هل سيصبح الفيديو هو الوسيلة الوحيدة للتعبير عن أفكارنا؟

6 دقيقة
هل سيصبح الفيديو هو الوسيلة الوحيدة للتعبير عن أفكارنا؟
حقوق الصورة: بيكسلز

ملخص: أصبح الإنترنت مكاناً يشبه غابة الفيديوهات، ومع هذا التحول التكنولوجي دخلنا عصر الصور المتحركة، وسهلت تكاليف إنتاج الفيديوهات الميسورة استخدامها كوسائل للتواصل مع الآخرين. ستساعدنا هذه الطريقة على مشاركة المعرفة بسهولة، كما أصبح الفيديو أداة حوارية نتلقى فيها أقوال الآخرين ونرد عليهم مباشرة، وقد جعله تنوع أدواته أداة سهلة ومهمة للتواصل بسلاسة ووضوح. لكن ليس من السهل بعد إجراء عمليات البحث بالاعتماد على الفيديو، أو تطبيق عمليات القص واللصق ووضع الإشارات والتنسيق والترتيب على الفيديو. باختصار، ليس من السهل أن نستخدم الفيديو من أجل ترتيب أفكارنا بهدوء، كما نفعل مع النص. يرى الخبراء أن الأساليب الهجينة التي تُتيح تعديل الفيديو بالاعتماد على نص قد يساعد على ذلك، كما أنهم يرون في صعود الفيديو تأثيراً إيجابياً في عملية الكتابة.

منذ فترة، فتحت تطبيق تيك توك (TikTok) لإضاعة الوقت، فوجدت مقطع فيديو لشابة تجري عملية صيانة وتجديد للسطح الخارجي لغيتار كهربائي قديم ومجوف. كان المقطع مؤلفاً من مجموعة مركبة من اللقطات القريبة، وقد جرى تصوير هذه اللقطات من فوق كتفها فيما كانت تكشط الخشب وتصقله، وتزيل المَلامِس (القطع المعدنية الرفيعة المتوزعة على عنق الغيتار بصورة متعامدة مع الأوتار)، وتسد الشقوق بمهارة باستخدام مادة مالئة، ثم ترشه بطلاء أرجواني متألق. اختصرت هذه الشابة عدة أيام من العمل بمقطع فيديو صغير لا يتجاوز طوله 30 ثانية. كان هذا المقطع مذهلاً.

بطبيعة الحال، لم يكن ذلك المقطع الوحيد الذي شاهدته ذلك اليوم. فبعد ذلك، وخلال فترة لا تكاد تصل إلى خمس دقائق أخرى من التصفح، شاهدت مؤرخاً يناقش الأغاني التي ألّفها الكاتب تولكن في إطار روايته الشهيرة "سيد الخواتم" (The Lord of the Rings)، وبحاراً يفكر بحيرة في قارب مقلوب وجده في أعماق البحر، وأماً باكية تتحدث عن مصاعب رعاية طفل مصاب باضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط، ورجلاً لاتينياً يتحدث ساخراً عن شجار وقع بينه وبين جاره العنصري، ولغوياً يناقش استخدام مواليد الجيل زد للتشبيهات المستوحاة من ألعاب الفيديو في حياتهم اليومية.

يمكنني أن أستمر بالمشاهدة والوصف، وهذا ما سأفعله! ومن المرجح أنك ستفعل هذا أيضاً. هذا هو الشكل الحالي للإنترنت. لقد كانت الإنترنت مكاناً للاحتفاظ بالنصوص والصور، غير أنها بدأت تتحول، وبوتيرة متسارعة، إلى ما يشبه غابة من مقاطع الفيديو.

اقرأ أيضاً: 7 من أفضل أدوات توليد الفيديو بالذكاء الاصطناعي

غابة من مقاطع الفيديو: الشكل الجديد للإنترنت

يمثل هذا التحول أحد أعمق التحولات التكنولوجية التي ستحدد مستقبلنا، فقد دخلنا عصر الصور المتحركة.

على مدى قرون عديدة، عندما كان على الناس العاديين التواصل عن بعد، لم يكن أمامهم سوى خيارين. كان الخيار الأول كتابة رسالة ما، أما الخيار الثاني فقد كان إرسال صورة. كانت تكاليف التقاط الصور المتحركة وتعديلها ونشرها باهظة للغاية، ولم يكن هذا الخيار متاحاً إلا لفئة المحترفين.

غير أن هذا الوضع تغير بسرعة كبيرة، وبصورة مطلقة، بفضل الهواتف الذكية والإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي مثل تيك توك. وقد أصبح من الشائع حالياً أن الشخص الذي يريد طرح فكرة ما على العالم سيبادر إلى تشغيل الكاميرا وقول ما يريد بدلاً من أن يتناول لوحة المفاتيح حتى يكتب ما يريد. بالنسبة إلى العديد من الشباب، قد يكون الفيديو هو الوسيلة الرئيسية للتعبير عن الأفكار.

وكما ردد المفكرون المختصون بالوسائط من أمثال مارشال ماكلوهان، فإن الوسيط الجديد يؤثر فينا ويغيرنا. يغير الوسيط الجديد أسلوبنا في التعلم، وأسلوبنا في التفكير، والأشياء التي نفكر فيها. عندما ظهرت تقنيات الطباعة بكميات كبيرة، ساعدت على خلق ثقافة الأخبار، والثقافة الجماهيرية وإتقان القراءة والكتابة على نطاق واسع، والبيروقراطية، وحتى فكرة الأدلة العلمية كما يزعم البعض. إذاً، كيف ستسهم النقلة الشاملة نحو الفيديو في تغيير ثقافتنا؟

بداية، أعتقد أنها ستساعدنا على مشاركة المعرفة التي كان يصعب التعبير عنها من خلال النصوص وحدها. على سبيل المثال، أنا أمارس ركوب الدراجات لمسافات طويلة، وإذا احتجت إلى إصلاح دراجتي، فلن أتكلف مشقة قراءة دليل حول صيانة الدراجات. بل سأبحث عن مقطع فيديو توضيحي. إذا كنت تسعى إلى التعبير عن -أو تشرّب- معرفة تتسم بأنها مرئية أو فيزيائية أو تتمحور حول الحس العميق (أي إدراك الحركات الذاتية والقوى التي تضغط على الجسم)، فإن الصور المتحركة هي الخيار الأفضل في أغلب الأحيان. لا يقرأ الرياضيون توصيفات نصية حول الأخطاء التي ارتكبوها في آخر منافسة خاضوها، بل يشاهدون ما حدث في مقاطع الفيديو. هذا هو منبع الشعبية الهائلة التي تتمتع بها مقاطع الفيديو التعليمية والإرشادية على منصات الفيديو، سواء أكانت مقاطع فيديو تدريبية حول استخدام مستحضرات التجميل وأدوات التجميل، أو عروضاً إيضاحية عن الطهو وإعداد المأكولات. (بل وحتى المواد التدريبية الخاصة بتعليم البرمجة، فقد تعلمت البرمجة بلغة بايثون [Python] من خلال مشاهدة المبرمجين وهم يبرمجون باستخدامها).

اقرأ أيضاً: أداة جديدة تكتشف الفيديوهات المولَّدة بالذكاء الاصطناعي بدقة فائقة

استخدامات متعددة للفيديو

أيضاً، لم يعد الفيديو مجرد وسيلة للبث، بل أصبح أداة حوارية أيضاً. إنه وسيلة للاستجابة للآخرين والرد عليهم، كما تقول مؤلفة كتاب "المقاومة الشبكية المظلمة" (Black Networked Resistance) وأستاذة دراسات الوسائط والأفلام في جامعة واشنطن، ريفن ماراغ-لويد. وتضيف قائلة: "نحن نشهد حالياً نهضة المشاركة الجماهيرية"، بما في ذلك الأشخاص الذين يدخلون في "مجادلات ثنائية" على منصة تيك توك، أو ينشرون ردودهم في مقاطع فيديو على منصة يوتيوب. ينظر صناع المحتوى الذين ينشرون أعمالهم يومياً إلى منصات الفيديو على أنها وسيلة لاستعادة النفوذ والسيطرة.

"قال لي طلابي: إذا تجاوز طول الفيديو 7 ثوانٍ، فلن نشاهده".بريانا وينز، جامعة واترلو

أيضاً، ثمة مجموعة كبيرة ومتنامية من الأنماط البصرية. ويعتمد صانعو الفيديو اليوم على النواحي الجمالية للأفلام القديمة لإثبات وجهة نظرهم. تقول الأستاذة المساعدة المختصة بالوسائط الرقمية والخطاب الرقمي في جامعة واترلو، بريانا وينز، إنها أعجبت بأسلوب أحد علماء الأعصاب الذي استخدم تقنية إيقاف الحركة في الفيديو، وهي تقنية تعود إلى بدايات إنتاج الأفلام (تعتمد على التصوير المتعاقب لدمية أو تمثال مع إحداث تغيير بسيط في كل لقطة للإيحاء بالحركة المطلوبة)، من أجل إنتاج مناقشات على تيك توك حول اللقاحات خلال ذروة تفشي جائحة كوفيد-19. كما يمكن أن نفكر في هذا المجال بملفات الصور المتحركة من نوع جيف (GIF) التي تحاكي تقنيات "الزويتروب" (zoetrope) في القرن التاسع عشر، والتي تتكرر خلال مدة قصيرة من الزمن لفحصها مراراً وتكراراً.

لقد أصبحت مقاطع الفيديو فعلاً أكثر اندماجاً في مصطلحات حياتنا اليومية، ويزداد حجمها ويتقلص في الوقت نفسه. ثمة مقاطع بث مباشر على منصة تويتش (Twitch) حيث يمكنك مشاهدة شخص ما لساعات متواصلة، ومقاطع فيديو سريعة الانتشار حيث يعبر شخص ما عن فكرة معينة من خلال ضغطها في ثوانٍ معدودة وحسب. تتميز مقاطع الفيديو من النوع الثاني بقدرة خاصة على التعبير عن الأفكار ونشرها، لأنه من السهل للغاية استيعابها وفهمها. تقول وينز ضاحكة: "كنت أدرّس مقرراً يحمل اسم ’الحياة الرقمية‘ (Digital Lives)، وقد قال لي طلابي: إذا تجاوز طول الفيديو 7 ثوانٍ، فلن نشاهده".

ما هي الأخطار الناجمة عن تنامي الصورة المتحركة؟

هل سنتعرض لاحقاً إلى أي أخطار ناجمة عن تنامي استخدام الصور المتحركة؟ ربما. ربما يكون ذلك بمثابة تقديم مكافأة مجزية جداً إلى الأشخاص الذين يتمتعون بالجاذبية البصرية والجسدية المناسبة. (غير أن هذا ليس خطراً جديداً بالضرورة. فقد شهدنا حالات مماثلة خاصة بالنصوص والراديو). بتعبير أدق، ما تزال تكنولوجيات الفيديو في بداياتها. فليس من السهل بعد إجراء عمليات البحث بالاعتماد على الفيديو، أو تطبيق عمليات القص واللصق ووضع الإشارات والتنسيق والترتيب على الفيديو. باختصار، ليس من السهل أن نستخدم الفيديو من أجل ترتيب أفكارنا بهدوء، كما نفعل مع النص. وستبقى قدرات تكنولوجيات الفيديو محدودة حتى تظهر مجموعات الأدوات هذه، وقد بدأنا نرى بدايات ظهورها بالفعل. أخيراً، قد تصبح تقنيات الصور المتحركة شائعة للغاية، ويصبح استخدامها واللجوء إليها أمراً طبيعياً وبديهياً للغاية، إلى درجة أنها ستقضي على ثقافة الطباعة.

غير أن الأكاديميين المختصين بالوسائط لا يشعرون بالكثير من القلق حول هذا الخطر الأخير. فالأشكال الجديدة من الوسائط لا تقضي على الأشكال الأقدم منها إلّا فيما ندر. في الواقع، كما قال الكاهن والأكاديمي الراحل والتر أونغ، فقد أدى ظهور التلفزيون والراديو إلى كتابة الكثير من السيناريوهات التمثيلية وغيرها، أي الكثير من النصوص. ومن المحتمل أن ثقافة الوسائط الحالية التي تعتمد على الصور المتحركة أكثر تشبّعاً حتى بالنصوص المكتوبة. ففي أغلب الأحيان، تتضمن مقاطع الفيديو على إنستغرام (Instagram) وتيك توك تعليقات توضيحية ذات تصميم فني جذاب، ونصوصاً "سردية" للتعليق على أحداث الفيديو، أو الإظهارات المرئية للبيانات. فالقراءة مرافقة للمشاهدة، والكتابة مرافقة للتصوير.

وكما يقول الأستاذ في جامعة سيتي في نيويورك، ليف مانوفيتش: "نشهد حالياً ظهور العديد من الأنواع المختلفة من الأساليب الهجينة المثيرة للاهتمام والعلاقات اللافتة". من المؤكد أيضاً أن مجموعات الأدوات المستخدمة في إنتاج مقاطع الفيديو وتعديلها سوف تتحسن بمرور الوقت، وربما يعتمد بعضها على الذكاء الاصطناعي للمساعدة في عمليات التحرير التلقائي والتنقيح قبل الطباعة والتلخيص.

من الأمثلة على هذا الأداة التي تقدمها شركة ريداكت (Reduct) حالياً، والتي تستطيع تنفيذ حيلة ذكية: فهي تتيح لك تغيير مقطع الفيديو من خلال تغيير النص المرافق له. ويكفي أن تقتطع جملة من هذا النص حتى تقتطع الأداة العناصر المرئية المتعلقة بهذه الجملة. يستخدم محامو الدفاع العام (الذين يتولون الدفاع عن المتهمين غير القادرين على تأمين محامي الدفاع بأنفسهم) هذه الأداة لتحليل مقاطع الفيديو الخاصة بالشرطة وتعديلها. وقد قال لي الرئيس التنفيذي لشركة ريداكت، روبرت أوشورن، إن هؤلاء المحامين غارقون في البيانات التي يعملون عليها في أغلب الأحيان، فقد أدى ظهور الكاميرات الصغيرة التي يرتديها رجال الشرطة في أثناء عملهم إلى إنتاج كميات هائلة من مقاطع الفيديو.

اقرأ أيضاً: 4 اعتبارات يجب أخذها في الحسبان عند استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي للفيديو

في هذه الأثناء، سيجعل الذكاء الاصطناعي التوليدي عملية إنتاج فيلم بالاعتماد فقط على المخيلة أمراً أسهل من ذي قبل. وهذا يعني بالطبع أننا سنشهد طوفاناً جديداً من المعلومات المزيفة المرئية. هذه المعلومات المزيفة أشبه بأكوام القمامة، وسنحتاج إلى تطوير ثقافة أعمق إدراكاً وتتسم بأنها تولي أهمية خاصة للعثور على الأشياء المفيدة بين هذه الأكوام. لقد احتاجت تقنيات الطباعة إلى قرنين من الزمن تقريباً حتى تحقق هذا، كما سيؤكد لك الأكاديميون المختصون بالكتب والطباعة، وخلال هذين القرنين، ساعدت الصحافة المطبوعة على إطلاق حروب واضطرابات لا حصر لها. سنخوض مرحلة تنطوي على تقلبات مشابهة مع الصور المتحركة.

ولهذا، من الأفضل أن نكون مستعدين. فمهما سيحدث لاحقاً، سيكون مثيراً للاهتمام دون شك.

المحتوى محمي