قررت الشركة الناشئة البريطانية المختصة بالسيارات الذاتية القيادة ويف (Wayve) أن تمتد غرباً. لقد تعلمت سيارات الشركة كيفية القيادة على شوارع لندن، غير أن ويف أعلنت أنها ستبدأ اختبار تكنولوجياتها في مدينة سان فرانسيسكو وحولها أيضاً. وسيضعها هذا أمام تحدٍّ جديد: حيث ستضطر إلى تحويل نظام الذكاء الاصطناعي الخاص بها من قيادة السيارة على الجهة اليسرى إلى القيادة على الجهة اليمنى من الطريق.
وكما يُدرِك زوار المملكة المتحدة، أو الزوار الوافدون من المملكة المتحدة، فإن الانتقال في القيادة من جهة إلى أخرى أصعب مما يبدو. فسوف يختلف كل شيء بالنسبة إلى السائق، سواء نظرته إلى الطريق أو كيفية انعطاف السيارة، على حد قول نائب الرئيس للبرمجيات في ويف، سيلفيوس روس. وقد تعلم روس بنفسه كيفية القيادة على الجهة اليسرى من الطريق للمرة الأولى في العام الماضي بعد أعوام من القيادة في الولايات المتحدة. ويقول: "هذا التغيير ليس مسألة بسيطة، حتى بالنسبة إلى سائق بشري مخضرم".
سيمثّل هذا الانتقال إلى الولايات المتحدة اختباراً لتكنولوجيا ويف، التي تزعم الشركة بأنها أعم وأكثر شمولية مما يقدمه العديد من منافسيها. اجتذب أسلوب ويف في العمل استثمارات ضخمة -بما في ذلك جولة تمويل حطمت الأرقام القياسية في شهر مايو/أيار في المملكة المتحدة، حيث وصلت قيمتها إلى مليار دولار- وشراكات ضخمة مع شركة أوبر (Uber) وشركات لتجارة البقالة عبر الإنترنت، مثل أسدا (Asda) وأوكادو (Ocado). لكن الشركة ستدخل الآن في مواجهة مباشرة مع كبرى الشركات التي تهيمن على الصناعة النامية للسيارات الذاتية التحكم، بما فيها كروز (Cruise) ووايمو (Waymo) وتسلا (Tesla).
اقرأ أيضاً: أحدث التطورات في تكنولوجيا السيارات ذاتية القيادة: القدرة على رؤية ما هو قادم حتى حول الزوايا
في 2022، عندما زرت مكاتب الشركة في شمالي لندن أول مرة، كانت هناك سيارتان أو ثلاث سيارات في ورشة السيارات ضمن المبنى. لكن عندما عدت في يوم مشمس هذا الخريف، وجدت السيارات تملأ الورشة والساحة الأمامية للمبنى. إن مبلغ مليار دولار كافٍ لشراء الكثير من التجهيزات والمكونات المادية.
لقد زرتُ الشركة حتى أجرّب رحلة في سياراتها. في لندن، ما زالت المركبات الذاتية التحكم منظراً يلفت الانتباه. عندما جلست في المقعد المخصص للركاب في إحدى سيارات جاغوار آي-بيس من أسطول ويف، لم تذهلني غرابة ركوب سيارة يقودها برنامج حاسوبي، بل ما أذهلني هو ما شعرت به من مستويات الراحة والأمان والقيادة الاعتيادية الانسيابية للسيارة. هذه السيارة أبرع مني في القيادة.
لم تسمح الجهات الرقابية حتى الآن بسير المركبات الذاتية القيادة في شوارع لندن دون إشراف بشري. كان سائق الاختبار يجلس بجانبي، وكانت يداه معلقتين في الهواء مباشرة فوق المقود، الذي كان يدور يميناً ويساراً تحتهما. أما روس فكان يتولى عملية التعليق من المقعد الخلفي.
كانت حركة المرور في منتصف النهار خفيفة، لكن هذا يجعل الأمور أصعب، حيث يقول روس: "عندما تكون حركة المرور مزدحمة، نميلُ عادةً إلى اتباع السيارة التي تسير أمامنا". كانت السيارة تناور بنا حول ورشات الطرق وراكبي الدراجات والسيارات الأخرى التي تتوقف في منتصف الطريق. ثم بدأت تمطر. وفي لحظة ما، أعتقد أننا كنا نسير على الجهة الخاطئة من الطريق. لكنه شارع باتجاه واحد. وقد رصدت السيارة لافتة لم أرها. كنا نقترب من كل تقاطع ونحن نتحلى بشعورٍ أقرب إلى الثقة المدعومة بالقرارات المدروسة.
في إحدى اللحظات، تقدمت سيارة زرقاء (يقودها سائق بشري) مقحمة مقدمتها في مسار حركة المرور أمامنا مباشرة. يعرف سائقو المناطق الحضرية أنه يوجد احتمالان لما سيحدث بعد ذلك: إذا تردد السائق، فهذا مؤشر للسيارة الأخرى حتى تندفع، وإذا اندفع السائق، فهذا مؤشر للسيارة الأخرى حتى تنتظر دورها. قررت سيارة ويف أن تندفع.
ربما كانت مدة هذا التفاعل بين السيارتين ثانية وحسب. لكنها كانت بالنسبة لي اللحظة الأكثر إثارة للإعجاب في الرحلة. تقول ويف إن نموذجها تمكن من تعلم الكثير من عادات القيادة الوقائية الشبيهة بهذا الموقف. يقول روس: "كانت أحقية المرور من نصيبنا، وكان تأكيد هذه الأحقية الإجراء الأكثر أماناً. لقد تعلم النموذج فعل ذلك، ولم يكن سلوكاً مبرمجاً بصورة مسبقة".
تعلم القيادة
كل شيء تفعله سيارات ويف ناجم عن التعلم، لا البرمجة. تستخدم الشركة تكنولوجيا مختلفة عن التكنولوجيا المستخدَمة في معظم السيارات الذاتية القيادة الأخرى. فبدلاً من الاعتماد على نماذج منفصلة ومتخصصة ومدربة على التعامل مع مهام إفرادية محددة، مثل كشف العوائق أو تحديد مسار حولها -ما يتطلب الجمع بين هذه النماذج لاحقاً حتى تتمكن من العمل معاً- تعتمد ويف على أسلوب يحمل اسم "التعلم من النهاية إلى النهاية" (end-to-end learning).
وهذا يعني أن سيارات ويف تخضع لتحكم نموذج واحد ضخم يتعلم المهام الإفرادية كلّها المطلوبة للقيادة في الوقت نفسه، وذلك بالاعتماد على صور الكاميرا، وملاحظات سائقي الاختبار (كان الكثير منهم مدربي قيادة سابقين)، والكثير من التجارب المكررة في بيئة المحاكاة.
قالت ويف إن هذا الأسلوب يجعل نماذجها للقيادة أعم وأكثر شمولية. وقد بيّنت الشركة أنها تستطيع استخدام نموذج مُدَرَّب على شوارع لندن لقيادة السيارات في عدة مدن بريطانية أخرى، وهو إنجاز واجهت الشركات الأخرى صعوبة في تحقيقه.
لكن الانتقال إلى الولايات المتحدة ليس بهذه البساطة. فهو يتطلب تغيير أحد أهم القواعد الأساسية للقيادة، وهو الجانب المُعتَمد للسير على الطريق. وبما أن ويف تعتمد على نموذج واحد ضخم، فليس هناك وحدة خاصة بالقيادة على الجانب الأيسر من الطريق، بحيث يمكن استبدالها بسهولة. يقول روس: "ليس لدينا برنامج خاص بالقيادة على الجانب الأيسر من الطريق. فقد رأى نظام القيادة ما يكفي من البيانات حتى يدرك أنه يجب أن يسير على الجهة اليسرى من الطريق. وسوف يلتزم بهذه الجهة، حتى لو لم يكن الطريق يحمل أي علامات مميزة.
إذاً، كيف سيتعلم النموذج القيادة على الجهة اليمنى؟ سيكون هذا سؤالاً مثيراً للاهتمام في الولايات المتحدة".
وتتضمن الإجابة عن هذا السؤال تحديد طبيعة جهة القيادة على الطريق بالنسبة إلى نموذج القيادة في ويف، أي إن كانت ميزة جوهرية في النموذج، وتمثّل عنصراً جوهرياً في كيفية عمله، أم ميزة ظاهرية بدرجة أكبر ويمكن تعديلها من خلال القليل من إعادة التدريب.
نظراً لما يتمتّع به النموذج من قدرة على التكيُّف، كما لاحظنا حتى الآن، يعتقد روس أن النموذج سينتقل إلى القيادة على شوارع الولايات المتحدة دون مشكلات. ويستشهد بالطريقة التي أظهرت بها السيارات قدرتها على التكيُّف مع مدن أخرى في المملكة المتحدة، على سبيل المثال. ويقول: "يمنحنا هذا المثال الثقة بقدرة النموذج على التكيُّف وتعلم كيفية القيادة في المواقف الجديدة".
داخل النموذج
لكن ويف يجب أن تكون متأكدة تماماً. فروس وزملاؤه لم يكتفوا باختبار سيارات الشركة في سان فرانسيسكو، بل يعكفون على دراسة الآليات الداخلية للنموذج لتحديد كيفية عمله بالضبط. يقول روس: "الأمر أشبه بإجراء مسح للدماغ واكتشاف وجود بعض النشاط في أجزاء معينة منه".
يقدّم الفريق النموذج مع العديد من السيناريوهات المختلفة، ويراقبون الأجزاء التي تنشط فيه خلال أوقات محددة. ومن الأمثلة على هذا المنعطف غير الخاضع للحماية، أي المنعطف الذي يؤدي إلى عبور السيارة لحركة المرور التي تسير في الاتجاه المعاكس، دون إشارة مرورية. يقول روس: "تقع المنعطفات غير الخاضعة للحماية هنا على الجهة اليمنى، وعلى الجهة اليسرى في المملكة المتحدة. فهل سيعاملها النموذج على أنها متماثلة؟ أم أنه سيعتبر أي انعطاف نحو اليمين مجرد انعطاف نحو اليمين؟"
عند تحديد الأسباب الكامنة خلف سلوكيات النموذج وأسلوب عمله، تستطيع ويف تحديد السيناريوهات التي تتطلب تركيزاً إضافياً. تعتمد الشركة على أداة محاكاة فائقة التفصيل تحمل اسم "بريزم 1" (PRISM-1) وتستطيع إعادة بناء مشاهد الشوارع الثلاثية الأبعاد اعتماداً على لقطات الفيديو، وذلك لتوليد سيناريوهات مخصصة وتشغيل النموذج ضمنها مراراً وتكراراً حتى يتعلم كيفية التعامل معها. هل سيحتاج النموذج إلى الكثير من إعادة التدريب؟ يقول روس: "لا أستطيع أن أخبرك بالمقدار المطلوب. فهذا سر من أسرار العمل. لكنه مقدار ضئيل".
تشتهر صناعة السيارات الذاتية القيادة بالضجيج الإعلامي الذي يحيط بها والمبالغة في الوعود. خلال العام الماضي، سرّحت كروز المئات من العاملين لديها بعد أن تسببت سياراتها بالفوضى والإصابات في شوارع سان فرانسيسكو. وتواجه تسلا تحقيقاً فيدرالياً بعد اتهام تكنولوجيا مساعدة السائق الخاصة بها بالتسبب بعدة حوادث، بما فيها حادث تصادم أدّى إلى مقتل أحد المشاة.
اقرأ أيضاً: شركة ناشئة تستخدم الذكاء الاصطناعي التوليدي للتنبؤ بحركة المرور
لكن هذه الصناعة تواصل المضي قدماً. فقد قالت وايمو إن سيارات الأجرة الروبوتية الخاصة بها تنفذ 100,000 رحلة أسبوعياً في سان فرانسيسكو ولوس أنجلوس وفينيكس. أمّا في الصين، تزعم شركة بايدو (Baidu) أن سياراتها تنفذ 287,000 رحلة في عدد من المدن، بما فيها بكين ووهان. أمّا إيلون ماسك فقد تجاهل الاتهامات التي تقول إن تكنولوجيا مساعدة السائق لدى تسلا غير آمنة، وأعلن مؤخراً سيارة الأجرة سايبركاب (Cybercab) مع جدول زمني يَعِد بنزول هذه السيارات المبتكرة الذاتية القيادة إلى الشوارع بحلول عام 2025.
ماذا يمكن أن نستنتج من كل ما سبق؟
يقول الرئيس التنفيذي والمؤسس المشارك للشركة الناشئة روكسيس (Rocsys) التي تصنع محطات الشحن للسيارات الكهربائية الذاتية القيادة، كرين بومان: "بدأت المنافسة تحتدم بين شركات تشغيل سيارات الأجرة الروبوتية. وأعتقد أن هذه السيارات أصبحت قريبة من لحظتها المفصلية، على غرار اللحظة المفصلية التي شهدها الذكاء الاصطناعي عند إطلاق تشات جي بي تي (ChatGPT)".
ويُضيف بومان قائلاً: "عناصر النجاح متوفرة بالكامل: التكنولوجيا ونموذج العمل واستعداد المستهلكين لتبنّي هذه التكنولوجيا. أمّا السؤال الذي يطرح نفسه فهو: أي شركة من هذه الشركات ستنتهز الفرصة وتصل إلى القمة؟"
غير أن الآخرين يبدون أكثر تشككاً. يقول مدير مختبر أبحاث المركبات الذاتية القيادة المتصلة " Connected Autonomous Vehicle Research Lab " في جامعة سوري بالمملكة المتحدة، صابر فلاح، إننا يجب أن نتوخى أعلى درجات الوضوح بشأن ما نتحدث عنه عندما نتحدث عن المركبات الذاتية القيادة. فما زالت بعض سيارات الأجرة الروبوتية لدى شركة بايدو في حاجة إلى وجود سائق خلف المقود يتولى تدابير السلامة. وقد أظهرت كروز ووايمو أن خدمة السيارات الذاتية التحكم بالكامل قابلة للتطبيق في بعض المناطق. لكن هذه الشركات استغرقت سنوات في تدريب سياراتها على القيادة في شوارع محددة، كما أن توسيع نطاق مسارات العمل إلى خارج الأحياء الحالية، وبصورة آمنة، سيتطلب بعض الوقت. يقول فلاح: "لن نرى سيارات الأجرة الروبوتية التي تستطيع أن تذهب إلى أي مكان قريباً".
يميلُ فلاح إلى وجهة النظر المتطرفة التي مفادها أن هذا لن يحدث حتى يتخلى السائقون البشر عن دورهم في القيادة. ويقول إن عمل سيارات الأجرة الروبوتية بأمان يتطلب عدم وجود أي سيارات أخرى على الطريق. ويعتقد أن نماذج القيادة الحالية ما زالت غير بارعة بما فيه الكفاية حتى تتفاعل بنجاح مع السلوكيات البشرية المعقدة والدقيقة. ويقول إن الحالات الحدية والمتطرفة كثيرة للغاية، ببساطة.
اقرأ أيضاً: هذه الشركة لصناعة السيارات الذاتية التحكم تستخدم بوتات الدردشة لزيادة ذكاء سياراتها
أمّا ويف فتراهن على أن أسلوبها سيلاقي النجاح في نهاية المطاف. ففي الولايات المتحدة، ستبدأ عملها باختبار نظام تسميه "نظام مساعد السائق المتقدم" (advanced driver assistance system)، وهو تكنولوجيا مماثلة لتكنولوجيا تسلا. لكن، وعلى العكس من تسلا، تخطط ويف لبيع هذه التكنولوجيا إلى نطاق واسع من شركات تصنيع السيارات الموجودة حالياً. تكمن الفكرة في البناء على أساس هذا النظام لتحقيق الانتقال إلى نظام عمل ذاتي التحكم بالكامل خلال السنوات القليلة المقبلة. يقول روس: "سنتمكن من الوصول إلى سيناريوهات تواجهها سيارات كثيرة. يغدو المسار نحو تحقيق القيادة الذاتية بالكامل أسهل عند الانتقال بالتدريج من مستوى إلى آخر".
لكن السيارات ليست سوى البداية، كما يقول روس. يقول روس إن ويف تعمل فعلياً على بناء نموذج متجسد (أي قادر على التفاعل مع البيئة الفيزيائية والتعلم منها) يمكن أن يتمكن يوماً ما من التحكم في الكثير من الأنواع المختلفة من الآلات، سواء كانت مزودة بعجلات أم أجنحة أم أرجل.
ويقول: "نحن أشبه بورشة للذكاء الاصطناعي. وعلى الرغم من أن القيادة تشكّل نقطة تحول، فإنها بمثابة حجر الأساس في الوقت نفسه لتحقيق الإنجازات".