سنبتعد في هذا المقال عن المواضيع المتعلقة بالصين، وننتقل بدلاً من ذلك إلى جارتها، كوريا الجنوبية. بينما تجتاح موسيقى البوب الكورية -كيه-بوب (K-pop) اختصاراً- العالم، وتجمع قاعدة ضخمة من المعجبين تضم شرائح تجمعها صفة الالتزام بقضايا خاصة، فإن هؤلاء المعجبين يحولون إمكاناتهم إلى أفعال. وقد نشرتُ مؤخراً مقالاً عن مجموعة من المتطوعين الذين يستخدمون تأثير موسيقى البوب الكورية لدفع الشركات الكبرى إلى تحمل مسؤولياتها بشأن آثارها الكربونية، معروفة باسم "كيه بوب فور بلانيت" (Kpop4planet).
اقرأ أيضاً: لماذا سيصبح تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي الموسيقية مكلفاً للغاية؟
البصمة الكربونية لتدفق الموسيقى
وقد سلطت إحدى أكثر الحملات التي نظمتها مجموعة كيه بوب فور بلانيت إثارة للاهتمام (وأكثرها نجاحاً أيضاً) الضوء على البصمة الكربونية للبث التدفقي للموسيقى. أدركت المجموعة أن نسبة معجبي موسيقى الكيه بوب الذين يستخدمون البث التدفقي أعلى من المتوسط بكثير (وفترات البث تتجاوز أحياناً الساعات الخمس يومياً!) لدعم فنانيهم المفضلين، ولهذا نظمت حملة ناجحة من أجل دفع أكبر منصة محلية للبث التدفقي للموسيقى في كوريا إلى إعلان التزامها بالاعتماد على الطاقات المتجددة بنسبة 100% بحلول عام 2030.
ولا بد من أن أعترف أنه، قبل العمل على هذا المقال، لم يخطر في بالي مطلقاً أن البث التدفقي للموسيقى يمكن أن يتسبب بهذا القدر من التلوث. يفوق استهلاك بث ألبوم موسيقي من الطاقة ما يستهلكه إنتاج قرص مدمج (CD) بأكثر من 27 ضعفاً، وذلك وفقاً للباحثين، لكن المدهش في الأمر هو صعوبة التوصل إلى إجابة قاطعة حول المقارنة بين مستوى التلوث الذي يتسبب به البث التدفقي للموسيقى من جهة، ومستوى التلوث الذي تتسبب به الأقراص المدمجة أو غيرها من أنواع التسجيلات الموسيقية من جهة أخرى. ما نعرفه هو أنه نظراً لأن مصدر الانبعاثات الكربونية المرتبطة بالبث التدفقي هو مراكز بيانات بعيدة، ومن خلال عمليات نقل غير مرئية للبيانات، ما يزيد صعوبة تحديد المشكلة.
خلال عملي الاستقصائي بهدف الإعداد لهذا المقال، تحدثت إلى بضعة خبراء حول كيفية استيعاب مسألة الأثر المناخي للبث التدفقي للموسيقى، واتضح لي أمر واحد: يؤول كل شيء إلى الأسلوب المعتمد في البث التدفقي، أي المحتوى والجهاز ومدة البث وغير ذلك. نصح الخبراء أيضاً ببعض الإجراءات التي يمكن أن يطبقها أي مستخدم للبث التدفقي للموسيقى لتقليل حجم البصمة الكربونية.
كيف تقلل البصمة الكربونية للبث الموسيقي؟
ولهذا، نقدم فيما يلي بعض النصائح، إن كنتم ممن يستخدمون البث التدفقي للموسيقى بغزارة:
1. استخدام أجهزة صغيرة بدلاً من أجهزة التلفزيون الكبيرة
يعود جزء كبير من البصمة الكربونية للبث التدفقي للموسيقى إلى الجهاز المستخدم في تشغيل الموسيقى أو الفيديو. فبعضها أكثر استهلاكاً للطاقة بكثير من البعض الآخر. على سبيل المثال، فإن جهاز تلفزيون يمتلك شاشة مقاسها 50 بوصة وتعمل بالمصابيح الثنائية الباعثة للضوء أو ليد (LED) اختصاراً، يستهلك من الكهرباء أكثر مما يستهلكه هاتف ذكي مستخدم في البث التدفقي بمقدار 100 ضعف، وذلك وفقاً للوكالة الدولية للطاقة. إضافة إلى أنه يستهلك مقداراً أكبر من الكهرباء عند تشغيل الشاشة، وذلك لعرض مقاطع الفيديو أو كلمات الأغاني، بدلاً من تشغيل الصوت وحسب. ولهذا، يؤدي استخدام هاتف ذكي في البث التدفقي إلى تقليل الطاقة المستهلكة إلى الحد الأدنى.
اقرأ أيضاً: هل فقدت هاتفك المحمول؟ إليك ما يجب القيام به لتجده
2. الانتظار فترة أطول قبل شراء هاتف جديد
لا ريب في أن الهواتف الذكية مصممة حتى تكون فاعليتها في استهلاك الطاقة في أثناء الاستخدام عالية للغاية، لكن تصنيعها مسألة مختلفة تماماً. تقول أستاذة فنون الوسائط والفلسفة في جامعة سيمون فريزر، لورا ماركس: "عند تحليل دورة حياة الهاتف، يتبين أن ما يتراوح من 85% إلى 90% من الطاقة المستهلكة خلال عمره التشغيلي بأكمله محصورة بمرحلة الإنتاج". عادة ما تتضمن مرحلة التصنيع استخدام الوقود الأحفوري بأنواعه المختلفة، والبلاستيك، والمعادن، وهي كلها مواد من المحتمل أن تلوث البيئة.
وتقول: "ولهذا، إذا أردت تقديم بعض النصائح، فستكون إحداها الاحتفاظ بالأجهزة الشخصية أطول فترة ممكنة، لأن هذه المسألة التي غالباً ما نتجاهلها تمثل جزءاً هائلاً من البث التدفقي".
3. العودة إلى الاعتماد على التنزيلات الرقمية، واستخدام البث التدفقي في أوضاع محددة وحسب
في حين لا يزال عدد قليل من الأشخاص يعمدون إلى تنزيل الملفات الموسيقية من الإنترنت اليوم، فقد اتفق الخبراء على أحد أكثر الأساليب الصديقة للمناخ التي يمكن اتباعها عند الاستماع إلى الموسيقى، وهو الاحتفاظ بملف رقمي لأغنيتك المفضلة، والعودة إلى الاستماع إليه مراراً وتكراراً.
علينا أيضاً أن نغير عقليتنا بشأن التعامل مع البث التدفقي على أنه الوسيلة الوحيدة للاستماع إلى الموسيقى، كما يقول الأستاذ المساعد في برنامج صناعة الموسيقى في جامعة دركسل، جو ستاينهارت. يقول ستاينهارت: "الاقتراح الأول والأسهل هو أن نعامل البث التدفقي للموسيقى كما نعامل الأطباق المصنوعة من الستايروفوم أو أدوات الطعام المصنوعة من البلاستيك. هذا لا يعني أن نتخلى عن استخدامها بالكامل، بل يعني أنه ليس علينا استخدامها طوال الوقت". إذا كنت تستمع إلى مجموعة كبيرة ومتنوعة من الموسيقى، فقد يكون البث التدفقي أفضل خيار لديك، أما إذا كنت تستمع إلى بضع أغانٍ وحسب بصورة متكررة، فقد يكون من الأفضل أن تلجأ إلى ملفات التنزيل الرقمية، أو حتى أن تستخدم قرصاً مدمجاً من الطراز القديم.
4. حاول أن تدفع بمنصات البث التدفقي لتؤدي دورها أيضاً
لا يقتصر العمل المناخي على المسؤولية الفردية فحسب، بل يعني أيضاً دفع الشركات إلى تحسين أدائها. وكما ضغطت مجموعة كيه بوب فور بلانيت على الشركة التي تدير خدمة ميلون (Melon)، وهي أكبر خدمة محلية كورية للبث التدفقي للموسيقى، يمكنك أيضاً أن تسعى إلى دفع الشركة التي تدير خدمة البث التدفقي المفضلة لديك إلى تحمل مسؤوليتها.
تقول ماركس إن أهم جزء من هذه المهمة هو تحديد مواقع مراكز البيانات التي تعتمد عليها هذه المنصات، حيث يمكن أن يصل إسهامها في البصمة الكربونية للبث التدفقي للموسيقى إلى نسبة تتراوح بين الثلث والنصف. تستجر هذه المنشآت العملاقة كميات ضخمة من الكهرباء. وإذا أمكن التحول إلى الاعتماد على الطاقات المتجددة، فسيكون ذلك أهم من أي إجراء يمكن لفرد واحد أن يتخذه. ومن المهم أيضاً ألا ننخدع بالوعود الجوفاء، وأن نسعى إلى دفع هذه المنصات إلى وضع خطط محددة وواضحة تتضمن مواقع المنشآت التي ستشغّلها لتوليد الكهرباء بالاعتماد على الطاقة المتجددة وكيف تعتزم تنفيذ ذلك.
اقرأ أيضاً: ما الذي يمكن أن تتعلمه تكنولوجيات الطاقة المتجددة من تقنية طاقة كهرومائية جديدة؟
5. تقدير الموسيقى، ومقاومة الاستهلاك الزائد
يشير الكثير من الخبراء إلى مفارقة جيفونز (Jevons paradox)، التي تنص على أن زيادة فاعلية استخدام مورد معين يمكن أن يؤدي إلى زيادة الاستهلاك الإجمالي لهذا المورد. هذا يعني، في حالة البث التدفقي، أنه حتى لو أصبحت التكنولوجيا أكثر فاعلية من حيث استهلاك الطاقة للأغنية الواحدة، فإن نموذج العمل المتبع في تقديم خدمات البث التدفقي والراحة المطلقة في الحصول على هذه الخدمات يمكن أن يؤديا في أغلب الأحيان إلى تشجيع المستخدمين على الاستماع إلى المزيد والمزيد من الأغاني دون التفكير بالعواقب المناخية.
ولمقاومة هذه العقلية، تقترح ماركس أننا يجب أن نزيد تقديرنا للاستماع إلى الموسيقى. وتقول: "قد يعني ذلك أنه بدلاً من البث التدفقي طوال اليوم، يمكن الاستماع إلى الأغنية مع الاستمتاع بأدائها إلى أقصى حد ممكن، حيث يمكن الاستماع إليها بضع مرات وحسب، ثم تبادل الحديث مع الأصدقاء عنها بعد ذلك".
ما هو استنتاجي الخاص؟ لم يفت الأوان أبداً على إدراكنا الأثر المناخي للبث التدفقي للموسيقى، والتفكير فيما يمكننا فعله كي نجعله أكثر مراعاة للبيئة ولو قليلاً.