غو والشطرنج وشوغي بالاعتماد فقط على قواعد كل لعبة من هذه الألعاب والقدرة على اللعب ضد نفسه.
في هذه الحالة، يجري توفير قواعد اللعبة من خلال معادلة شرودنغر، التي يمكنها وصف الحالة الكمومية لنظام ما، أو دالته الموجية بدقة. يلعب النموذج ضد نفسه من خلال ترتيب الجسيمات وفق تشكيل بنيوي معين، ثم قياس مستوى الطاقة للنظام. أمّا الهدف فهو الوصول إلى التشكيل البنيوي ذي الطاقة الأقل (المعروف باسم الحالة الدنيا [Ground State])، الذي يحدد خصائص النظام. يكرر النموذج هذه العملية حتى تتوقف مستويات الطاقة عن الانخفاض، ما يشير إلى الوصول إلى الحالة الدنيا، أو حالة قريبة منها.
تكمن ميزة هذه النماذج في قدرتها على ضغط المعلومات، على حد قول كارليو. ويقول: "إن الدالة الموجية كائن رياضي معقد للغاية. وقد أظهرت عدة أوراق بحثية حتى الآن أن الشبكة العصبونية قادرة على نمذجة تعقيد هذا الكائن بطريقة تُتيح معالجته باستخدام كمبيوتر تقليدي".
يقول كارليو إنه منذ الورقة البحثية المنشورة عام 2017، جرى تطوير الطريقة حتى تشمل نطاقاً واسعاً من الأنظمة المترابطة بقوة، وكانت النتائج مثيرة للإعجاب. أمّا الورقة البحثية التي نشرها مؤخراً في مجلة ساينس مع بعض الزملاء؛ فقد وضعت تقنيات المحاكاة التقليدية الرائدة تحت الاختبار من خلال تطبيقها على مجموعة متنوعة من مسائل المحاكاة الكمومية، وذلك بهدف إنشاء مقياس معياري لتقييم التقدم في كل من النهج التقليدي والكمي. يقول كارليو إن التقنيات التي تعتمد على الشبكات العصبونية أصبحت الآن أفضل طريقة لمحاكاة العديد من الأنظمة الكمومية الأكثر تعقيداً التي تضمنتها تلك الاختبارات. ويقول: "لقد أصبح التعلم الآلي الطريقة الأفضل لحل الكثير من هذه المسائل".
جذبت هذه التقنيات انتباه بعض الجهات الفاعلة المهمة في صناعة التكنولوجيا. ففي أغسطس/آب، أظهر باحثون من ديب مايند في ورقة بحثية منشورة في مجلة ساينس أنهم تمكنوا من نمذجة الحالات المثارة في الأنظمة الكمومية بدقة، ما قد يساعد يوماً ما على التنبؤ بسلوك أشياء مثل الخلايا الشمسية وأجهازة الاستشعار وأجهزة الليزر. كما تمكن علماء في شركة مايكروسوفت ريسيرتش (Microsoft Research) للأبحاث من تطوير مجموعة برامج مفتوحة المصدر لمساعدة المزيد من الباحثين على استخدام الشبكات العصبونية في عمليات المحاكاة.
تكمن إحدى الإيجابيات الرئيسية لهذه الطريقة في أنها تستفيد من الاستثمارات الضخمة في البرمجيات والمكونات المادية للذكاء الاصطناعي، على حد قول أستاذ الذكاء الاصطناعي وفيزياء المواد المكثفة في كلية البوليتكنيك في فرنسا، فيليبو فيسينتيني، الذي شارك أيضاً في تأليف ورقة المقارنة المعيارية البحثية المنشورة في مجلة ساينس: "إن القدرة على الاستفادة من هذه الأنواع من التقدم التكنولوجي تمنحنا ميزة هائلة".
لكن ثمة مسألة يجب أن نحذّر منها: نظراً لأن العثور على الحالات الدنيا عملياً يجري من خلال التجربة والخطأ في هذه الطريقة، لا من خلال حسابات صريحة، فهي مجرد حالات مقدرة بصورة تقريبية. لكن هذا ما يفسّر أيضاً قدرة هذه الطريقة على إحراز التقدم في حل مسائل تبدو غير قابلة للحل، كما يقول الباحث في المعهد الفيدرالي للتكنولوجيا في زوريخ، خوان كاراسكيلا، الذي شارك أيضاً في تأليف ورقة المقارنة المعيارية البحثية المنشورة في مجلة ساينس.
إذا أردت أن تتتبع بدقة التفاعلات الجارية كلّها في نظام مترابط بقوة، فإن عدد الحسابات اللازمة يزداد بصورة هائلة مع ازدياد حجم النظام. لكن إذا قبلت بإجابة مرضية بما فيه الكفاية، فثمة مجال واسع للغاية لاتباع طرق مختزلة.
يقول كاراسكيلا: "ربما ليس هناك أمل في تمثيل هذه الأنظمة بدقة. لكنه ثمة أمل في الحصول على معلومات كافية لتمثيل النواحي كافة التي تهم الفيزيائيين. وإذا تمكنا من تحقيق ذلك، فإنه لا يختلف عملياً عن الحل الحقيقي".
وعلى حين أن محاكاة الأنظمة المترابطة بقوة باستخدام الأساليب التقليدية أمر صعب للغاية عموماً، فثمة حالات تخرج عن هذه القاعدة. تتضمن هذه الحالات بعض الأنظمة المهمة لنمذجة النواقل الفائقة التي تعمل في درجات الحرارة العالية، وفقاً لورقة بحثية منشورة في مجلة "نيتشر كوميونيكيشنز" (Nature Communications) في عام 2023.
يقول مدير الأبحاث في مايكروسوفت ريسيرتش، فرانك نو، الذي قاد معظم جهود الشركة في هذا المجال: "نظراً للتعقيد الأسّيّ (Expnential complexity)، يمكن على الدوام إيجاد مسائل لا يمكن اختزال حلها. لكنني أعتقد أن عدد الأنظمة التي لا نستطيع إيجاد اختزال جيد لها سيصبح أصغر بكثير".
اقرأ أيضاً: ما المتوقع في مجال الحوسبة إن نجحت آي بي إم ببناء حاسوب كمومي بسعة 100 ألف كيوبت؟
ليست هناك حلول سحرية
غير أن الأستاذة المساعدة المختصة بالفيزياء في جامعة أوتاوا، ستيفاني تشيتشيك، تقول إنه قد يكون من الصعب أن نتنبأ بالمسائل التي تستطيع الشبكات العصبونية تقديم حل مقبول لها. فهذه الشبكات تقدّم أداءً رائعاً بالنسبة إلى بعض الأنظمة المعقدة، لكن فيما يخص أنظمة أخرى تبدو بسيطة، تتضخم التكاليف الحسابية على نحو غير متوقع. وتقول: "نحن لا نعرف حدود قدرات هذه الشبكات حقاً، ولا أحد يعرف فعلياً حتى الآن ما هي الشروط التي تصعّب تمثيل الأنظمة باستخدام هذه الشبكات العصبونية".
وفي الوقت نفسه، تحققت أيضاً إنجازات مهمة في تقنيات تقليدية أخرى للمحاكاة الكمومية، كما يقول مدير مركز الفيزياء الكمومية الحاسوبية في معهد فلاتيرون في نيويورك، أنطوان جورج، الذي أسهم أيضاً في تأليف ورقة المقارنة المعيارية البحثية المنشورة مؤخراً في مجلة ساينس. ويقول جورج: "هذه الطرق كلها ناجحة في حد ذاتها، كما أنها متكاملة للغاية. ولهذا، لا أعتقد أن هذه الطرق التي تعتمد على التعلم الآلي ستؤدي إلى الاستغناء تماماً عن الطرق الأخرى كلها".
وسيكون لأجهزة الكمبيوتر الكمومية أيضاً مجالاتها الخاصة، وفقاً لكبير مدراء الحلول الكمومية في شركة آيون كيو (IonQ) التي تطور أجهزة الكمبيوتر الكمومية المصنوعة من الأيونات المحتجزة، مارتن رويتلر. وعلى حين يتفق رويتلر مع وجهة النظر التي مفادها أن الأساليب التقليدية من المرجح أن تكون كافية لمحاكاة الأنظمة المترابطة بصورة ضعيفة، فإنه واثق أيضاً بأن محاكاة بعض الأنظمة الضخمة المترابطة بقوة ستكون خارج نطاق قدرات هذه الأساليب. ويقول: "سيمثّل التعقيد الأسّيّ مشكلة كبيرة. ثمة حالات نواجه فيها أنظمة مترابطة بقوة تصعب علينا معالجتها بالاعتماد على الأساليب التقليدية. وأنا مقتنع بشدة أن هذه هي الحالة".
في المقابل، كما يقول، إذا كان لدينا كمبيوتر كمومي مقاوم للأخطاء في المستقبل بحيث يحتوي على عدد أكبر بكثير من الكيوبتات مقارنة بأجهزة اليوم، فسيكون قادراً على محاكاة مثل هذه الأنظمة. وقد يساعد هذا في العثور على محفزات جديدة للتفاعلات الكيميائية، أو تحسين فهمنا للعمليات الاستقلابية في الجسم، وهو مجال يثير اهتمام صناعة المستحضرات الصيدلانية.
من المرجّح أن تؤدي الشبكات العصبونية إلى توسيع نطاق المسائل القابلة للحل، كما يقول مدير مشاريع الحوسبة الكمومية في شركة آي بي إم (IBM)، جاي غامبيتا، لكنه غير مقتنع بقدرتها على حل أصعب المسائل التي تهتم بها الشركات.
يقول غامبيتا: "لهذا السبب، ما زالت نسبة كبيرة من الشركات المختلفة التي يتعلق عملها بالكيمياء بصفة أساسية؛ تدرس استخدام أجهزة الكمبيوتر الكمومية في عملها، لأنها تعلم بالضبط الحدود التي تنهار عندها هذه الطرق التقريبية".
كما يرفض غامبيتا أيضاً الفكرة التي مفادها أن هذه التكنولوجيات المختلفة متنافسة. ويقول إنه من المرجّح أن يتضمن مستقبل الحوسبة طريقة هجينة تجمع بين الأسلوبين، حيث تعمل البرامج الفرعية بنوعيها الكمومي والتقليدي معاً على حل المسائل. "لا أعتقد أن هذين الأسلوبين متنافسان، بل أعتقد أنهما متكاملان في الواقع".
لكن مدير مركز المعلومات الكمومية في جامعة تكساس، سكوت آرونسون، يقول إن الأساليب التي تعتمد على التعلم الآلي هي منافس مباشر لأجهزة الكمبيوتر الكمومية في مجالات مثل الكيمياء الكمومية وفيزياء المادة المكثفة. ويتوقع أن الأسلوب الذي يجمع بين التعلم الآلي وأنظمة المحاكاة الكمومية سيتفوق في الأداء على الأساليب التقليدية المحضة في الكثير من الحالات، لكن هذا لن يتضح إلّا عندما تصبح أجهزة الكمبيوتر الكمومية الأضخم والأكثر موثوقية متاحة.
ويقول آرونسون: "منذ البداية، تعاملت مع الحوسبة الكمومية بوصفها رحلة بحث علمي بالدرجة الأولى، حيث تمثّل أي تطبيقات عملية لها في أحد القطاعات تتويجاً للجهود المبذولة فيها. ولهذا، إذا تبيّن أن المحاكاة الكمومية لن تتفوق على التعلم الآلي التقليدي إلا في حالات نادرة، فلن أشعر بخيبة الأمل بالقدر الذي سيشعر به بعض زملائي".
يقول كارليو من المعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا إن أحد المجالات التي يبدو من المرجح أن تحقق فيها أجهزة الكمبيوتر الكمومية تفوقاً واضحاً هو محاكاة كيفية تطور الأنظمة الكمومية المعقدة مع مرور الوقت. وقد يوفّر هذا معلومات قيمة للغاية للعلماء في حقول مثل الميكانيك الإحصائي وفيزياء الطاقات العالية (فيزياء الجسيمات)، لكن من المستبعد أن يؤدي إلى أي تطبيقات عملية في المدى المنظور. يُضيف كارليو قائلاً: "ليست هذه سوى تطبيقات أخرى ضيقة النطاق، وهذه التطبيقات في رأيي لا تبرر الاستثمارات الضخمة والضجيج الإعلامي الهائل".
على الرغم من هذا، فإن الخبراء الذين تحدثت إليهم مجلة إم آي تي تكنولوجي ريفيو (MIT Technology Review) قالوا إن الافتقار إلى التطبيقات التجارية ليس سبباً يدعو إلى التوقف عن السعي في مجال الحوسبة الكمومية، التي يمكن أن تساعد على تحقيق إنجازات علمية كبيرة وغير مسبوقة على المدى البعيد.
يقول فيسينتيني: "يشبه العلم مجموعة من الصناديق المتداخلة، فإذا حللت مشكلة واحدة ستجد 5 مشكلات أخرى. إن تعقيد الأشياء التي ندرسها سيزداد مع مرور الوقت، ولهذا سنظل في حاجة دائمة إلى أدوات ذات قدرات عالية".