يقبع مفاعل نووي خلف مبنى من القرميد في الحرم الجامعي لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (إم آي تي). لقد سمعت عن هذه المنشأة منذ أكثر من عقد، وتشكلت في ذهني صورة أسطورية عنها. ولهذا، شعرت بالحماس عندما تسنت لي رؤيتها بنفسي أخيراً منذ فترة وجيزة.
بُني المفاعل النووي البحثي في إم آي تي في الخمسينيات، وقد تغير الهدف منه على مدى عقود من الزمن. ففي مراحل مختلفة من عمره، استُخدم لدراسة كل شيء، بدءاً من الفيزياء النووية وصولاً إلى العلاجات الطبية، إضافة إلى استخدامه المتواصل في تعليم الأجيال الجديدة من العلماء المختصين بالطاقة النووية.
لكنني شعرت بأكبر قدر من الحماس لدى سماعي بمشروع يركز على الطاقة، ويهدف إلى تحويل تكنولوجيا جديدة للمفاعلات النووية إلى حقيقة واقعة.
تُبَرّد جميع المفاعلات النووية التجارية تقريباً في الوقت الحالي باستخدام الماء، لكن عدداً متزايداً من الشركات الناشئة يدرس استخدام طريقة بديلة تعتمد على الملح المنصهر. يعمل مختبر المفاعل النووي في إم آي تي على مساحة بحثية جديدة يمكن أن تساعد في توضيح قدرة التكنولوجيات البديلة على تحمل الظروف الصعبة داخل مفاعل نووي.
اقرأ أيضاً: ما تبعات إيقاف جميع محطات الطاقة النووية في ألمانيا على الأهداف المناخية؟
مواضيع ساخنة
كان مكتب الاستقبال أول محطة في جولتي، حيث حملت (مثلما حمل كل فرد من أفراد مجموعتي) مقياساً شخصياً للجرعة الإشعاعية لتتبع أي تعرض محتمل للإشعاع. بعد ذلك، سلمنا حقائبنا وهواتفنا، وتلقينا تحذيرات صارمة بوجوب تفادي لمس أي شيء، أو الابتعاد عن ناظري دليل الجولة.
وأخيراً، دلفنا إلى المختبر ضمن رتل واحد عبر مجموعة من الأبواب المعدنية المدعمة. ومررنا بالقرب من صفوف من المعاطف المخبرية الصفراء، فيما كان مدير تجارب المفاعل ودليل جولتنا، ديفيد كاربنتر، يحدثنا عن بعض الحقائق التاريخية والأساسية.
هذا ثاني أكبر مفاعل بحثي جامعي يعمل في الولايات المتحدة حالياً، وينتج ما يقارب 6 ميغاواط من الطاقة الحرارية. أما المفاعلات التجارية فتصل استطاعاتها عموماً إلى مئات أضعاف هذا الرقم، أي ما يقارب 3,000 ميغاواط (3 غيغاواط) من الطاقة الحرارية.
(معلومة أساسية سريعة حول المفاعلات النووية: تعمل المفاعلات النووية بتفاعلات الانشطار، حيث تتفكك ذرات اليورانيوم. تنتج هذه التفاعلات النيوترونات، وهي شكل من أشكال الإشعاع المؤيِّن، إضافة إلى حرارة يمكن الاستفادة منها وتحويلها إلى كهرباء).
اقرأ أيضاً: 12 استخداماً سلميّاً للطاقة النووية
تولد المفاعلات المستخدمة في الشبكات الكهربائية الحرارة على شكل بخار، وتحولها إلى كهرباء. أما في هذا المفاعل البحثي، فالحرارة ليست سوى ناتج ثانوي، أما النيوترونات فهي محط التركيز والدراسة.
يتفوق مفاعل إم آي تي على معظم المنشآت الجامعية الأخرى من حيث محاكاة ظروف الإشعاع في المفاعلات التجارية الأضخم. ولهذا السبب، تُستخدم هذه المنشأة حالياً في الكثير من عمليات البحث والتطوير الهندسية، وفقاً لكاربنتر. فقبل أن تستخدم الشركات مواد أو مستشعرات جديدة داخل المفاعلات النووية أو بالقرب منها، تستطيع اختبارها في ظروف مماثلة من حيث الإشعاع والحرارة والضغط ضمن بيئة خاضعة للتحكم في المفاعل البحثي. ويمكن وضع العينات مباشرة ضمن النواة أو تعريضها للإشعاع الذي يُسمح بتسريبه خارجاً ضمن ممرات خاضعة للتحكم وتحمل اسم الخطوط الإشعاعية.
اقرأ أيضاً: ما الدافع وراء قرار فرنسا بالعودة إلى استخدام الطاقة النووية؟
تفاعلات تسلسلية
عند اقترابنا من مدخل غرفة المفاعل، شعرت كأنني على وشك الانطلاق إلى الفضاء الخارجي، على الرغم من أن الأبواب كانت مطلية بلون زاهٍ (أزرق فاتح بلون بيوض طائر الحناء) لا يتناسب مع جدية المكان على الإطلاق. بعد أن نفذ كاربنتر مجموعة من إجراءات الحماية والأمن، فُتِح الباب الأول، كاشفاً عن غرفة عزل هوائي صغيرة، وباب مزدوج أزرق اللون.
وبعد الانتظار عدة ثوانٍ ضمن غرفة العزل الهوائي، فُتِح الباب الثاني، ووجدنا أنفسنا فجأة وجهاً لوجه مع المفاعل. وعلى حين لا يصل ارتفاع النواة التي تحتوي على الوقود إلى متر واحد، فإن ارتفاع المفاعل بأكمله يبلغ عدة طوابق.
اصطحبَنا كاربنتر في جولة داخل المفاعل، وأشار إلى غرفة كانت مخصصة للعلاج الطبي بالنيوترونات في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. لقد اضمحل هذا البحث بالتدريج، ولهذا، فإن هذه المساحة البحثية تخضع حالياً لعملية تغيير شاملة. وستصبح مخصصة لاختبار بعض المسائل المتعلقة بالمفاعلات المُبرّدة بالملح المنصهر.
ظهرت فكرة استخدام الملح المنصهر لتبريد المفاعلات النووية في خمسينيات القرن الماضي. وتراجع الاهتمام بهذه الفكرة مع دخول المفاعلات المُبرّدة بالماء حيز الاستخدام التجاري، إلا أنه في بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بدأ بعض العلماء بمن فيهم بعض علماء إم آي تي يعملون على تجديد هذه الفكرة.
اقرأ أيضاً: أخيراً: الإنفاق العالمي على الطاقة الشمسية يتجاوز الإنفاق على إنتاج النفط
تسعى عدة شركات ناشئة، مثل كايروس باور (Kairos Power) وتيرا باور (TerraPower)، إلى إدخال المفاعلات التي تعتمد على الملح المنصهر حيز الاستخدام التجاري. وتعمل هذه الشركات على بناء أنظمة تجريبية لعمليات التبريد الخاصة بها، وتسعى إلى الحصول على تراخيص لبناء مفاعلات تجريبية.
لن يشغل مختبر إم آي تي مفاعلاً يعتمد على الملح المنصهر. وبدلاً من ذلك، سيساعد على جمع المزيد من البيانات حول عمل هذه التكنولوجيا في العالم الحقيقي. ستتيح هذه المساحة للشركات والباحثين الأكاديميين اختبار مستشعرات إفرادية وقطع صغيرة من المواد المستخدمة لبناء المفاعلات، بل وستتيح أيضاً اختبار نظام تشغيل كامل من المضخات والأنابيب لتحريك الملح الحار ضمن دارة ودراسة تفاعل كل شيء مع الإشعاع. وقد قال لي كاربنتر في رسالة بالبريد الإلكتروني بعد الجولة: "نظراً لحداثة صناعة المفاعلات التي تعتمد على الملح المنصهر، ما زلنا في حاجة إلى دراسة معمقة للوظائف الأساسية".
اقرأ أيضاً: شركة ناشئة تعد بإطلاق أولى محطاتها للطاقة الاندماجية بعد خمس سنوات
يمكن للبيانات الصادرة عن إم آي تي والمنشآت البحثية الأخرى أن تساعد على تحديد قدرة أنظمة الملح المنصهر على تحمل الظروف الواقعية داخل مفاعل نووي. يجب أن تكون المنشأة جاهزة للعمل بالكامل في العام 2024.