تعرف على عالم الذكاء الاصطناعي العربي العالمي إياد رهوان صاحب مشروع “الآلة الأخلاقية”

15 دقيقة
تعرف على عالِم الذكاء الاصطناعي العربي العالمي إياد رهوان صاحب المشروع العالمي «الآلة الأخلاقية»
حقوق الصورة: إياد رهوان. تعديل: مهدي أفشكو.

يرى مؤسس ومدير مركز أبحاث الإنسان والآلة في معهد ماكس بلانك للتنمية البشرية في العاصمة الألمانية برلين، الدكتور إياد رهوان، أن التطور السريع لأنظمة الذكاء الاصطناعي قد فاجأ حتى العلماء العاملين على تطوير هذه التكنولوجيا في شركات التكنولوجيا الكبرى، موضحاً أنه حتى على المستوى الشخصي لم يكن يتوقع أن يصل الذكاء الاصطناعي إلى المستوى الذي وصل إليه بوت الدردشة "تشات جي بي تي" قبل عام 2050.

في حوار أجراه مع إم آي تي تكنولوجي ريفيو العربية، يتحدث هذا العالم العربي العالمي المتخصص في الذكاء الاصطناعي عن أبرز مشروع عمل عليه وهو مشروع يُسمَّى "الآلة الأخلاقية"، فما هي؟ وكيف أسهمت في تغير حوكمة السيارات ذاتية القيادة، وكيف يمتد تأثيرها إلى تقنيات أخرى كالذكاء الاصطناعي.

يؤكد الدكتور رهوان أن الذكاء الاصطناعي يمكنه بالفعل التنبؤ بالسلوك البشري، موضحاً أن هذا الأمر يُستخدم اليوم على نطاقٍ واسع. كما عبّر عن اعتقاده بأن الدول العربية التي تستثمر حالياً في الذكاء الاصطناعي ستحقق طفرة نوعية، ليس فقط في الذكاء الاصطناعي، وإنما في المجالات الأخرى التي تعتمد على هذه التكنولوجيا، كما يتوقع الدكتور رهوان، الذي اُختير واحداً من أكثر 100 عالم تأثيراً في برلين العام الماضي من قِبل مجلة "تاجزشبيجل" الألمانية، أن البشر سيتمكنون في نهاية المطاف من تطوير الذكاء الاصطناعي العام، لكنه لا يعتقد أن التطور الحالي للذكاء الاصطناعي سيؤدي إلى حالة بطالة عامة، بل على العكس يرى أنه سيساعد على تقليل التفاوت الطبقي.

وبشكلٍ عام، تتركز أعمال الدكتور رهوان الأخيرة على محاولة إيجاد إجابات استباقية لأسئلة مهمة قد يواجهها البشر قريباً، بما في ذلك تأثير دخول الذكاء الاصطناعي كوسيط للتواصل بين البشر، وكيفية تأثير هذه التكنولوجيا في المشهد الثقافي العالمي بالنظر إلى حقيقة أن الإنسان لم يعد هو المُنتج الوحيد للثقافة والفنون.

يشغل الدكتور رهوان حالياً منصب مدير مركز أبحاث الإنسان والآلة في معهد ماكس بلانك للتنمية البشرية، وهو أستاذ فخري للهندسة الكهربائية وعلوم الحاسوب في الجامعة التقنية في برلين، وعضو المجلس الاستشاري لـ"منصة إم آي تي تكنولوجي ريفيو العربية". سبق له العمل أستاذاً مشاركاً للفنون والعلوم الإعلامية في مختبر الوسائط وقائد مجموعة سكيلابل كوبيريشن (Scalable Cooperation) البحثية في جامعة إم آي تي بالولايات المتحدة، كما كان أستاذاً مشاركاً في برنامج علوم الحوسبة والمعلومات في معهد مصدر للعلوم والتكنولوجيا في الإمارات العربية المتحدة، ومحاضراً رئيسياً في الجامعة البريطانية في دبي. وهو حاصل على درجة الدكتوراة في نُظم المعلومات عام 2005 من جامعة ملبورن في أستراليا، وعلى درجة الماجستير في تكنولوجيا المعلومات عام 2000 من جامعة سوينبرن للتكنولوجيا في الدولة ذاتها، وعلى درجة البكالوريوس في علوم الحاسوب عام 1999 من جامعة الإمارات العربية المتحدة.

اقرأ أيضاً: حوار مع مدير الهندسة في جوجل الدكتور عماد زيتوني حول أهمية البيانات في بناء نماذج لغوية عربية

ما هي أبرز الدراسات أو المشاريع الحالية التي تعمل عليها في مجال الذكاء الاصطناعي والتي يمكن أن تشاركها معنا؟

أنا أعتبر نفسي محظوظاً للغاية بوجودي في معهد ماكس بلانك، لأنني أدير مركز أبحاث الإنسان والآلة ولدي حرية علمية كبيرة للغاية، وفريق مكون من أكثر من 30 عالماً من خلفيات أكاديمية وعلمية مختلفة، بمن في ذلك علماء حاسوب متخصصون في الذكاء الاصطناعي وعلماء اقتصاد وعلماء نفس. ونعمل معاً في البحث عن الكيفية التي سيؤثر بها الذكاء الاصطناعي في المجتمع بشكلٍ عام، بما في ذلك تأثيره في الوظائف وفي العلاقات بين البشر.

هناك فكرتان أو بالأحرى اتجاهان عامان نعمل عليهما في الوقت الحالي؛ الاتجاه الأول يتعلق بما الذي قد يحدث حين نستخدم الذكاء الاصطناعي وسيطاً للتواصل بين البشر. المثال البارز الذي يمكن ذكره هنا هو رسائل البريد الإلكتروني. في الماضي، كنا نكتب رسالة البريد الإلكتروني بأنفسنا وكنا نخطئ أحياناً أو نعبّر بطريقتنا الشخصية التي قد لا تكون معبرة تماماً عما نرغب في قوله. الآن، يمكن لأي إنسان أن يستخدم بوت الدردشة "تشات جي بي تي" مثلاً ليحسن من طريقة كتابة رسالته.

في المستقبل القريب، سينتقل هذا الاستخدام إلى مجالات أخرى. على سبيل المثال، عندما نجري مكالمة فيديو، يمكن أن نستخدم تكنولوجيا يمكنها تغيير لهجة المتحدث أو "فلتر" لتغيير الشكل يمكنه أن يُظهر عاطفة غير واقعية أو يقدم صورة مختلفة تماماً للمتحدث. فما الذي سيحدث للتواصل بين البشر حينما لا نستطيع أن نثق بمدى واقعية هذا التواصل؟ هناك وجهة نظر ترى أن الذكاء الاصطناعي يحسّن من عملية التواصل من خلال أمور كالترجمة مثلاً، ولكن في المقابل فإنه يغيّر من طبيعة هذا التواصل بشكل يقلل من الثقة. هذه هي أحد المجالات التي ندرسها الآن، ونحاول أن نجري الأبحاث فيها بشكل استباقي، لأنه حينما تصل التكنولوجيا فعلياً قد يكون الوقت متأخراً لأن نتكيف ونهيئ أنفسنا كمجتمعات.

وهذا هو بالضبط ما فعلناه في مشروع الآلة الأخلاقية، لأن السيارات الذاتية القيادة لا تزال غير موجودة بدرجة ملحوظة، لكننا سألنا السؤال بشكلٍ استباقي لكي نهيئ الأعراف الاجتماعية والأنظمة القانونية وغيرها لهذا التغيير.

الاتجاه الآخر الذي ندرسه الآن هو كيفية تأثير الذكاء الاصطناعي على المنتج الثقافي للإنسان. يعني الإنسان الآن يمكنه أن يستخدم الذكاء الاصطناعي ليناقش بعض الأفكار أو يكتب مقالات أو حتى ينتج أعمالاً فنية. في الماضي، كان الإنسان هو الوحيد الذي ينتج الثقافة ويصنع الفن ويكتب الشعر والروايات، لكن الذكاء الاصطناعي يسهم اليوم في هذه الأمور. لذلك، طرحنا سؤالاً حول الكيفية التي ستتغير بها ثقافة البشر حين تكون الآلة مساهماً في الإنتاج الثقافي. ونحن نحاول ألا ندرس هذه الأسئلة من الجانب الفلسفي فقط، وإنما من الجوانب التقنية والسلوكية المختلفة.

ما هي أبرز المشاريع التي عملت عليها بشكل عام والتي تُسلّط الضوء على التفاعل بين الإنسان والآلة؟

أبرز المشاريع التي عملت عليها في الماضي كان مشروع الآلة الأخلاقية (Moral Machine)، وهو مشروع بدأتُ فيه عندما كنت أعمل أستاذاً في جامعة إم آي تي. تتمحور فكرة المشروع حول إبراز المعضلات الأخلاقية التي يمكن للآلة أن تواجهها في المستقبل. الآلة في هذه الحالة كانت عبارة عن سيارة ذاتية القيادة، وهي تكنولوجيا كانت ولا تزال في طور التقدم والتطور السريع من قبل الكثير من المؤسسات والشركات.

تركّز هذه المؤسسات بشكلٍ أساسي على تطوير التكنولوجيا نفسها، بحيث تتمكن السيارة من الحركة في مختلف الظروف، سواء كانت الأحوال الجوية متقلبة أو الحركة المرورية معقدة. لكن "الآلة الأخلاقية" كانت تمثل فرصة للتفكير في الكيفية التي يمكن أن تتصرف بها السيارة أو الآلة حين تواجه معضلة أخلاقية. على سبيل المثال، يمكن أن تجد السيارة نفسها في موقف ستتسبب فيه في حادث غير قابل للتفادي. أي أن الحادث سيقع بطريقة أو بأخرى، لكن السيارة يمكن أن تغير من طبيعة الحادث وتختار أهون الشرين، إذ يمكنها مثلاً أن تنحرف وتصطدم بحائط وتؤذي السائق أو الراكب الموجود بداخلها، لكي تخفف من أعداد الضحايا أو تمنع مقتل أطفال يعبرون الشارع.

أول سؤال مطروح هنا يتعلق بالتصرف أو القرار الصحيح الذي ينبغي أن تتخذه السيارة في مثل هذا الموقف الصعب، والحقيقة أنه لا يوجد جواب صحيح أو موضوعي في هذه الحالة. أما السؤال الثاني فيتعلق بمن الذي ينبغي أن يقرر هذا التصرف الصحيح، هل هي الشركة التي تصنع السيارات؟ أم المستهلك الذي يستخدم السيارة (والذي سيرغب بطبيعة الحال في أن يحافظ على سلامته الشخصية وسلامة عائلته)؟ أم الدولة ممثلة في المؤسسات الحكومية هي التي ينبغي أن تقرر كيفية توزيع المخاطر المترتبة على القيادة الذاتية؟

لذلك، طورنا ما يمكن أن نصفه بأنه لعبة على الإنترنت تبرز هذه المعضلات الأخلاقية للمستخدم، وتطلب منه أن ينتقي الخيار الأقل سوءاً. الهدف هو تحفيز المستخدمين على التفكير بعمق في إجابات عن هذه الأسئلة الصعبة التي قد تواجه السيارات ذاتية القيادة والذكاء الاصطناعي في المستقبل، والتي تواجهها بالفعل حالياً الحكومات والشركات التي تطور هذه التكنولوجيا.

حقق هذا المشروع شهرة عالمية وانتشر بشكلٍ واسع في مختلف أنحاء العالم، لأننا ترجمناه إلى 10 لغات مختلفة، بما في ذلك اللغة العربية بالطبع، ولا يزال موقعه الإلكتروني مفتوحاً حتى الآن. ونتيجة لذلك، تمكنا من بناء قاعدة بيانات كبيرة للغاية من الإجابات، التي وصلت في البداية إلى نحو 40 مليون قرار أو خيار اتخذه أشخاص من مختلف الأعمار والثقافات والجنسيات. ونحن لا نزال نجمع البيانات إلى يومنا هذا، حيث تجاوز الرقم حالياً 100 مليون قرار.

يوفّر لنا هذا المشروع فكرة أو تصوراً عن الأمور التي يتفق عليها البشر في هذه الحالة وعما يختلفون فيه. على سبيل المثال، تجد أن الناس في المجتمعات التقليدية، بما فيها المجتمعات العربية، يولون اهتماماً كبيراً لحياة المسنين أكثر مما هو الحال في المجتمعات الغربية التي تسود فيها النزعة الانفرادية. وقد حللنا هذه البيانات بالتعاون مع علماء في علم الإنسان يركزون على الاختلافات الثقافية.

ما هي أبرز النتائج التي توصلتم إليها؟

النتيجة الرئيسية هي أن البشر بشكل عام مجتمعون على المبادئ الأساسية، لكنهم يختلفون حين تتصادم هذه المبادئ مع بعضها بعضاً. على سبيل المثال، جميع البشر يجمعون على أهمية وضع حياة الأطفال كأولوية، وأهمية تقليل عدد الضحايا قدر الإمكان، ولكن ماذا يحدث حين تضطر السيارة لاختيار انقاذ طفل مقابل أن تقتل اثنين أو ثلاثة من البالغين؟ هنا يبرز الاختلاف بين الناس؛ بعض الثقافات تهتم أكثر بالطفل ولديها الاستعداد للتضحية بعدد أكبر من البالغين مقارنة بثقافات أخرى.

بالتأكيد هناك اختلافات أخرى يدرسها العلماء حالياً، ولكن بالنسبة لنا فإن النتيجة الأكثر أهمية هي عدم وجود مبادئ أخلاقية عامة وموضوعية تنطبق على جميع الناس والثقافات. وبالتالي، ما نتعلمه هنا هو أنه حينما نطور ذكاءً اصطناعياً، سواء أكان لسيارة ذاتية القيادة أو لروبوت يتفاعل معنا، لا يجوز أن نطور هذه التكنولوجيا وفقاً لثقافة معينة وأن نغض الطرف تماماً عن الاختلافات الثقافية، لأن هذا الذكاء الاصطناعي قد يصطدم مع ثقافات أخرى.

أحد الأمثلة التي يمكن ذكرها هنا -على الرغم من أننا لم ندرسه، لكن يمكننا التفكير فيه- هو أن ألعاب الأطفال في المستقبل القريب ستكون مزودة بالذكاء الاصطناعي وستتحدث. في السابق، كانت الدمى عبارة عن جماد يعتمد استخدامها فقط على مخيلة الطفل، ولكن قريباً ستتكلم هذه الألعاب وتتحاور مع الأطفال. السؤال الآن هو: هل نريد أن تتحدث لعبة مُطورة من قبل أشخاص في ثقافة أخرى مع أطفالنا في مواضيع قد لا نرغب فيها أو بطريقة لا نريدها؟ وهل ينبغي تقنين مثل هذه الأمور؟ نحن نطرح تساؤلات حول المعضلات الأخلاقية التي قد تواجه تكنولوجيا معينة (مثل السيارات الذاتية القيادة في مشروع الآلة الأخلاقية) لكن هذه التساؤلات تنطبق أيضاً على تكنولوجيات مختلفة.

اقرأ أيضاً: مقابلة مع الدكتور نزار حبش حول كيفية مواجهة التحديات التي تعوق تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي عربية

بما أن تخصصك يرتبط بالتقاطع بين علوم الحاسوب والسلوك البشري فهل يمكن للذكاء الاصطناعي التنبؤ بالسلوك البشري؟ وما هي حدود هذه التنبؤات؟ وهل يمكنك مشاركة بعض الأمثلة العملية على كيفية استخدام الذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات السلوكية؟

بالنسبة للجزء الأول من السؤال، فالذكاء الاصطناعي يمكنه بالفعل التنبؤ بالسلوك البشري، وهو يستخدم حالياً بشكلٍ واسع في هذا المجال. بيد أن هذا التنبؤ محدود بسلوكيات معينة. على سبيل المثال، توجد خوارزميات وأنظمة ذكاء اصطناعي تتنبأ بتحركات السيارات في الشوارع حتى تتوقع أماكن الازدحام. هذا نوع من السلوك البشري يتنبأ به الذكاء الاصطناعي بشكل ممتاز، ولهذا فإن "خرائط جوجل" لا تعرض فقط وضع الازدحام المروري الحالي بل تعرض أيضاً الحالة المرورية المستقبلية، وذلك بناء على بيانات مأخوذة من أيام سابقة.

كما يُستخدم الذكاء الاصطناعي بشكل واسع في التنبؤ بسلوك المستهلك. على سبيل المثال، يمكنه تحديد الكتب التي سيزيد الطلب عليها، وهل سينجح فيلم مبني على رواية معينة في السينما وهل سيزيد الطلب على هذه الرواية. وعندما تتسوق على موقع أمازون أو غيره من مواقع التجارة الإلكترونية، فإن أنظمة الذكاء الاصطناعي تتوقع أنك ستحب منتجاً معيناً بناء على المنتجات الأخرى التي تحبها وبناء على ما اشتراه مستهلكون مشابهون لك.

هذه التكنولوجيا موجودة منذ سنين وهي في تطور مستمر، والهدف هو التنبؤ بسلوكيات أكثر تعقيداً ولفترات أطول. يعني ألا تتوقف القدرة على التنبؤ على الكتاب أو الفيلم الذي ستحبه الآن، بل تصل إلى التنبؤ بما ستحتاج إليه العام القادم. هل ستحتاج مثلاً إلى سرير أطفال أو منتجات مخصصة للأطفال لأنك ستتزوج أو سيكون عندك أطفال.

ويمكن للخوارزميات في بعض الأحيان أن تصل في تنبؤاتها إلى توقع أن هناك امرأة حامل قبل أن تدرك هي نفسها هذا الأمر، وترسل إليها إعلانات لمنتجات مرتبطة بالحمل، وقد حدثت فضيحة في الولايات المتحدة حول هذا الموضوع قبل عدة سنوات.

لأن الذكاء الاصطناعي يستخدم بيانات مأخوذة من ملايين الأشخاص، فيمكنه أن يقوم باستنتاجات قد تكون صعبة على البشر.

وثمة تطبيقات مهمة للغاية للتنبؤ القائم على الذكاء الاصطناعي. يمكن لهذه التكنولوجياً مثلاً التنبؤ بتطور الأمراض أو تشخيص أعراض الشيخوخة في وقت مبكر للغاية والتنبؤ بالمضاعفات الصحية حتى يتمكن الأطباء من التعامل مع المرض وتفادي أسوأ الأعراض وتهيئة المرضى.

معظم أنظمة الذكاء الاصطناعي طُوِّرت بالأساس باستخدام بيانات باللغة الإنجليزية ومؤخراً بدأت الشركات الصينية تطوير نماذج متخصصة في اللغة الصينية، فما أبرز التحديات أمام بناء أنظمة ذكاء اصطناعي تركّز على معالجة اللغة العربية؟

بداية، ينبغي التأكيد على أن المحادثات مع نظام ذكاء اصطناعي مثل "تشات جي بي تي" باللغة العربية لا تصل إلى نفس مستوى الدقة كما هو الحال عند الحديث باللغة الإنجليزية. ومع ذلك، فإن مجرد قدرتي على الانخراط في محادثة مطولة ومعقدة مع آلة باللغة العربية لا يزال أمراً يثير دهشتي. وفي الواقع، أنا كنت أتوقع أننا لن نصل إلى هذا المستوى قبل عام 2050.

ومع ذلك، فإن التكنولوجيا ليست كاملة بعد وليست بالمستوى المطلوب. على سبيل المثال، عندما أحاول التكلم مع "تشات جي بي تي" باللهجة الحلبية السورية، فإنه يخلط في إجاباته في الكثير من الأحيان بين اللهجات، فيستخدم بعض الكلمات الدارجة في حلب مع خليط من الفصحى واللهجة العامية المصرية.

فما هي الأسباب وراء هذا؟ السبب الرئيسي هو توفر البيانات؛ فكمية البيانات والمحتوى المكتوب باللغة الإنجليزية أكبر كثيراً من المحتوى المكتوب باللغة العربية. السبب الأول هو أن اللغة الإنجليزية هي اللغة العامة التي يستخدمها معظم سكان العالم تقريباً. كما أن اللغة الصينية تحظى بميزة تتمثل في وجود أكثر من مليار و400 مليون شخص يتحدث بها، وبالتالي فالمحتوى المكتوب بها أكبر من اللغة العربية. أما الميزة الثانية التي تمتاز بها اللغة الإنجليزية أنها على الرغم من اختلاف لهجاتها، لا تزال موحدة بشكل كبير، بينما اللهجات العامية العربية متباينة وتختلف عن بعضها بعضاً وعن العربية الفصحى بشكل كبير. حتى أن الاختلافات تظهر ضمن الدول نفسها، كلهجات القاهرة والإسكندرية في مصر على سبيل المثال. وبالتالي، فكمية المحتوى الموجود بكل لهجة قد يكون قليل. العائق الأساسي إذاً قد يكون شح المحتوى نسبياً مقارنة باللغة الإنجليزية، والاختلافات الكبيرة بين اللهجات المختلفة.

ولكن أعتقد أن هذه العوائق يمكن التغلب عليها خاصة لو تمت برمجة نظم ذكاء اصطناعي متخصصة باللغة العربية، وهذا الأمر سيحدث فرقاً كبيراً لذلك، أعتقد أن المسألة مسألة وقت وأننا سنصل إلى هذه النظم قريباً.

اقرأ أيضاً: قمة اللغة العربية: جهود لتسخير الذكاء الاصطناعي لخدمة لغة الضاد

سؤالي القادم يرتبط بهذه النقطة التي تناولتها، كيف ترى تأثير الجهود الكبيرة التي تقوم بها بعض الدول العربية، وتحديداً الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية في دعم الأبحاث والتطبيقات والقدرات المتعلقة بمجالات الذكاء الاصطناعي واللغة العربية؟

أود أن أتحدث هنا عن أمر شخصي قليلاً. أنا حصلت على شهادة الدكتوراة عام 2005، وكانت أول وظيفة شغلتها بعد الدكتوراة هي التدريس في الجامعة البريطانية في دبي. في ذلك الوقت، كانت الأوضاع مختلفة تماماً ولا يمكن مقارنتها بما يحدث اليوم. على سبيل المثال، لم تكن هناك تقريباً أي جامعة متخصصة في الأبحاث في الدول العربية، وكانت الجامعة البريطانية في دبي واحدة من أوائل الجامعات التي تركز على الأبحاث.

لم يكن البحث العلمي أولوية كما هو الحال الآن. لكن هناك تغييرات كبيرة حدثت منذ ذلك الوقت، حيث استثمرت عدة دول عربية، مثل الإمارات والسعودية وقطر، بشكل كبير في هذا المجال، بعدما أدركت أهمية الاستثمار في التطوير العلمي من أجل مستقبلها الاقتصادي وقدرتها التنافسية على المستوى العالمي.

وفي السنوات الأخيرة أدرك القادة أن الذكاء الاصطناعي هو مفتاح للمستقبل، نظراً لكونه تكنولوجيا متعددة الاستخدامات ومهمة في كل المجالات، بدءاً من الاقتصاد وصولاً إلى الطب إلى التعليم. لذا، بدأوا في الاستثمار في هذه الأمور بشكل مبكر.

وإذا نظرنا إلى الإمارات تحديداً -بما أنني كنت أعيش فيها ولدي إطلاع أعمق على ما يجري هناك- سنجد أنها عينت أول وزير للذكاء الاصطناعي، ما يشير إلى أن هذا المجال يحظى بأولوية قصوى على مستوى الدولة. كما أنشأت أول جامعة متخصصة في الذكاء الاصطناعي، وهي جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي. ويمكنني أن أقول بثقة إن مستوى العلماء الموجودين في هذه الجامعة يقارن بالمستوى في أقوى جامعات العالم. وبالتأكيد توجد مبادرات مشابهة في السعودية وقطر لاستقطاب أبرز علماء الذكاء الاصطناعي.

في النهاية، أعتقد أن هذا سيُحدث طفرة نوعية، ليس فقط في تطوير الذكاء الاصطناعي في هذه الدول، وإنما أيضاً في المجالات الأخرى التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي، خاصة وأن استخدامه بدأ يتوغل في الكثير من المجالات الأخرى.

ما النصائح التي تقدمها للطلاب والباحثين العرب الذين يرغبون في التخصص في مجال الذكاء الاصطناعي، خاصة دراسة الجوانب المتعلقة بالعلوم السلوكية وتأثير هذه التكنولوجيا في المجتمع؟

النصيحة الأولى التي يمكن أن أقدمها للشباب والشابات هي ألا يتخوفوا من الذكاء الاصطناعي بالنظر إليه باعتباره تكنولوجيا جديدة ومتقدمة للغاية لا يدرسها إلا المتخصصون والمتفوقون في الرياضيات والبرمجة. من المؤكد أن تطوير أدوات هذه التكنولوجيا يتطلب دراسة مجالات مثل الرياضيات والبرمجة، وهو ما أتمنى أن يتجه له الكثير من الشباب العربي حتى يمكننا تطوير شركات ذكاء اصطناعي عربية. ولكن بالإضافة إلى ذلك، يمكن للكثير من الشباب المتخصصين في مجالات أخرى ليس لها علاقة مباشرة بالذكاء الاصطناعي أن يصبحوا أيضاً رواداً في استخدام هذه التكنولوجيا في مجالاتهم.

على سبيل المثال، إذا كان شخص يدرس الطب أو التسويق أو الاقتصاد، فإن أمامه الكثير من الفرص لاستخدام الذكاء الاصطناعي في مجالات تتطلب تعاوناً بين خبراء الذكاء الاصطناعي والمبرمجين من جهة، والخبراء في المجال نفسه من جهة أخرى. ومن دون هؤلاء المتخصصين في المجال التطبيقي نفسه لا يمكن لعلماء الذكاء الاصطناعي إنجاز أي شيء.

النصيحة الأخرى هي أن لا يتخوفوا من الاستكشاف. الآن توجد كميات هائلة من الموارد العلمية والتعليمية في مجال الذكاء الاصطناعي، وهذه الموارد تناسب كل إنسان أياً كانت خلفيته العلمية والأكاديمية. وبالتالي ليس لأحد حجة ألا يتعلم.

اقرأ أيضاً: هل هناك حدود أخلاقية في تطوير الذكاء الاصطناعي؟

بحسب موقعك الإلكتروني، فإن موضوع "مستقبل العمل والتعاون بين الإنسان والآلة" يُثير اهتمامك بشكلٍ خاص، فكيف ترى دور الذكاء الاصطناعي في تشكيل مستقبل العمل؟ وكيف يمكن للذكاء الاصطناعي تحسين التعاون بين الإنسان والآلة في مكان العمل؟

بالطبع هناك تخوفات كبيرة بشأن إمكانية أن يستبدل الذكاء الاصطناعي البشر، وأن يحل محلهم في العمل. لكني لا أعتقد أن هذا التخوف يستند إلى أسس صحيحة، لأن لدينا أمثلة تاريخية عديدة حلت فيها التكنولوجيا محل الإنسان ولم يؤد ذلك إلى بطالة عامة. على سبيل المثال، في أوائل القرن العشرين كان نحو 50% من إجمالي العمالة في الولايات المتحدة تعمل في القطاع الزراعي، ومع التطور التكنولوجي وعمليات الأتمتة التي شهدتها الزراعة انخفض هذا الرقم اليوم إلى نحو 3% فقط.

هذا الفارق في نسبة العمال الذي يبلغ 47% تقريباً لم يتحول إلى البطالة بالتأكيد، وإنما وجُدت لهم فرص جديدة للعمل والمساهمة في التقدم الاقتصادي للبلاد. وبالتالي فإن ما يحتاجه الأمر بالأساس هو التكيف مع المتغيرات. فالشخص الذي كان يعمل في الزراعة أصبح يعمل في التعليم أو في مطعم أو يقود شاحنة. المهم هو القدرة على التكيف، وهذه هي النقطة الأولى.

النقطة الأخرى هي قدرتنا على استخدام التكنولوجيا لصالحنا. ستجد مثلاً أن هناك تخوفات لدى العاملين في مجالات مثل البرمجة أو السكرتارية من استبدالهم بالذكاء الاصطناعي، لكن ما أعتقد أنه سيحدث هو أن السكرتير الذي لا يستخدم الذكاء الاصطناعي سيُستبدل بسكرتير آخر يعرف كيفية استخدامه، والمبرمج الذي لا يستخدم الذكاء الاصطناعي سيُستبدل بنفس الطريقة، وتنطبق هذه الفكرة على الكثير من الوظائف الأخرى بما فيها الصحافة وغيرها. هذا يعني أننا يجب أن ننظر لهذه التكنولوجيا على أنها أداة وأن هذه الأداة ستزيد من قدراتنا، وينبغي أن نتكيف مع هذا التغير التكنولوجي بأن نستخدم الأداة ونجعلها جزءاً من عملنا وجزءاً من مهاراتنا.

طبعاً نحن نتحدث هنا عن الوضع الحالي، أما على المدى البعيد جداً فقد يختلف الأمر. يعني إذا فكرنا فيما سيحدث إذا أصبح الذكاء الاصطناعي قادراً على استبدال كل شيء، فسنكون أمام سؤال مختلف.

بالحديث عن التوقعات على المدى البعيد، أعتقد أنه مع كل مرة تُطلق فيها شركة "أوبن أيه آي" إصداراً جديداً من بوت الدردشة "تشات جي بي تي"، وآخرها التحديث القائم على النموذج جي بي تي 4 أو (GPT-4o)، يساور الكثير من الناس التخوف التالي: "حتى لو تمكنت أنا بشكل ما من الحفاظ على وظيفتي الآن، فهل سيتمكن أبنائي وأحفادي من إيجاد وظائف والاحتفاظ بها؟" وهل يمكننا أن نتنبأ بإجابة هذا السؤال من الآن؟

 الواقع هو أن التنبؤ الدقيق صعب للغاية في هذا المجال. وبلا مبالغة، فإنني حتى العام الماضي لم أكن أتوقع أن يصل الذكاء الاصطناعي إلى مستوى "تشات جي بي تي" الحالي سوى في عام 2050. والأهم هو أن التقدم الحالي لم يفاجئني أنا فقط، وإنما فاجأ حتى العلماء الذين يطورون الذكاء الاصطناعي في شركات التكنولوجيا الكبرى نفسها. يعني حتى شركة جوجل التي طورت "شبكة المُحوِّلات العصبونية"، التي تبنى عليها الآن الأنظمة الجديدة مثل "تشات جي بي تي"، لم تتوقع قدرة هذه الخوارزمية على الوصول إلى هذا المستوى من الذكاء.

ومن ثم، فنحن الآن في عصر تطور سريع للغاية، ويمكن لهذا التطور أن يقف فجأة أو أن يتسارع، لا أحد يمكنه التنبؤ بدقة. لكن قناعتي الشخصية أنه بغض النظر عن سرعة تطور هذه التكنولوجيا فإننا سنصل، سواء على المدى المتوسط أو البعيد، إلى مرحلة تتفوق فيها قدرات الذكاء الاصطناعي على غالبية البشر. وعلى الأقل سيكون هذا التفوق فكرياً. بالطبع، نظل نحن نتمتع بميزات أخرى، بما فيها أنما نمتلك أجساماً ولدينا القدرة على التعامل مع العالم الواقعي. لكن حتى هذه النقطة قد لا تكون مضمونة على المدى البعيد لأن علم الروبوتات (Robotics) يشهد أيضاً تطورات سريعة.

إذاً، أنت تعتقد أننا سنصل إلى الذكاء الاصطناعي العام؟

نعم. أعتقد أننا سنصل إلى الذكاء الاصطناعي العام. وأعتقد أن ما نشهده اليوم هو مجرد بدايات لهذا الأمر. لم يعد هذا موضوعاً خيالياً، وإنما أصبح فكرة قابلة للتحقيق ويمكن أن نتخيل الكيفية التي سيكون عليها.

في هذا الوقت ينبغي أن نعيد التفكير في عدة أمور، بما فيها مكانتنا كبشر، وعلاقتنا مع الاقتصاد، وكيفية الحفاظ على كرامة الإنسان، وكيفية استخدام الآلة على نحو يساعدنا على أن نكون أفضل من الناحية الإنسانية. فالذكاء الاصطناعي، كأي تكنولوجيا أخرى، يمكن استخدامه لتدمير كل شيء أو استخدامه لتعزيز إنسانيتنا وتفكيرنا ورعايتنا لبعضنا بعضاً. لذلك، أعتقد أن الإنسان سيظل مميزاً وأننا سنجد طريقة لنتعايش مع هذه الآلات التي صنعناها وأن نخضعها لإرادتنا. لذلك، أنا متفائل بشأن هذا الأمر.

اقرأ أيضاً: هل تنجح عملة وورلد كوين في تأمين دخل أساسي للجميع باستخدام التكنولوجيا؟

هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يسهم في تقليل التفاوت الاجتماعي والاقتصادي في المستقبل أمْ برأيك سيسهم في توسيع الفجوة؟

أعتقد أنه على المدى القريب، ستقلل هذه التكنولوجيا من التفاوت الاجتماعي. نشرت جامعة إم آي تي، العام الماضي، دراسة تبحث فيما إذا كان الذكاء الاصطناعي سيفيد بشكل أكبر الموظفين ذوي الكفاءة العالية أم منخفضي الكفاءة. درّس العلماء مدى تأثير الذكاء الاصطناعي على مجموعة من الموظفين الذين يكتبون مقالات. والنتيجة التي توصلوا إليها هو أن الذكاء الاصطناعي ساعد ذوي الكفاءة المنخفضة بشكل أكبر.

وهناك دراسات أيضاً بحثت هذا التأثير في قطاعات أخرى، منها مثلاً خدمة العملاء. وقد وجدت أن الذكاء الاصطناعي ساعد موظفي خدمة العملاء الأقل خبرة في رفع مستواهم وتقليل الفجوة بينهم وبين الخبراء في هذا المجال. أعتقد أن هذا هو ما سيحدث على المدى القريب. أما على المدى البعيد عندما يؤدي الذكاء الاصطناعي إلى أتمتة عمل موظفي خدمة العملاء -وغيرهم من الموظفين- بالكامل، فسيتعين علينا حينها أن نعيد تنظيم مجتمعنا واقتصادنا بشكل مغاير بحيث يُكفل للناس لقمة العيش والفرصة للتطور، مع ضمان ألا تتركز القوة الاقتصادية والطاقة في أيدي فئة قليلة من الأشخاص أو الشركات، وهذا التنظيم لن يحدث بشكل تلقائي وإنما ينبغي أن نساعد على صنع هذا المستقبل كمجتمع وكحكومات.

المحتوى محمي