ما الذي يعنيه فوز أبحاث الذكاء الاصطناعي بجائزتي نوبل في الفيزياء والكيمياء لعام 2024؟

5 دقيقة
ما الذي يعنيه فوز أبحاث الذكاء الاصطناعي بجائزتي نوبل في الفيزياء والكيمياء لعام 2024؟
حقوق الصورة: shutterstock.com/Bumble Dee

ملخص: يعكس تكريم لجنة جوائز نوبل هذا العام عدداً من العلماء على أبحاثهم، التي أسهمت في تطوير الذكاء الاصطناعي أو ساعدت على استخدامه، التأثير المتزايد لهذه التكنولوجيا في التقدم العلمي. وبعد عقود تخللتها فترات "شتاء" طويلة، لم تتمكن أبحاث الذكاء الاصطناعي خلالها من جذب ما يكفي من الاهتمام والتمويل، فإن الحصول على جائزتي نوبل في أسبوع واحد يشير إلى أن هذا الوضع قد تغير أخيراً. يرى الخبراء أن هذا التكريم قد يدفعنا للتفكير في إطلاق فئة جديدة لجوائز نوبل، والبدء بإيلاء المزيد من التقدير لتخصصات مثل هندسة البرمجيات والأمن السيبراني. لكن هذا الاهتمام المفاجئ قد يدفع باحثين آخرين إلى الاهتمام بهذه التكنولوجيا بطريقة تسهم في خلق "دورة ضجيج" حولها. ويرى خبراء آخرون أن العلاقة بين الذكاء الاصطناعي وجوائز نوبل ستتغير مستقبلاً بمجرد أن تتفوق الآلات على العلماء البشر، ما قد يجعل فكرة حصول الآلات المستقلة على هذه الجوائز أمراً وارداً.

مثّل عام 2024 عاماً آخرَ مهماً للذكاء الاصطناعي، فقد شهدت هذه التكنولوجيا تطورات مهمة متلاحقة، بما فيها الإعلان عن نماذج أكثر ذكاء مثل (o1) من شركة "أوبن أيه آي" وغروك (Grok) من "إكس أيه آي"، كما تسارع خلاله سباق الذكاء الاصطناعي بإطلاق شركات جديدة ذات طموحات غير محدودة مثل (Safe Superintelligence (SSI)). وقبل أقل من شهرين على نهايته، توّج هذا العام أبحاث الذكاء الاصطناعي بتقدير طال انتظاره: الحصول على جائزتي نوبل.

الذكاء الاصطناعي يحصد جائزتي نوبل في الفيزياء والكيمياء

يوم الثلاثاء الماضي، أعلنت الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم منح جائزة نوبل في الفيزياء لعام 2024 إلى عالم الكمبيوتر جيفري هينتون، الذي أرست أبحاثه في مجال التعلم العميق خلال فترة الثمانينيات والتسعينيات أُسس نماذج الذكاء الاصطناعي الحالية. وطوّر هينتون، الذي يُعدّ أحد "الآباء الروحيين للذكاء الاصطناعي" طريقة تمكّن الشبكات العصبونية الاصطناعية من تحديد الخصائص أو الأنماط في البيانات تلقائياً دون تدخل بشري. شارك هينتون الجائزة مع العالم الأميركي جون هوبفيلد الذي طوّر بنية يُمكنها تخزين المعلومات وإعادة بنائها.

وفي اليوم التالي مباشرة، أعلنت الأكاديمية السويدية أن العالمين الأميركيين ديفيد بيكر وجون جامبر والبريطاني ديميس هاسابيس فازوا بجائزة نوبل في الكيمياء لعام 2024، لعملهم على فك شفرة بنية البروتينات وإنشاء بروتينات جديدة بالاستعانة بالذكاء الاصطناعي، ما أسهم في تقدم مجالات مثل تطوير الأدوية.

وأوضح رئيس لجنة نوبل للكيمياء، هاينر لينكه، أن نصف الجائزة مُنحت لديفيد بيكر الذي يعمل أستاذاً في جامعة واشنطن في سياتل، والذي "طوّر أدوات حوسبة تمكّن العلماء الآن من تصميم بروتينات جديدة مذهلة بأشكال ووظائف جديدة تماماً، ما يفتح إمكانات لا حصر لها لأعظم الفوائد للبشرية". بينما تقاسم النصف الآخر من الجائزة ديميس هاسابيس، الرئيس التنفيذي لشركة أبحاث الذكاء الاصطناعي "جوجل ديب مايند"، التي يعمل فيها جون جامبر كذلك باحثاً كبيراً. وقالت هيئة منح الجائزة إن هاسابيس وجامبر استخدما نموذجاً للذكاء الاصطناعي يُسمَّى ألفا فولد 2 (AlphaFold2) للتنبؤ ببنية بالبروتينات المعروفة جميعها تقريباً.

اقرأ أيضاً: لماذا فاز رائد النزعة التشاؤمية تجاه الذكاء الاصطناعي جيفري هينتون بجائزة نوبل في الفيزياء؟

اعتراف بكيفية عمل العلم الحديث

يشير تكريم لجنة جائزة نوبل إلى هؤلاء الباحثين على أعمالهم في مجال الذكاء الاصطناعي إلى الأهمية المتزايدة لهذه التكنولوجيا في فروع متعددة من العلوم. تقول الأستاذة في قسم المعلوماتية في "كينجز كوليدج لندن"، إيلينا سيمبرل: لا يمكن الاستهانة بدور الذكاء الاصطناعي في تحويل الطريقة التي نجري بها الأبحاث العلمية، مضيفة أن أخبار حصول علماء أسهموا في تقدم الذكاء الاصطناعي أو استعانوا به على جوائز نوبل تقر بهذا الأمر، وتشير أيضاً إلى الدور الذي تؤديه الأساليب متعددة التخصصات في تقدم الحوسبة.

تدفعنا هاتان الجائزتان للتفكير في التحدي الذي يفرضه الذكاء الاصطناعي على تقاليد جائزة نوبل على المدى الطويل. وتقول سيمبرل، في تصريحات لوكالة فرانس برس: "ربما حان الوقت للاعتراف بهذا من خلال فئة جديدة لجوائز نوبل"، وأضافت أن تخصصات مثل هندسة البرمجيات والأمن السيبراني تستحق أيضاً التقدير لمساهماتها في المجتمع، مشيرة إلى أن "هذا مجرد اعتراف بكيفية عمل العلم الحديث اليوم".

من جانبها، تقول زميلة الأبحاث في مركز ليفرهولم لمستقبل الذكاء بجامعة كامبريدج، إليانور دراج، إن هذه لحظة مهمة لـ "استخدام الذكاء الاصطناعي في العلوم". وتُضيف: "بالنظر إلى علماء الكمبيوتر المتميزين الذين فازوا بجائزتي الكيمياء والفيزياء، فإننا نتأهب لمَن سيحصل على جائزة السلام"، موضحة أن زملاءها كانوا يمزحون بشأن ترشيح إيلون ماسك مالك شركة "إكس أيه آي" لهذه الجائزة.

وترى إليانور أن منح علماء الذكاء الاصطناعي هذه الجوائز قد يكون لأحد سببين، إما التحول الكبير في حدود التخصصات الذي أدّى إليه انتشار الذكاء الاصطناعي في البحث الأكاديمي، أو لأننا "مهووسون بعلماء الكمبيوتر لدرجة أننا على استعداد لوضعهم في أي مكان".

تخوف من دورة ضجيج جديدة

تبلغ قيمة جائزة نوبل، التي تُعدُّ على نطاق واسع من بين أهم الجوائز المرموقة في المجتمع العلمي، 11 مليون كرونة سويدية (1.1 مليون دولار). وجائزة الكيمياء هي الثالثة التي يتم تسليمها كل عام، وتأتي بعد جائزتي الطب والفيزياء.

وفي حين كان الثلاثي بيكر وجامبر وهاسابيس من بين المرشحين المتوقعين لجائزة الكيمياء، فإن جائزة الفيزياء كانت غير متوقعة. وقال هينتون عندما أُبلغ بحصوله على الجائزة: "أنا مذهول. لم يكن لدي أي فكرة أن هذا سيحدث. أنا مندهش للغاية".

يرى ديفيد بندلبيري، رئيس مجموعة البحث في شركة التحليلات كلاريفيت (Clarivate)، التي تراقب العلماء المرشحين لجوائز نوبل في العلوم، أنه على الرغم من الاستشهاد بالورقة البحثية التي كتبها جامبر وهاسابيس عن "ألفا فولد" عام 2021 آلاف المرات، فمن غير المعتاد أن تكافئ لجنة تحكيم جائزة نوبل عملاً بهذه السرعة بعد النشر، حيث إن معظم الاكتشافات التي يتم تكريمها يعود تاريخها إلى عقودٍ من الزمن. لكن بندلبيري يرى أن "الورقة البحثية التي نُشرت مؤخراً وتحظى بهذا القدر الكبير من الاستشهادات تشكّل إشارة واضحة إلى نوع من الثورة". وبفوزه بالجائزة، أصبح جامبر أصغر حائز على جائزة نوبل في الكيمياء منذ أكثر من 70 عاماً.

اقرأ أيضاً: الأب الروحي للذكاء الاصطناعي يحصل على جائزة نوبل في الفيزياء لعام 2024

لكن اهتمام الأكاديمية السويدية القوي بأبحاث الذكاء الاصطناعي في جوائز هذا العام قد يكون له جوانب أخرى سلبية. يتخوف مدير سلامة البحث العلمي السابق في مكتب السلامة البحثية في المملكة المتحدة، مات هودجكينسون، من أن يؤدي هذا الأمر إلى دفع باحثين آخرين إلى التجمع حول هذا المجال بطريقة تسهم في خلق "دورة ضجيج" كتلك التي حدثت قبل ذلك في أبحاث مثل "البلوك تشين" والغرافين.

وأوضح هودجكينسون أنه بعد اكتشاف الغرافين عام 2004،  نٌشرت 45 ألف ورقة علمية حول هذه المادة بين عامي 2005 و2009. ولكن بعد فوز أندريه جيم وكونستانتين نوفوسيلوف بجائزة نوبل لاكتشافهما هذه المادة، ارتفع عدد الأوراق العلمية المنشورة حولها إلى 454 ألف ورقة بين عامي 2010 و2014، وأكثر من مليون بين عامي 2015 و2020، وأضاف أن هذا الارتفاع في الأبحاث لم يكن له سوى تأثير متواضع في العالم الحقيقي حتى الآن.

هل ستحصل الآلات على "نوبل"؟ السيارات لا تفوز بميداليات أولمبية

تشير جائزة الكيمياء تحديداً إلى فجر مرحلة جديدة يساعد فيها الذكاء الاصطناعي على تسريع الاكتشافات العلمية، الأمر الذي أثار تساؤلاً وجّهه أستاذ الفيزياء الفلكية في جامعة هارفارد، أفي لوب، إلى رئيس لجنة نوبل للكيمياء، هاينر لينكه، في منتدى وورلد مايندز (WORLD.MINDS)، بشأن ما إذا كان يستطيع أن يرى مستقبلاً تحقق فيه آلة ذات ذكاء خارق اختراقات علمية وتحظى بالتقدير من قِبل لجنة جائزة نوبل. وأضاف لوب في تساؤله أنه إذا كان البشر يستخدمون مخرجات آلة مستقلة توصلت إلى حل لغز علمي كبير، فلماذا تقتصر لجنة نوبل ترشيحات الجائزة على البشر فقط؟

أوضح لينكه أن صيغة جائزة نوبل تقصر الجائزة على البشر فقط. وهذا أمر مفهوم نظراً لأن الذكاء الاصطناعي لم يكن حتى أمراً متخيلاً عندما أنشأ ألفريد نوبل الجائزة عام 1901، كما أن هذا يتبع المنطق المستخدم في تقديم ميداليات الألعاب الأولمبية للبشر فقط وليس للسيارات أو الروبوتات الأسرع.

ومع ذلك، يرى لوب أن مكانة جائزة نوبل ستتضاءل بمجرد أن يصبح معروفاً على نطاقٍ واسع، بعد عدة عقود من الآن، أن الآلات تسيطر بالفعل على التقدم العلمي. وبمجرد أن تتفوق الآلات على العلماء البشر، فإن جائزة نوبل سوف تصبح "جائزة تقدير للإدارة"، حيث لن تكافئ القائمين على الآلات الذين حققوا الاكتشافات بالفعل بل المدراء البشر الذين نسقوا وحصدوا ثمار هذا الجهد. وأضاف أنه في سيناريو مستقبلي أبعد، يمكن دمج أنظمة الذكاء الاصطناعي كأعضاء في لجنة جائزة نوبل، أو استخدام استراتيجية أخرى تتمثل في تخصيص جائزتين منفصلتين واحدة للبشر والأخرى لأنظمة الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي.

اقرأ أيضاً: دراسة تكشف تزايد اعتماد الباحثين على الذكاء الاصطناعي في كتابة الأوراق العلمية

تُثير فكرة حصول نظام ذكاء اصطناعي على جائزة نوبل خيال العلماء بالفعل منذ عدة سنوات. وفي عام 2021، اقترح العالم الياباني، هيرواكي كيتانو، ما أسماه تحدي نوبل تورينج (Nobel Turing Challenge)، داعياً الباحثين إلى إنشاء "عالم ذكاء اصطناعي" قادر على إجراء أبحاث مستقلة تستحق جائزة نوبل بحلول عام 2050.

وبغض النظر عن السيناريو المستقبلي الذي سيرسم علاقة الذكاء الاصطناعي بجوائز نوبل، فإن الأمر المؤكد أن جائزتي هذا العام تمثّلان بداية لتحول الذكاء الاصطناعي من مجرد أداة إلى قوة تحويلية في الاكتشاف العلمي، وتمهيداً لرؤية أعمال الذكاء الاصطناعي تُمنح المزيد من الجوائز في مجالات علمية مختلفة.

المحتوى محمي