كيف يبدو شكل الأفكار؟ يمكن أن نفكّر في الأفكار الناجمة كإشارات مشتركة بين بعض مليارات العصبونات في أدمغتنا. تتضمن هذه العملية مجموعة متنوعة من المواد الكيميائية، لكن جوهرها يؤول في نهاية المطاف إلى النشاط الكهربائي. ويمكننا قياس هذا النشاط، ومشاهدته متى أردنا.
منذ فترة وجيزة، التقيتُ المؤسسَ المشارك وكبير المسؤولين العلميين في شركة برسيجن نيوروساينس (Precision Neuroscience) التي تعمل على هذه المسألة بالضبط. بيّن رابوبورت: تعمل الشركة على تطوير واجهات تخاطبية بين الدماغ والكمبيوتر، ويأمل أن تساعد هذه الواجهات التخاطبية الأشخاص المصابين بالشلل يوماً ما على التحكم في أجهزة الكمبيوتر، و"الحصول على وظيفة مكتبية"، على حد تعبيره.
اقرأ أيضاً: هل يمكن استخدام عمليات المسح الدماغية لترجمة الأفكار إلى كلمات؟
مصفوفات من الأقطاب الرفيعة والمرنة التي يمكن دسّها تحت الجمجمة عبر شق صغير
طوّر رابوبورت وزملاؤه مصفوفات من الأقطاب الرفيعة والمرنة التي يمكن دسّها تحت الجمجمة عبر شق صغير. ما إن تصبح هذه المصفوفات في الداخل، يمكن أن ترتكز على الدماغ، وتجمع الإشارات من العصبونات التي تنشط أسفلها. حتى الآن، جرى وضع هذه الأقطاب على أدمغة 17 شخصاً، وقد تمكن رابوبورت من تسجيل كيفية تكوين أدمغتهم للأفكار. حتى أنه تمكن من تسجيل مقاطع فيديو لهذه العملية. (إذا أردت رؤية أحد هذه المقاطع أدناه، تابع القراءة)
ظهرت الأقطاب الدماغية منذ فترة من الوقت، وغالباً ما تفيد في علاج أمراض مثل باركنسون وبعض الحالات الشديدة من الصرع. تعمل نسبة كبيرة من هذه الأجهزة من خلال غرس الأقطاب عميقاً داخل الدماغ للوصول إلى المناطق المرتبطة بهذه الاضطرابات.
غير أن الواجهات التخاطبية بين الدماغ والآلة أحدث من ذلك. فخلال العقدين الأخيرين، حقق علماء الأعصاب والمهندسون تقدماً كبيراً في تطوير تكنولوجيات تُتيح لهم الإصغاء إلى النشاط الدماغي واستخدام بيانات الدماغ للسماح للأشخاص بالتحكم في أجهزة الكمبيوتر والأطراف الاصطناعية من خلال الأفكار وحدها.
لم تصبح هذه التكنولوجيات شائعة بعد، كما أن الإصدارات الأولية منها صالحة للاستخدام ضمن بيئة المختبر فقط. يعمل العلماء من أمثال رابوبورت على تطوير أجهزة جديدة أكثر فعالية، وأقل توغلاً من الناحية الجراحية، وأفضل من الناحية العملية. طور رابوبورت مع زملائه جهازاً مصغراً يتضمن تركيب 1,024 قطباً صغيراً على شريحة رقيقة وصغيرة للغاية تشبه الشريط، حيث يبلغ سمكها 20 ميكروناً وحسب، أي ما يعادل تقريباً ثلث عرض الرمش البشري.
صمم الباحثون الأغلبية العظمى من هذه الأقطاب لالتقاط النشاط الدماغي. أما الجهاز نفسه فهو مصمم كي يستمد الطاقة من بطارية قابلة للشحن ومزروعة تحت الجلد في منطقة الصدر، على غرار جهاز تنظيم ضربات القلب. من هذا الموضع، يمكن نقل البيانات لاسلكياً إلى كمبيوتر خارج الجسم.
اقرأ أيضاً: بماذا تفوقت نيورالينك على غيرها من المنافسين في تطوير رقاقتها الدماغية؟
أقطاب لا تلحق الضرر بالدماغ
يقول رابوبورت إن مصفوفة الأقطاب التي صممها "لا تلحق الضرر بالدماغ على الإطلاق"، على عكس الأقطاب الأخرى الشبيهة بالإبر التي تخترق أنسجة الدماغ. بدلاً من غرس مصفوفات الأقطاب في نسيج الدماغ، فإنها تتوزع على شريحة رقيقة ومرنة، يجري إدخالها عبر شق في الجمجمة، ووضعها على سطح الدماغ.
تستطيع الأقطاب، انطلاقاً من الموضع الذي تستقر فيه هذه الشريحة، أن تسجل ما يفعله الدماغ عندما يفكر صاحبه. في إحدى الحالات، أدخل فريق رابوبورت مصفوفة الأقطاب الخاصة بهم في جمجمة رجل كان يخضع لعملية جراحية في الدماغ لعلاجه من مرض أصيب به. وقد أبقى الجراحون الرجل مستيقظاً خلال العملية الجراحية، حتى يتأكدوا من عدم إيذاء أي مناطق حيوية في الدماغ. وخلال ذلك الوقت كله، كانت الأقطاب تلتقط الإشارات الكهربائية التي تصدرها خلاياه العصبية.
يوضّح مقطع الفيديو التالي كيف ظهر نشاط الخلايا العصبية:
يقول رابوبورت: "في الواقع، هذا ما يفعله الدماغ في حالة التفكير. وما نراه هو التجسيد الفيزيائي للأفكار".
في هذا الفيديو، الذي حولته إلى صورة متحركة بصيغة جيف "GIF"، يمكن رؤية أنماط النشاط الكهربائي في دماغ الرجل وهو يعد الأرقام. تمثل كل نقطة الجهد الكهربائي الذي يستشعره قطب واحد من أقطاب المصفوفة المرتكزة على دماغ الرجل، فوق منطقة مختصة بالكلام. تمثّل النقاط الحمراء والبرتقالية الجهود الكهربائية الأعلى، على حين تمثّل النقاط الزرقاء والأرجوانية الجهود الكهربائية الأصغر. خضع الفيديو لعملية تعديل تبطئ سرعة العرض بمقدار 20 ضعفاً، لأن "الأفكار تتكون بسرعة تتجاوز قدرة العين على لحظها"، على حد قول رابوبورت.
اقرأ أيضاً: مستشفى كليفلاند كلينك أبوظبي يجري أول تخطيط كهربائي ثلاثي الأبعاد للدماغ في الإمارات
تطبيقات واعدة في طب الأعصاب
تُتيح هذه الطريقة لعلماء الأعصاب الحصول على تمثيل مرئي لما يحدث في الدماغ عندما نتكلم، وعندما نخطط للتكلم. يقول رابوبورت: "يمكننا أن نفكك شيفرة نيته بنطق كلمة حتى قبل أن ينطقها". هذا أمر مهم، ويأمل العلماء بأن التكنولوجيات ستتمكن من ترجمة هذه الأنواع من الإشارات الخاصة بالتخطيط حتى تساعد بعض الأفراد على التواصل.
في الوقت الحالي، يقتصر عمل رابوبورت وزملائه على اختبار أقطابهم على المتطوعين الذين من المقرر أن يخضعوا لعمليات جراحية في الدماغ بالفعل لأغراض أخرى. ويجري زرع الأقطاب واختبارها ونزعها خلال عملية جراحية جرى التخطيط لها مسبقاً لغرض آخر. أعلنت الشركة في مايو/أيار أن الفريق قد حطم الرقم القياسي لأكبر عدد من الأقطاب الكهربائية الموضوعة على دماغ بشري على الإطلاق، وهو رقم هائل قدره 4,096 قطباً.
يأمل رابوبورت أن توافق إدارة الغذاء والدواء الأميركية على جهازه في الأشهر المقبلة. ويقول: "نأمل بأن هذا سيؤدي إلى إفساح المجال أمام اعتماد معيار جديد في الرعاية".