ملخص: مع استمرار الذكاء الاصطناعي في التطور السريع، يبشر العديد من شركات التكنولوجيا بأننا على أعتاب عصر "وكلاء الذكاء الاصطناعي"، وهي أدوات برمجية تتمتع بدرجة من الاستقلالية والقدرة على التفكير واتخاذ القرارات في بيئات متغيرة وتنفيذ المهام دون الحاجة إلى تدخل بشري مستمر. ومع ذلك، تصطدم هذه الرؤية الطموحة بمخاوف وعوائق تمنع نشر هؤلاء "الوكلاء" على نطاق واسع، أبرزها مخاطر تسرب المعلومات الحساسة وقوة الحوسبة الكبيرة التي يحتاجون إليها. ولكن على الرغم من هذه التحديات، فإن شركات التكنولوجيا تسعى جاهدة إلى إقناع العملاء بحالات الاستخدام المتعددة لهؤلاء "الوكلاء"، على أمل إيجاد مصدر دخل متجدد لتغطية التكاليف الباهظة التي تتطلبها نماذج الذكاء الاصطناعي.
خلال يوم المطورين (DevDay) الذي عقدته شركة "أوبن أيه آي" في بداية هذا الشهر بمدينة سان فرانسيسكو الأميركية، قال الرئيس التنفيذي سام ألتمان: "إن عام 2025 هو العام الذي سيعمل فيه الوكلاء"، مشيراً إلى أن هذا العام سيشهد الانتقال إلى المرحلة الثالثة من أصل 5 مراحل وضعتها الشركة لتتبع التقدم نحو الذكاء الاصطناعي العام (AGI).
لم يكن حديث ألتمان عن وكلاء الذكاء الاصطناعي (AI agents) جديداً تماماً -باستثناء تحديد التوقيت- كما أن "أوبن أيه آي" ليست الشركة الوحيدة التي تروّج لهؤلاء "الوكلاء" باعتبارهم الموجة المقبلة في تطور الذكاء الاصطناعي، حيث سيكون تركيز التكنولوجيا في هذه المرحلة على اتخاذ القرارات التشغيلية والتعامل مع المهام المعقدة والمتعددة الخطوات بدلاً من التركيز على توليد المحتوى.
تتيح شركة "أنثروبيك" المنافِسة لمستخدمي بوت الدردشة الخاص بها "كلود" إمكانية إنشاء "مساعدي ذكاء اصطناعي"، كما أطلقت شركة جوجل منصة تمكّن المستخدمين من بناء "وكلاء ذكاء اصطناعي" ونشرهم دون الحاجة إلى معرفة بالبرمجة. وكشفت شركة مايكروسوفت مؤخراً عن أدوات ذكاء اصطناعي جديدة تسمح لمؤسسات الرعاية الصحية ببناء وكلاء ذكاء اصطناعي مخصصين لجدولة المواعيد ومطابقة التجارب السريرية وفرز المرضى.
لكن إذا كان الهدف النهائي من كل هذه الأنظمة والبرامج هو أتمتة المهام، فما الذي يميز "وكيل الذكاء الاصطناعي" عن بوت الدردشة العادي القائم على نموذج لغوي كبير؟
اقرأ أيضاً: ما هو وكيل الذكاء الاصطناعي؟ وكيف يساعدك في حياتك اليومية؟
بزوغ عصر وكلاء الذكاء الاصطناعي
كما هي الحال بالنسبة للعديد من المفاهيم والمصطلحات في هذا المجال، ليس هناك تعريف موحد حتى الآن لوكلاء الذكاء الاصطناعي. ومع ذلك تشير شركة "آي بي إم" إلى وكيل الذكاء الاصطناعي على أنه نظام أو برنامج قادر على أداء المهام بصورة مستقلة نيابة عن مستخدم أو نظام آخر من خلال تصميم سير العمل الخاص به والاستفادة من الأدوات المتاحة. يمكن أن تتضمن وظائف وكلاء الذكاء الاصطناعي مجموعة واسعة من المهام التي تتجاوز معالجة اللغة الطبيعية، بما في ذلك الحصول على المعلومات بصورة استباقية وتحليل البيانات واتخاذ القرار والتفاعل مع البيئات الخارجية وتنفيذ الإجراءات.
لا يمثّل وكلاء الذكاء الاصطناعي مجرد تكرار لنماذج الذكاء الاصطناعي، بل يمثلون تحولاً فعلياً في كيفية تفاعل الذكاء الاصطناعي مع البيئات الرقمية والمادية. وعلى عكس بوتات الدردشة التقليدية، التي تمثّل الجيل الأول من الذكاء الاصطناعي، يتمتع وكلاء الذكاء الاصطناعي بدرجة من الاستقلالية تمكّنهم من التكيف مع الظروف المتغيرة دون الحاجة إلى تدخل بشري واسع.
تهدف الشركات إلى أن يحوّل "وكلاء الذكاء الاصطناعي" هذه التكنولوجيا من مجرد أداة إلى شريك حقيقي. وفي إشارة إلى مدى أهمية هذا الأمر، أعلن الرئيس التنفيذي لشركة البرمجيات سيلزفورس (Salesforce)، مارك بينيوف، الشهر الماضي، أن شركته ستنفذ "تحولاً جذرياً" في نهجها نحو ما أسماه إيجنت فورس (Agentforce)؛ أي التحول إلى منصة ذكاء اصطناعي تسمح للمستخدمين ببناء وكلاء مستقلين مدعومين بالذكاء الاصطناعي ضمن تطبيقات الشركة الحالية ونشرهم.
عوائق أمام نشر "الوكلاء" على نطاق واسع
على الرغم من ميزات "الوكلاء" التي تسهب الشركات في استعراضها، فإن سلسلة التفاعلات التي ينفذها هؤلاء "الوكلاء" يمكن أن تكون معقدة ومتعددة لدرجة أنها قد لا تكون مرئية بالكامل للمشغّلين البشر، وهو ما يثير مخاوف أمنية خطيرة يتعلق بعضها بكيفية ضمان استخدامهم لأداء الأهداف التي جرى تصميمهم لأجلها وليس لأغراض أخرى كالتلاعب أو الخداع، ومدى موثوقيتهم في التعامل مع المعلومات الحساسة الخاصة بالمؤسسات والتأكد من عدم الكشف عن هذه المعلومات أو تسريبها.
علاوة على ذلك، يحتاج تشغيل "الوكلاء" إلى قوة حوسبة كبيرة وكم هائل من الطاقة أكثر مما يستهلكه البوت التقليدي أو المساعد الصوتي، ما يجعل نشر هؤلاء "الوكلاء" على نطاق واسع أمراً مكلفاً.
بالإضافة إلى المخاوف السابقة، يشير الرئيس التنفيذي لشركة الذكاء الاصطناعي أيه آي 21 (AI21)، أوري جوشن، إلى عائق آخر أمام تبنّي المؤسسات لهؤلاء "الوكلاء" يتعلق بكيفية بناء نماذج الذكاء الاصطناعي نفسها. وأوضح جوشن، في مقابلة أجراها مؤخراً مع موقع فينتشربيت، أن قطاع التكنولوجيا يحتاج إلى النظر في بُنى أخرى للنماذج لتشغيل وكلاء ذكاء اصطناعي أكثر كفاءة.
اقرأ أيضاً: ما بعد بوتات الدردشة: صعود وكلاء الذكاء الاصطناعي
وأضاف أن بنية المحولات (Transformers)، وهي أكثر بُنى النماذج شيوعاً، تعاني قيوداً تجعل إنشاء نظام بيئي متعدد الوكلاء أمراً صعباً. وأكد أن "الوكلاء" يحتاجون إلى الاستعانة بالنماذج اللغوية الكبيرة في كل خطوة، "ما يجعل بنية المحول عنق زجاجة".
لحل هذه المشكلة، تعمل شركة "أيه آي 21" على تطوير نماذج أساس باستخدام بنية جامبا (JAMBA)، التي تستند بدورها إلى بنية أخرى هي مامبا (Mamba)، التي طورها باحثون من جامعتي برينستون وكارنيغي ميلون، والتي يمكن أن توفر أوقات استدلال أسرع وسياقاً أطول للنماذج.
لماذا تركز الشركات على تطوير "الوكلاء"؟
على الرغم من هذه العوائق والمخاطر، فإن أحد الأسباب التي تُغذي موجة الاهتمام بوكلاء الذكاء الاصطناعي هو الأمل في أن توفر لشركات التكنولوجيا طريقة جديدة لتحقيق الدخل من نماذج الذكاء الاصطناعي المكلفة. وقد عبّر الرئيس التنفيذي لشركة إنفيديا، جينسن هوانغ، عن هذا قبل أيام قائلاً: "عندما تصبح الشركات أكثر إنتاجية باستخدام الذكاء الاصطناعي، فمن المرجح أن يتجلى ذلك إما في أرباح أفضل، وإما في نمو أفضل، وإما في كليهما".
وقال هوانغ، في مقابلة معه ضمن أحدث حلقات بودكاست (Bg2)، إنه يأمل أن تصبح إنفيديا يوماً ما شركة تضم 50 ألف موظف و100 مليون مساعد ذكاء اصطناعي". وتحدّث عن مستقبل تنشر فيه شركته وكلاء ذكاء اصطناعي على نحو جماعي في كل قسم لتحسين الإنتاج، موضحاً أنه يتفاعل مع وكلاء الذكاء الاصطناعي بنفسه، وأن إنفيديا، مثل شركات تكنولوجيا أخرى كثيرة تستخدم بالفعل وكلاء للأمن السيبراني وتصميم الرقائق وهندسة البرمجيات.
بخلاف هذه المجالات، تقول شركات أخرى، مثل "سيلزفورس"، إن تبنّي وكلاء الذكاء الاصطناعي في قطاع مهم مثل خدمة العملاء يتيح للشركات فوائد متعددة، أبرزها إمكانية التعامل مع العديد من العملاء في وقت واحد، ما يقلل من أوقات الاستجابة ويزيد من كفاءة عمليات خدمة العملاء. كما يوفر وكلاء الذكاء الاصطناعي استجابات سريعة ودقيقة، ما يؤدي إلى ارتفاع درجات رضا العملاء.
اقرأ أيضاً: كيف تشجّع شركات التكنولوجيا المعلمين على استخدام الذكاء الاصطناعي؟
ضغوط السوق قد تدفع الشركات للمبالغة أحياناً
تشير البيانات إلى أنه حتى شركة "أوبن أيه آي"، وهي أبرز شركة ذكاء اصطناعي ناشئة في العالم، تتكبد خسائر متزايدة بمليارات الدولارات، ومن المتوقع أن تستمر هذه الخسائر لسنوات مقبلة. ووفقاً لتقرير نشره موقع "ذي إنفورميشن" التكنولوجي، فإن الشركة لن تتمكن من تحقيق أرباح حتى عام 2029، عندما تصل إيراداتها إلى 100 مليار دولار. لذلك، يعتقد بعض الخبراء أن "ضغوط السوق" وتكاليف تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي الباهظة والبحث عن تمويل متجدد، يدفع الشركات إلى الترويج لأدوار مبالغ فيها لوكلاء الذكاء الاصطناعي، بما يتجاوز قدراتهم الفعلية في الوقت الحالي.
ويبدو أن هذه الحملات الترويجية تؤتي ثمارها بالفعل، إذ جمعت "شركات وكلاء الذكاء الاصطناعي" تمويلات استثمارية بلغت 8.2 مليارات دولار خلال العام الماضي، عبر 156 صفقة، بحسب تقديرات شركة الأبحاث "بيتش بوك".
على الرغم من أن تكنولوجيا "الوكلاء" لا تزال في مراحلها الأولى وأن الوعود التي تقطعها شركات التكنولوجيا قد تؤدي إلى دورة ضجيج جديدة (هذه المرة حول "الوكلاء")، تشير سرعة تطور الذكاء الاصطناعي وتعدد حالات الاستخدام المحتملة إلى أن هؤلاء "الوكلاء" قد ينتشرون على نطاق واسع خلال السنوات القليلة المقبلة ليصبحوا "زملاء عمل افتراضيين" وجزءاً لا يتجزأ من تفاعلاتنا عبر العالم الرقمي.