مع تنامي طموح العنصر البشري في استكشاف البيئة المحيطة والذي وصل حدود استعمار الفضاء، أصبح العديد من وكالات الفضاء بشتى الحكومات والشركات الخاصة يخطط لوجود الإنسان على كوكب المريخ -ليس باحثاً أو سائحاً- بل مقيماً ومعمراً.
ولأن مهمة استيطان المريخ ستستهلك ميزانيات وموارد ضخمة من كوكب الأرض، وهو السبب الذي أدّى إلى وجود بعض الآراء المعارضة لتلك المهمة، يجب دراسة المردود على كوكب الأرض وسكانه.
كيف ستكون الحياة على المريخ؟ ما الأشغال التي سيقوم بها سكان المريخ؟ كيف ستكون الأسرة والتربية؟ ما المخاطر التي ستواجههم؟ مَن سيقوم بتمويل تلك الرحلات والإقامة والمعيشة؟ وكيف ستؤثّر الاكتشافات الفضائية في كوكب المريخ وفي الحياة على كوكب الأرض؟
أسئلة لا محدودة، وكلها لها تأثير مباشر على الاقتصاد الأرضي والمريخي والفضائي، وإن كان العائد على الاستثمار على المدى البعيد.
وبناءً على إحصائيات من تقرير "سبيس فاونديشن"، بلغت قيمة اقتصاد الفضاء العالمي 546 مليار دولار عام 2023، والرقم في تصاعد مستمر، وبناءً على دراسات من بنك أميركا، فإنه بحلول عام 2050 من المتوقع بلوغه نحو 3 تريليونات دولار، أمّا بخصوص تنمية الاقتصاد المريخي فسينقسم إلى ثلاثة محاور:
- التنمية بهدف استدامة وتعمير كوكب المريخ.
- تنمية الاقتصاد الفضائي عموماً.
- تنمية الاقتصاد الأرضي وإعادة ترميم الكوكب الأم.
اقرأ أيضاً: علماء يكتشفون وجوداً قديماً للمياه في «أرض العرب» على المريخ
ومع تعمير كوكب المريخ وظهور الصناعات والمشروعات الجديدة والمستدامة، حيث ستُستخدم عملات رقمية مشفرة خاصة بالمريخين للفصل بين الاقتصادين الأرضي والمريخي، سيُفتح باب الاستيراد والتصدير والتجارة الخارجية للمنتجات الملموسة والمرئية بين كوكبي المريخ والأرض، بقوانين تجارية خاصة وأنظمة مخصصة للضرائب والجمارك وحفظ حقوق الملكية الفكرية.
ولكن كوكب المريخ لن يتم استيطانه فقط من قِبل البشر (حيث يفضل أن يكونوا من النباتيين وليسوا من هواة تربية الحيوانات الأليفة!)، ولكن باصطحاب مجموعة كبيرة من الروبوتات التي ستساعد على تعمير الكوكب، بالإضافة إلى مجموعة من الأفاتارات التي تتحكم بها مجموعة من المتخصصين من على كوكب الأرض للقيام بالمهام التي بها خطورة أعلى، أو في حالة الاستعانة بمواهب وقدرات إضافية قد لا تكون متاحة من فئة المهاجرين إلى المريخ. وفي المستقبل الأبعد يمكن أن يكون الكوكب مؤهلاً لاستيطان البشر غير النباتيين، حيث ستتم تنمية الثروة الحيوانية والسمكية أو اللجوء إلى استزراع اللحوم المصنّعة في المختبرات، وربما يمكن اصطحاب الحيوانات الأليفة وسائر الحيوانات لتحقيق رؤية إيلون ماسك المستقبلية حول سفينة نوح المريخية.
اقرأ أيضاً: عربة ناسا الجوالة بيرسيفيرانس تتمكن أخيراً من اغتراف قطعة من المريخ
إتاحة فرص العمل بتخصصات مختلفة وجديدة
على الرغم من الاعتماد على الروبوتات والذكاء الاصطناعي بشكلٍ كبير، فإن تدريب العنصر البشري عامل أساسي لاستدامة الحياة المريخية والمشاريع الاستثمارية فيها. وقد بدأ نمو سوق العمل المريخي بالفعل، عبر كلٍّ من التخطيطات والتحضيرات والتجارب والبعثات التي تعمل على دراسة وتأهيل الكوكب قبل وصول أول دفعة من المستوطنين إليه. وهذه السوق توقعات نموها لا محدودة في حال نجحت المهمة.
يترتب على ذلك ظهور تخصصات ووظائف قد تبدو مألوفة ولكنها جديدة مثل الجيولوجيين، والمهندسين بمختلف أنواعهم، وذلك يشمل مهندسي الزراعة والبرمجة والاتصالات والطاقة والمعماريين، والفنيين، والأطباء، ومديري المشروعات، وخبراء في الصحة والسلامة، والمختصين في علوم الإدارة عموماً، وخصوصاً في إدارة المخاطر واللوجستيات وإدارة سلاسل الإمداد، ومسؤولي الترفية والرياضة والثقافة. وعلى الرغم من أن الوظائف تبدو تقليدية، فإن آلية تنفيذها تختلف بسبب البيئة المحيطة، والتي ستتطلب مجموعة من المهارات والقدرات النفسية والذهنية من ضمنها الابتكار، وحل المشكلات، ومهارات الرشاقة، والتطوير المستمر، والذكاء العاطفي.
اقرأ أيضاً: النظرة الأكثر تفصيلاً لباطن كوكب المريخ حتى الآن
استثمارات الاقتصاد المريخي
1- الصناعة والتكنولوجيا: لتأهيل كوكب المريخ لمعيشة البشر بوجود متطلبات الحياة الأساسية من هواء وماء ومسكن ومأكل، واستدامة الحياة على الكوكب وذلك من خلال:
- توفير أجهزة تقوم بتحويل ثاني أوكسيد الكربون (96% من الغلاف الغازي للمريخ) إلى أوكسجين.
- تصميم روبوتات لاستخراج الماء من الهواء أو التربة.
- استخدام التربة الحمراء كمادة خام في تعمير الكوكب بالمباني والمنازل والأدوات خلال الطباعة ثلاثية الأبعاد.
- الاستثمار في الهندسة والتكنولوجيا الزراعية لإنتاج محاصيل مريخية، بالإضافة إلى تكنولوجيا الاتصالات.
- إعداد وسائل الانتقال على الكوكب أثناء التواجد عليه ومن ضمنها القطارات والسيارات الفضائية والطيران.
2- التنقيب عن المعادن والموارد الطبيعية: الكواكب الأخرى والأجسام خارج الأرض غنية بمصادر الطاقة والموارد الطبيعية والمعادن، ما يمثّل فرصة لاستكشاف واستخراج موارد طبيعية نادرة وجديدة لكوكب الأرض الذي تتقلص موارده الطبيعية مع مرور الوقت، ويجدر بالذكر أن مصادر كوكب الأرض معرضة "لانتهاء صلاحيتها" أو نضوبها بحلول عام 2050، وذلك إلى جانب تزايد معدل التعداد السكاني المُقدر بـ 28% والاستهلاك المُقدر بـ 71%.
كوكب المريخ مليء بالمعادن القيمة، والتنقيب الفضائي من الحلول المقترحة لتعمير المستعمرات الفضائية وإمداد كوكب الأرض بالموارد الطبيعية التي أوشكت على النفاد.
3- السوق العقارية: مع استكشاف الكوكب وتعميره، فإن امتلاك الأراضي والمحلات التجارية والمكاتب والشقق الفندقية والمنازل عليه سيجذب المستثمرين المريخيين والأرضيين.
4- أسواق البورصة المريخية والأرضية: سيكون للعديد من الشركات الحالية على كوكب الأرض مشاريع وأعمال على المريخ، مع بداية تلك المشاريع متوقع صعود فوق المعتاد لأسهمها بالبورصة، ومع استيطان المريخ، ستُتاح الفرصة للمستوطنين لتدشين مشاريعهم وشركاتهم الخاصة، ومع نجاح التجربة، سيفتح المزيد من المستثمرين شركاتهم هناك. ومن هنا يُفتح بابٌ جديدٌ للاستثمار بالبورصة المريخية.
5- المشاريع الناشئة وريادة الأعمال: مع نمو الأجيال الجديدة وتخرج أول دفعات من المدارس والجامعات بالمريخ، سنجد موجة ريادية جديدة من الأفكار والمشروعات المبتكرة وتطبيقات المحمول التي ستنقل الحضارة المريخية إلى مرحلة ريادية أعلى لتخدم الرؤية المستدامة.
6- المناهج الدراسية: سيواكب شتى المناهج الدراسية في المدارس والجامعات نمط الحياة ومعايير السلامة والتوعية والأهداف المريخية، ما سيتطلب فِرقاً كاملة تتكون من باحثين ومدرسين وأخصائيين نفسيين والمتخصصين في شتى المجالات لإعداد محتوى المناهج والحرص على تطويرها المستمر.
اقرأ أيضاً: ما هي أفضل المواقع التي يمكن لمستوطني المريخ أن يعثروا فيها على الجليد؟
7- الميتافيرس المريخي: البشرية في أتم الاستعداد لـ "استيطان الميتافيرس المريخي" خلال محاكاة الكوكب بتكنولوجيا الواقع الافتراضي (VR) والويب 3.0، التي تُستخدم لتأهيل وتدريب المهاجرين إلى المريخ، وللترفيه، ولتحقيق حياة مرئية افتراضية بالكوكب الأحمر شاملة الوظائف المرئية والسياحة والترفيه.
ومع استيطان الميتافيرس المريخي تُتاح فرصٌ كثيرة في مجال الرموز غير قابلة للاستبدال (NFTs)؛ حيث الاستثمار في السوق العقارية المريخية وشراء الأراضي المرئية وتحقيق الإيرادات والمكاسب منها.
8- المحتوى الرقمي والمؤثرون: الحياة الجديدة على كوكب المريخ ستُلهم ظهور العديد من البرامج الإعلامية والأفلام والمنشورات الإلكترونية، بل سيكون لها تأثيرٌ في الاقتصاد البرتقالي عموماً، من ضمنها برامج تلفزيون الواقع مثل بيغ براذر لتدوين قصة استيطان المريخ من منظور علم الاجتماع. أمّا المؤثرون سيكون لهم دورٌ محوري في نقل الحضارة المريخية إلى الأرضيين.
9- الترفيه: الصحة النفسية لها أهمية محورية لرواد الفضاء وخصوصاً في مهمة استيطان المريخ. توجد مخاطر نفسية بسبب العزلة والمناخ ونمط الحياة عموماً قد تؤثّر في سلوكهم وأدائهم البيولوجي والذهني الذي ينعكس على جودة العمل والأهم في شغفهم لتحقيق رؤية استيطان المريخ كوطن. لذلك، صُمِمت برامج لمكافحة الاكتئاب والانتحار بين سكان المريخ، وللعمل على سعادة المواطنين الوظيفية والحياتية؛ يُعتبر الترفيه محوراً أساسياً في الخطة لضمان تحقيق السعادة والاستدامة العاطفية والاستمرارية، والنظر إلى استيطان المريخ ليس كمهمة رسمية ولكن كبناء مجتمع وحياة.
اقرأ أيضاً: سطح المريخ قد يخفي تحته المزيد من مخازن الماء السائل
10- السياحة الفضائية: من المتوقع إقبال شديد على السياحة الفضائية نحو القمر والفضاء المجاور لإتاحة تجربة الفضاء لكل السياح المهتمين، ولكن تختلف تجربة السياحة إلى كوكب المريخ بسبب بُعد الكوكب من حيث المسافة والوقت والتكلفة. لذلك، ستنقسم السياحة المريخية إلى ثلاثة أنواع:
- السياحة خلال الأفاتارات حيث سيُتاح لسكان الأرض استئجار الأفاتارات من على كوكب المريخ للمغامرات والاستكشاف.
- السياحة خلال الميتافيرس، حيث يشترك الأرضيون في تطبيقات لوجود توأم رقمي لهم ليخوضوا التجربة بتفاصيلها والتواصل مع سكان المريخ.
- السياحة خلال السفر الفعلي إلى المريخ ولكنها لن تكون فقط سياحة ترفيهية لأن مدة المكوث بالكوكب ستكون سنتين، فالتجربة ربما تشمل التطوع والمشاركة في مختلف المجالات لخوض التجربة بالكامل.
11- التراث والفنون المريخية: مع استكشاف الفضاء واستكشاف الحياة على كواكب جديدة، يتم تشكيل تراث جديد مع بناء تلك الحضارة الفريدة، وستكون إدارة التراث وإنشاء متاحف مريخية اتجاهاً محورياً. وابتداءً من الآن يُبنى التراث المريخي من خلال فنون التصوير والرسم والصناعات اليدوية والأفلام والتراث التكنولوجي، بالإضافة إلى دور المتاحف الأرضية الآن في عرض الحضارة المريخية المستقبلية.
اقرأ أيضاً: هل كان المريخ فعلاً كوكباً دافئاً غنياً بالمياه؟
إن استيطان الإنسان المريخ ليس فقط مؤشراً لطموح وفضول الإنسان، ولكنه مؤشر لتحالف مناهج الإدارة وأدوات التكنولوجيا ومصادر الطاقة والقوى العاملة من مختلف البلدان على هدف واحد، وهو بناء مستقبل جديد. وهذا الهدف سيكون دليلاً على تحقيق مبادئ العولمة والاستدامة والسلام العالمي، وهذا هو المغزى الأساسي وراء التنمية الاقتصادية.