تعتمد الشبكات الكهربائية على غاز واحد يمثّل عنصراً أساسياً في عزل مجموعة كبيرة من تجهيزات التوتر العالي. تكمن المشكلة في أن هذا الغاز من أشد غازات الدفيئة تأثيراً، ما يجعله كابوساً حقيقياً بالنسبة إلى مسألة التغير المناخي.
إن سداسي فلوريد الكبريت (SF6) بعيد كل البعد عن أن يكون الغاز الأكثر إسهاماً في احترار هذا الكوكب، حيث يصل إسهامه في الاحترار حتى الآن إلى 1% تقريباً، فثنائي أوكسيد الكربون والميثان أكثر شهرة ووفرة بكثير. غير أن تأثير سداسي فلوريد الكبريت قوي للغاية، شأنه شأن الكثير من الغازات المُفَلوَرة الأخرى. فهذا الغاز يحتبس من الطاقة ما يفوق كمية الطاقة التي يحتبسها ثنائي أوكسيد الكربون بنحو 20 ألف ضعف، وذلك على مدى قرن كامل، كما يمكن أن يبقى في الغلاف الجوي 1,000 سنة أو أكثر.
اقرأ أيضاً: مفاعل يعمل بالطاقة الشمسية يحوّل البلاستيك وغازات الاحتباس الحراري إلى وقود
خطورة سداسي فلوريد الكبريت
وعلى الرغم من الإسهام الصغير نسبياً لانبعاثات هذا الغاز حتى الآن، فهذه الانبعاثات تزداد دون توقف، ويتزايد معدل نموها كل عام. ازدادت انبعاثات سداسي فلوريد الكبريت في الصين إلى الضعف تقريباً بين عامي 2011 و2021، وهو ما يمثل أكثر من نصف إجمالي الانبعاثات العالمية من هذا الغاز.
والآن، تسعى الشركات إلى الاستغناء عن التجهيزات التي تعتمد على هذا الغاز، وتبحث عن بدائل تضاهيها من حيث الأداء. فمنذ فترة وجيزة، أعلنت شركة هيتاشي إنيرجي (Hitachi Energy) أنها تنتج نوعاً جديداً من التجهيزات الكهربائية التي تستعيض عن سداسي فلوريد الكبريت بمواد أخرى. ثمة زخم متزايد نحو حظر سداسي فلوريد الكبريت في قطاع الطاقة، بما يشمل خطة أقرّها الاتحاد الأوروبي مؤخراً للتخلي عن استخدام هذا الغاز تدريجياً في تجهيزات التوتر العالي بحلول عام 2032.
وفيما تعكف شركات تصنيع التجهيزات الكهربائية على إنتاج البدائل، يقول بعض الباحثين إننا يجب أن نذهب أبعد من ذلك، ويعملون على إيجاد حلول تُتيح الاستغناء كلياً عن المواد التي تحتوي على الفلور.
التوتر العالي يحمل مخاطر عالية
من المرجّح أن منزلك يحتوي على لوحة قواطع كهربائية، فإذا تجاوز الحمل على إحدى الدارات في المنزل حداً معيناً، ستتغير وضعية القاطع المرتبط بتلك الدارة ما يؤدي إلى انقطاع التيار الكهربائي لديك. ثمة نظام مماثل لهذا في الشبكة الكهربائية، ويحمل اسم "مجموعة الوصل".
أمّا الفرق فهو أن مجموعة الوصل تتعامل في أغلب الأحيان مع مستويات من الطاقة تفوق الطاقة التي تتعامل معها التجهيزات المنزلية بما يقارب المليون ضعف، كما يقول نائب الرئيس التنفيذي والمدير الإداري لوحدة الأعمال الخاصة بمنتجات التوتر العالي في هيتاشي إنيرجي، ماركوس هايمباخ. يعود هذا إلى أن بعض الأجزاء من الشبكة الكهربائية تعمل ضمن نطاق التوترات العالية، ما يتيح لها نقل الطاقة من مكان إلى آخر مع فقدان أقل قدر ممكن منها. تتطلب هذه التوترات العالية تطبيق أساليب دقيقة وصارمة للعزل طوال الوقت، مع اتخاذ تدابير احتياطية للسلامة في حال حدوث خطب ما.
يعتمد بعض مجموعات الوصل على المواد نفسها الموجودة في لوحات القواطع الكهربائية المنزلية، حيث يعمل الهواء المحيط بالقواطع عمل العازل. لكن عند توسيع نطاق قدراتها للتعامل مع التوتر العالي، يصبح حجمها هائلاً، وتتطلب تخصيص مساحة كبيرة من الأرض، ما يجعلها غير مناسبة للمدن الضخمة والأكثر كثافة من الناحية السكانية.
يمثل غاز سداسي فلوريد الكبريت الحل المتوفر حالياً، فهو "غاز خارق من وجهة نظر تكنولوجية"، على حد قول هايمباخ. فهذا الغاز قادر على عزل هذه التجهيزات خلال عملها العادي، كما أنه يساعد على قطع التيار عند الحاجة. إضافة إلى هذا، فإن التجهيزات المزودة بهذا الغاز تحتاج إلى مساحة أصغر من الأرض مقارنة بالتجهيزات ذات العزل الهوائي.
تكمن المشكلة في تسرب كميات صغيرة من سداسي فلوريد الكبريت من هذه التجهيزات خلال عملها العادي، كما يمكن أن تتسرب كميات إضافية عند إصابتها بعطل، أو عند التعامل مع التجهيزات القديمة بصورة خاطئة. عندما يتسرب الغاز، يشكّل خطراً حقيقياً على الغلاف الجوي، بسبب قدرته العالية على احتباس الحرارة، وبقائه في الغلاف الجوي فترة طويلة للغاية.
سيبادر بعض الحكومات قريباً إلى حظر هذا الغاز في قطاع الطاقة، الذي يمثل منبع الأغلبية العظمى لانبعاثات هذا الغاز. وافق الاتحاد الأوروبي على حظر مجموعات الوصل المخصصة للتوتر المتوسط والحاوية على سداسي فلوريد الكبريت بحلول عام 2030، ومجموعات الوصل المخصصة للتوتر العالي التي تستخدم هذا الغاز بحلول عام 2032. وقد تنوع موقف العديد من الولايات الأميركية بشأن وضع قيود على هذا الغاز واتخاذ إجراءات للتخلي عن استخدامه تدريجياً، بين الاقتراح والفرض.
اقرأ أيضاً: قل وداعاً للألواح الشمسية: شركة أميركية تبتكر كرات صغيرة لتوليد الكهرباء دون انقطاع
إحداث التغييرات
أعلنت هيتاشي إنيرجي مؤخراً إنتاجها لمجموعة وصل مخصصة للتوتر العالي، وتستطيع التعامل مع استطاعات تصل إلى 550 كيلو فولت. طرحت الشركة هذا الطراز بعد طرحها منتجات مخصصة لاستطاعات تصل إلى 420 كيلو فولت والتي بدأت تركّبها في 2023، حيث يتجاوز عدد مجموعات الوصل المحجوزة مسبقاً للعملاء اليوم 250 مجموعة، على حد قول هايمباخ.
استعاضت هيتاشي إنيرجي في مجموعة الوصل الجديدة عن سداسي فلوريد الكبريت بمزيج غازي يتكون معظمه من ثنائي أوكسيد الكربون والأوكسجين. تتميز مجموعة الوصل الجديدة بأنها آمنة وموثوقة، وتقدم أداء يضاهي أداء مثيلاتها التي تحتوي على سداسي فلوريد الكبريت، لكنها أقل منها تأثيراً بكثير من حيث الإسهام في الاحترار العالمي، حيث تحتجز طاقة أقل بنسبة 99%، على حد قول هايمباخ.
غير أن هيتاشي إنيرجي ما زالت تستخدم بعضاً من غازات مركبات الفلورونتريل الرباعية الكربون (C4-fluoronitriles) في عددٍ من الطرازات الجديدة من التجهيزات التي تنتجها، وذلك للمساعدة على تحقيق عزل جيد، على حد قول هايمباخ. يمثل هذا الغاز نسبة ضئيلة لا تصل إلى 5% من المزيج، كما أنه أضعف تأثيراً من سداسي فلوريد الكبريت، على حد تعبير هايمباخ. على الرغم من هذا، تبقى مركّبات الفلورونتريل الرباعية الكربون من غازات الدفيئة المؤثرة، وهي أكثر تأثيراً من ثنائي أوكسيد الكربون بما يصل إلى بضعة آلاف من المرات. من المحتمل أن تتوسع إجراءات التقييد والحظر قريباً حتى تشمل هذه المركبات وغيرها من المواد المفلورة، ففي أواخر عام 2022، أعلنت الشركة العملاقة في مجال المواد الكيميائية ثري إم (3M) أنها ستتوقف عن تصنيع منتجات البوليمرات الفلورية (fluoropolymers) والسوائل المفلورة ومواد فاعلات السطح الفلورية المضافة (PFAS-additive) كلها، بحلول عام 2025.
يعمل بعض الباحثين على دراسة التصاميم والتجهيزات التي كانت الشبكة الكهربائية تعتمد عليها في الماضي بحثاً عن بدائل تتيح الاستغناء عن الغازات التي تحتوي على الفلور تماماً. يقول الأستاذ المساعد المختص بالهندسة الكهربائية في معهد جورجيا للتكنولوجيا، لوكاس غريبر: "نحن ندرك أنه لا يوجد غاز بديل لسداسي فلوريد الكبريت بخصائص مماثلة تُتيح لنا إجراء استبدال مباشر".
يتميز سداسي فلوريد الكبريت بدرجة عالية من الاستقرار، ودرجة عالية من السالبية الكهربائية، ما يعني أنه يميل إلى التمسك بالإلكترونات الحرة، ولا توجد مادة أخرى تضاهيه في هذه الخاصية تماماً، على حد قول غريبر. ولهذا، يعمل غريبر على مشروع بحثي يهدف إلى الاستعاضة عن غاز سداسي فلوريد الكبريت بثنائي أوكسيد الكربون فوق الحرج (supercritical carbon dioxide). السوائل فوق الحرجة هي تلك التي تكون درجات حرارتها وضغوطها عالية جداً بحيث لا توجد مراحل سائلة وغازية مميزة تماماً. استلهم الباحثون هذه الفكرة من التجهيزات التي كانت تعتمد على مواد زيتية، فبدلاً من السعي إلى التمسك بالإلكترونات على غرار سداسي فلوريد الكبريت، يستطيع ثنائي أوكسيد الكربون فوق الحرج أن يبطئ حركة هذه الإلكترونات عملياً.
تلقى غريبر وفريقه البحثي تمويلاً للمشروع من وكالة مشاريع الأبحاث المتقدمة للطاقة التابعة لوزارة الطاقة الأميركية. ويضيف قائلاً إنهم أوشكوا على الانتهاء من بناء النموذج الأولي المصغر الأول، وإن الخطة تتضمن إجراء اختبار على نموذج أولي بالحجم الكامل عام 2025.
تشتهر مؤسسات الخدمات العامة بطابعها المتحفظ، بما أن السلامة والموثوقية المتعلقة بالشبكة الكهربائية تتمتع بمخاطر عالية، على حد تعبير هايمباخ من هيتاشي إنيرجي. غير أن فرض المزيد من إجراءات التقييد والحظر المتعلقة بغاز سداسي فلوريد الكبريت سيدفعها إلى البحث عن حلول لا تعتمد على هذا الغاز، وتطبيق هذه الحلول.