لطالما أذهلتني آلية عمل محطات توليد الطاقة النووية؛ فهي هائلة الحجم ومعقّدة من الناحية التقنية وتبدو آلية عملها سحرية بعض الشيء، مثل فكرة فصل الذرّات المذهلة. لكن هوسي وصل إلى مراحل جديدة مؤخراً لأني أمضيت الأسبوع الماضي كله تقريباً أتعمّق في التكنولوجيا النووية المتقدّمة.
الطاقة النووية المتقدمة
الطاقة النووية المتقدمة هي فئة غامضة تتضمن في الأساس أي تكنولوجيا مختلفة عن تكنولوجيا المفاعلات التجارية التي تشغَّل اليوم بالآلية العامة نفسها، فهناك الكثير من التكنولوجيات النووية التي يمكن تطبيقها في هذا المجال.
ركّزت على التكنولوجيا التي تطورها شركة كايروس باور (Kairos Power) في مقالة نُشرت بتاريخ 18 يناير/كانون الثاني 2024 (بإمكانك قراءتها هنا)، ولكني تعمّقت أيضاً في بعض التكنولوجيات المحتملة الأخرى التي يمكن استخدامها في محطات توليد الطاقة النووية في المستقبل.
الأساسيات
قبل الخوض في الموضوعات المتقدمة علينا مراجعة الأساسيات أولاً.
تولّد محطات الطاقة النووية الكهرباء من خلال تفاعلات الانشطار التي تنقسم فيها الذرات وتسبب إطلاق الطاقة حرارةً وإشعاعاً، تصطدم النيوترونات الناجمة عن هذه الانشطارات مع ذرات أخرى وتتسبب بانشطارها ما يؤدي إلى بدء تفاعل تسلسلي.
هناك مكونان رئيسيان بالغا الأهمية في محطات توليد الطاقة النووية المستخدمة حالياً: الأول يتألف من مكونين فرعيين، الوقود الذي يغذّي تفاعل الانشطار وأهميته بديهية، وإجراء التفاعل التسلسلي بطريقة متحكّم بها، وهو بالغ الأهمية لأن فقدان السيطرة على التفاعل قد يؤدي إلى انصهار نووي. المكون الأساسي الثاني هو نظام التبريد الذي يمنع المفاعل من الوصول إلى درجات الحرارة الشديدة الارتفاع التي تسبب المشكلات (تحتوي المحطات أيضاً على مكونات مثل مخمد النيوترونات وغيره الكثير، ولكن سأتحدث اليوم عن مكونين فقط للاختصار).
اقرأ أيضاً: ماذا حل بالمفاعلات النووية الأصغر حجماً التي كنا موعودين بالحصول عليها؟
يعمل المكونان الأساسيان بالآلية نفسها في الغالبية العظمى من المفاعلات المتصلة بشبكة الكهرباء حالياً؛ الوقود هو اليورانيوم المخصّب والمعبأ في كريات خزفية توضع في أنابيب معدنية توضع بدورها في قلب المفاعل، ويضخ نظام التبريد المياه المضغوطة حول المفاعل للتحكّم بدرجة حرارته.
لكن بدأت الشركات لأسباب عديدة بالعمل على تعديل هذه الآلية المجربة والمثبتة، تقول المؤسِّسة الشريكة والمديرة التنفيذية الشريكة في مؤسسة أبحاث السياسات، غود إنرجي كولكتف (Good Energy Collective)، التي تدعو إلى استخدام الطاقة النووية، جيسيكا لوفرينغ، إن قرابة 70 شركة في الولايات المتحدة تعمل على تصميمات للمفاعلات النووية المتقدمة، منها 6 أو 7 شركات أحرزت ما يكفي من التقدّم لدرجة أن تعمل مع الهيئات التنظيمية.
اختُرع العديد من هذه التكنولوجيات المتقدمة واختبر منذ أكثر من 50 عاماً قبل أن تُعتمد تصميمات المحطات المبردة بالمياه القياسية في القطاع، ولكن الآن تجدد الاهتمام بتصميم مفاعلات نووية بديلة وتشغيلها، ويمكن أن تتمتع التصميمات الجديدة بكفاءة أكبر ولعلها تكون أكثر أماناً وأقل تكلفة.
اقرأ أيضاً: 12 استخداماً سلميّاً للطاقة النووية
المبرّدات
يمكن أن تعزز المبردات البديلة أمان المحطات النووية مقارنة بالتصميمات المعتمدة على المياه، لأنها لا تعتمد دائماً على تعريض المواد المستخدمة لضغوط عالية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يصل العديد من المبردات البديلة إلى درجات حرارة مرتفعة، ما يعزز كفاءة المفاعلات.
الملح المنصهر هو أحد البدائل الرئيسية للمبردات التقليدية، وهو يُستخدم في تصميمات الشركات مثل كايروس باور وتيريستريال إنرجي (Terrestrial Energy) ومولتكس إنرجي (Moltex Energy). تستهلك هذه التصميمات كمية أقل من الوقود وتنتج نفايات يمكن تصريفها بسهولة أكبر.
تعمل شركات أخرى على استخدام المعادن السائلة، مثل الصوديوم والرصاص السائلين. هناك عدد قليل من المفاعلات المبردة بالصوديوم قيد التشغيل حالياً، وأغلبها في روسيا التي تُعد رائدة أيضاً في تطوير المفاعلات المبردة بالرصاص. تتمتع المفاعلات المبردة بالمعادن السائلة بالعديد من ميزات السلامة المحتملة التي تمتلكها التصميمات المعتمدة على الملح المنصهر. ويمكن أيضاً استخدام الهيليوم والغازات الأخرى لتطوير المبردات التي تصل إلى درجات حرارة أعلى مقارنة بالأنظمة المبردة بالماء، وتصمم شركة إكس-إنرجي (X-energy) مفاعلاً نووياً مرتفع الحرارة مبرداً بالغاز يعتمد على الهيليوم.
اقرأ أيضاً: ما الذي يبقينا متمسكين بحلم الطاقة الاندماجية؟
الوقود
تستخدم أغلبية المفاعلات التي تعتمد على المبردات البديلة الوقود البديل أيضاً.
ويعد وقود تريسو (TRISO)، أو وقود الجسيمات الثلاثي البنية المتماثل المناحي، من أكثر الخيارات شيوعاً. تحتوي جسيمات هذا الوقود على اليورانيوم المغلّف بطبقات سيراميكية كربونية تعزل الوقود ونواتج تفاعلات الانشطار، ما يمنح الوقود القدرة على مقاومة التآكل والانصهار. وتخطط شركتا كايروس وإكس إنرجي لاستخدام وقود تريسو في المفاعلات.
تستخدم مفاعلات أخرى وقود هاليو (HALEU)، أو اليورانيوم المرتفع التركيز والمنخفض التخصيب. تحتوي أغلبية أنواع الوقود النووي المستخدم في المفاعلات التجارية على نسبة تتراوح بين 3% و5% من اليورانيوم-235، لكن وقود هاليو يحتوي على تركيز يتراوح بين 5% و20% من اليورانيوم-235، ما يتيح للمفاعلات توليد المزيد من الطاقة في مساحة أصغر.
اقرأ أيضاً: ما أنظمة الطاقة الحرارية الجوفية المحسّنة وهل يمكن أن تمثّل مصدراً فعّالاً للطاقة النظيفة؟
الحجم
أعلم أني قلت إني لن أتحدث إلا عن مكونين، ولكن دعونا نتحدث عن فئة إضافية. بالإضافة إلى تغيير مواصفات المكونات مثل الوقود والمبردات، يعمل العديد من الشركات على بناء مفاعلات بأحجام مختلفة (أصغر غالباً).
أغلبية المفاعلات المتصلة بشبكة الكهرباء حالياً ضخمة، وتبلغ قدرتها ألف ميغا واط أو أكثر، وهي كمية من الطاقة كافية لتزويد مئات الآلاف من المنازل بالطاقة. يستغرق بناء هذه المشاريع الضخمة وقتاً طويلاً ويتطلب إنجاز كل منها عمليات خاصة به. في حين قد يكون بناء مفاعلات الوحدات الصغيرة أسهل لأن خطوات بنائها واحدة، ما يتيح تصنيعها بطريقة شبيهة بخط تجميع ضخم.
اقرأ أيضاً: نحن بحاجة إلى محركات نووية أكثر قوة حتى نتوغل أكثر في الفضاء وبسرعات أكبر
شركة نو سكيل (NuScale) هي إحدى الشركات الرائدة في هذا المجال؛ إذ يعتمد تصميم مفاعلها على الوقود التجاري والمبردات المائية ولكنه أصغر حجماً. لكنها واجهت بعض المشكلات في الأشهر الأخيرة، إذ فشل مشروعها الأول تقريباً وسرّحت ما يقرب من 30% من موظفيها في أوائل يناير/كانون الثاني 2024. وهناك شركات أخرى تعمل على بناء مفاعلات الوحدات الصغيرة، ومنها عدة شركات تسعى أيضاً لاستخدام أنواع الوقود والمبردات البديلة.