يُعد تأمين المياه النظيفة الصالحة للشرب لسكان العالم أحد التحديات الهندسية الكبرى في القرن الواحد والعشرين؛ حيث يفتقر أكثر من نصف السكان إلى المياه النظيفة في بعض البلدان، وحسب الإحصائيات العالمية، يفتقر شخص من كلّ 3 أشخاص إلى مقوّمات النظافة الأساسية التي يُكوِّن الماء جزءاً أساسياً منها.
ويُعتبر هذا النقص سبباً مهماً للإصابة بالإسهال وضعف الصحة بشكل عام. وحسب بعض التقديرات، يموت أكثر من 5000 طفل يومياً نتيجةً للإصابة بالإسهال، وهنا تكمن أهمية إيجاد طرقٍ جديدة لإنتاج المياه النظيفة.
وتكمن المشكلة في غلاء ثمن معظم التقنيات بالنسبة للبلدان الفقيرة، كما أن الأساليب التقليدية (مثل: التقطير، والتناضح العكسيّ، وإعادة تدوير مياه الصرف الصحي) تُعد مُكلفةً ومستهلكة للطاقة، أما التقنيات المُنفعلة التي تعتمد على الطاقة الشمسية فهي تتطلب مواد غريبة ومكثفات شمسية ضخمة ومُكلفة.
وهنا يأتي دور تقنية حصاد الندى التي تستطيع حلّ هذه المُعادلة الصعبة؛ حيث تعمل هذه التقنية على تبريد الهواء، مما يؤدي إلى تكاثف بُخار الماء المُعلَّق فيه وتحوّله إلى ماء يتم جمعه. ويقول مينجهاو دونج وزملاؤه في جامعة ساوث إيست بمدينة نانجينغ في الصين: "تتمتّع هذه التقنية المُنفعلة بإمكانيات كبيرة لجمع المياه العذبة، وذلك بسبب وجود كمية كبيرة من بخار الماء في الجو".
وتُثير هذه التقنية بعض الأسئلة البديهية: فما مقدار المياه التي نستطيع جمعها بهذه الطريقة؟ وما هي أفضل طريقة لجمعها؟
وقد قام مينجهاو وزملاؤه اليوم بحساب الإمكانيات الحقيقية لتقنية حصاد الندى لأول مرة، كما قاموا بوصف تأثير بعض التغييرات البسيطة في التقنيات التقليدية المُستعملة، بحيث تؤدي إلى زيادة الإنتاجيّة والعائد.
وإليكم أولاً بعض المعلومات الأساسية عن هذا الموضوع؛ حيث تتكوّن تقنية حصاد الندى المُنفعل من أداة تُدعى "المكثِّف"، وهي ورقة رقيقة مسطحة من المواد التي تشع الحرارة في الليل -ولا تعمل حاصدات الندى بشكل عام إلا في الليل- ويتم عزل المكثّف عن الأرض لكي لا يمتصّ حرارتها.
ولأن المكثف يشعّ الطاقة ليلاً، فإنّ درجة حرارته تنخفض، مما يؤدي إلى تبريد الهواء بجواره مباشرةً. وإذا انخفضت درجة حرارة الهواء عن درجة تشكّل الندى -وهي الدرجة التي يوجد فيها الهواء مشبعاً ببخار الماء- فسيتكثف البخار.
وبطبيعة الحال، تتأثر كفاءة هذه العملية بمجموعة واسعة من العوامل، لا سيما بدرجة الحرارة المحيطة للهواء، وبالرطوبة النسبية، وبمقدار إشعاع المكثف للحرارة.
وقد قام علماء الفيزياء على مر السنين بحساب كمية المياه التي يمكن أن ينتجها هذا المكثّف في حالته المثالية كجسم أسود مشعّ، ولكنّ مينجهاو وزملاءه يقولون إن كل هذه التحليلات تفتقر إلى نقطة واضحة؛ فهي لا تقيس بشكل صحيح الطريقةَ التي تُشعّ بها الموادُّ الحقيقية الحرارةَ، ولا تدرس الطريقة التي ينقل بها الغلاف الجوي للأرض بعض أطوال موجات الضوء بشكل أكبر من غيرها.
كما أضافوا: "نتيجةً لذلك، لم يتم توضيح الحدود الأساسية لهذه التقنية بشكل صحيح، ممّا يُصعّب تقييم فائدة هذه التجارب وتحديد قابلية هذه التقنية للتطبيق في ظل الظروف المختلفة، لا سيما في المناطق القاحلة نسبياً".
وبسبب ذلك، قاموا بإدراج هذه العوامل لأول مرة. وقد سمح لهم هذا بتقييم كيفية أداء المواد المختلفة.
وتُعتبر طريقتهم واضحة، حيث يشير مينجهاو وزملاؤه إلى أن الأطوال الموجيّة التي يستطيع الغلاف الجوي نقلها بوضوح تُعد معروفة، ويقولون إن من المنطقي استخدامَ المكثف الذي يشعّ هذه الترددات بدلاً من الذي يشعّ جميع الأطوال الموجية، حيث يُسمون هذا المُكثف "مشعاً انتقائياً"، ويقارنونه مع أداء المشعّات السوداء.
وكانت النتائج لافتة للنظر؛ حيث يقول الباحثون إن مطابقة إشعاعات المكثف مع الخصائص الانتقائية للغلاف الجوي قد يُحسّن من النتائج. وعلى سبيل المثال، لا يمكن للمشعّ الأسود حصاد المياه عند درجة حرارة محيطة تبلغ 20 درجة مئوية (68 درجة فهرنهايت) مع رطوبة نسبيّة تبلغ 40%، "في حين أن هذا المشعّ الانتقائي سيتمكن من [حصاد الندى بمعدل] 13 جرام لكل متر مربع في الساعة"، وفي نفس هذه الظروف الجويّة.
ويُعتبر هذا اكتشافاً مهماً؛ حيث سنتمكن من حصاد الندى في الليل في مكانٍ مثل صحراء موهافي، التي لم يكن من الممكن إيجاد الماء فيها على الإطلاق من دون هذا الاكتشاف.
وقد صمّم الباحثون مكثِّفاً بهذه الخصائص المطلوبة لإشعاع الطاقة؛ حيث يتكون من طبقات رقيقة تتألف من ثلاث مواد مختلفة ومتوضّعة على قاعدة من الألومنيوم، ويُشعّ هذا المكثف ثلاثي الطبقات الأطوالَ الموجية التي يستطيع الغلاف الجوي نقلها بوضوح.
ويُعتبر هذا العمل مثيراً للاهتمام وقابلاً للتطبيق على نطاق واسع. ويقول مينجهاو وزملاؤه إن تقنية حصاد الندى يمكن أن تكون مفيدةً في المناطق الرطبة والجافة على حد سواء؛ "حيث تشمل الجزر والمدن الساحلية التي تحيط بها مياه البحر غير الصالحة للشرب، كما تشمل الصحاري التي تفتقر إلى أي شكل من أشكال مياه الشرب".
ومن الأمور الجديرة بالاهتمام أيضاً هو التكلفة المنخفضة لإنتاج هذا النوع من التصميمات المُنفعلة؛ حيث قال مينجهاو وزملاؤه: "إن هذه التقنية المُنفعلة لجمع المياه العذبة قد تعزّز التقنيات الحالية، لا سيما في المناطق الريفية ومنخفضة الدخل، التي تُعتبر تكلفة الإنتاج فيها أمراً مهماً".
وإن تمكّنت التقنية من توفير مياه الشرب النظيفة لجزء بسيط من السكّان الذين يُعانون من قلة توافرها، فسيكون ذلك مكسباً كبيراً للبشرية.
كما بدأت شركة ناشئة واحدة على الأقل تُدعى زيرو ماس ووتر بالتسويق لجهاز مشابه يمكنه سحب المياه من الهواء. كما يواصل العلماء الآخرين العمل جاهدين من أجل تحسين هذه التقنية، بما في ذلك التعاون بين الباحثين في جامعة كاليفورنيا وبيركلي و إم آي تي.
المرجع:arxiv.org/abs/1909.05757 :
الإمكانيات الحقيقية لتقنية حصاد الندى