كيف سيستفيد المؤرخون من الذكاء الاصطناعي في فهم الماضي على نحو أفضل؟

14 دقيقة
كيف سيستفيد المؤرخون من الذكاء الاصطناعي في فهم الماضي على نحو أفضل؟
مصدر الصورة: بيث هوكل

التوقيت: إحدى الأمسيات من عام 1531 في مدينة البندقية. وفي مشغل الطباعة، ينكب أحد المتدربين على مخطط سيتحول إلى صفحة في كتاب علمي عن الفلك، وهو سطر مكثّف من الكلمات المطبوعة مع لوحة طباعة خشبية تحمل شكل رأس ملائكي يراقب الأجسام في حركتها عبر الكون خلال خسوف قمري. 

وعلى غرار جميع عمليات إنتاج الكتب في القرن السادس عشر، فهي عملية مضنية وتستغرق الكثير من الوقت، ولكنها تُتيح أيضاً انتشار المعرفة بسرعة غير مسبوقة.

ولكن، بعد 500 سنة، تحول إنتاج المعلومات إلى أمر مختلف للغاية، حيث تتدفق المعلومات بأحجام تُقدّر بالتيرابايت ومضاعفاتها من الصور ومقاطع الفيديو والنصوص في تيارات من البيانات الرقمية التي تدور وتنتقل بصورةٍ شبه آنية، ويجب تحليلها بسرعة مماثلة تقريباً، ما يُتيح تدريب نماذج التعلم الآلي على تصنيف هذه التدفقات، ويستوجب هذا التدريب أيضاً.  لقد أثّرت هذه النقلة في إنتاج المعلومات على مستقبل كل شيء؛ بدءاً من الإنتاج الفني وصولاً إلى تطوير الأدوية.

اقرأ أيضاً: كيف أسهم تشات جي بي تي في نشر ثقافة الذكاء الاصطناعي؟

ولكن هذه التطورات تُتيح أيضاً النظر إلى بيانات الماضي بطريقةٍ مختلفة. فقد بدأ المؤرخون باستخدام التعلم الآلي -الشبكات العصبونية العميقة على وجه الخصوص- في دراسة الوثائق التاريخية، بما فيها الجداول الفلكية مثل تلك التي أُنتجت في البندقية، وغيرها من أولى المدن العصرية، التي تحمل البقع الناجمة عن عدة قرون أمضتها في سجلات الأرشيفات المليئة بالعفن، أو الناجمة عن خطأ يدوي ارتكبه عامل الطباعة.  

يقول المؤرخون إن تطبيقات علم الحاسوب الحديث على الماضي السحيق يمكن أن تساعد على تحديد الصلات القائمة بين مجموعة كبيرة من السجلات التاريخية بصورة لم تكن ممكنة من قبل، وتصحيح الأخطاء الناجمة عن التحليل التاريخي لكل وثيقة بمفردها. ولكن هذا الأسلوب يمكن أن يؤدي إلى أخطاء خاصة به، بما في ذلك خطر انحراف التعلم الآلي نحو التحيز، بل والتزييف الفاقع للسجلات التاريخية. ويؤول كل هذا إلى سؤال يجب أن يطرحه المؤرخون، وغيرهم ممن يقولون إنهم يفهمون الحاضر من خلال دراسة الماضي: إذا كانت الآلات ستقوم بدورٍ أكبر في المستقبل، فإلى أي درجة يجب أن نوكّل إليها مهمة تحليل الماضي؟

فهم التعقيدات

وصلت البيانات الكبيرة إلى العلوم الإنسانية عبر المبادرات الهادفة إلى رقمنة عدد متزايد من الوثائق التاريخية، مثل مجموعة مكتبة الكونغرس التي تضم الملايين من صفحات الصحف، وسجلات أرشيف المحاكم الفنلندية التي تعود إلى القرن التاسع عشر. وبالنسبة للباحثين، يمثّل هذا مشكلة وفرصة في آنٍ واحد، فثمة الكثير من المعلومات الإضافية، ولكن دون وسيلة فعلية لدراستها وتصنيفها في أغلب الأحيان.

ولمواجهة هذا التحدي، تم تطوير العديد من الأدوات الحاسوبية التي تساعد الباحثين على فهم التعقيدات. ففي 2009، كان يوهانس برايسر كابيلر، وهو أستاذ في الأكاديمية النمساوية للعلوم، يتفحص سجلاً من قرارات الكنيسة البيزنطية العائدة إلى القرن الرابع عشر. وأدرك برايسر كابيلر أن فهم محتويات المئات من الوثائق سيحتاج إلى مسح رقمي منهجي لعلاقات الأساقفة، ولهذا عمد إلى بناء قاعدة بيانات للأفراد، واستخدم برمجيات تحليل الشبكات لإعادة بناء الروابط القائمة بينهم.

اقرأ أيضاً: 6 طرق يساعد بها الذكاء الاصطناعي في استكشاف الفضاء

وكشفت عملية إعادة البناء هذه وجود أنماط مخفية من النفوذ، ما أدّى ببرايسر كابيلر إلى استنتاج يقول إن الأساقفة الذين تحدثوا أكثر من غيرهم في الاجتماعات لم يكونوا الأكثر نفوذاً، ومنذ ذلك الحين، قام بتطبيق هذه الطريقة على شبكات أخرى، بما في ذلك النخبة البيزنطية في القرن الرابع عشر، ليكشف النقاب عن بعض الأساليب المتبعة التي تم من خلالها الحفاظ على نسيجها الاجتماعي من خلال المساهمات الخفية للنساء. ويقول: "لقد تمكنا من تحديد ما كان يجري خارج إطار الرواية الرسمية، إلى حد ما".

وليس عمل برايسر كابيلر سوى مثال واحد على هذا الاتجاه في العمل الأكاديمي. ولكن، حتى فترة قريبة، غالباً ما كان التعلم الآلي عاجزاً على التوصل إلى استنتاجات من مجموعات نصية متضخمة باستمرار، خصوصاً بسبب بعض الصفات الخاصة التي جعلت تفكيك رموز هذه الوثائق مستحيلاً بالنسبة للآلات (مثل الكتابة اليدوية السيئة باللغة الإغريقية في حالة برايسر كابيلر).  أما الآن، فقد بدأت التطورات في التعلم العميق بتجاوز هذه المشكلات، معتمدة على شبكات تحاكي الدماغ البشري لكشف الأنماط الكامنة في مجموعات البيانات الضخمة والمعقدة.

فمنذ ما يقارب 800 سنة مضت، قام الفلكي يوهانس دي ساكروبوسكو من القرن الثالث عشر بنشر كتاب "الكرة الكونية" (Tractatus de sphaera)، وهو دراسة تعريفية عن الكون وفق نموذج مركزية الأرض. وأصبحت هذه الدراسة مادة قراءة إلزامية لطلبة الجامعات الحديثة الأولى. وقد كان هذا الكتاب المرجعي الأكثر انتشاراً في مجال علم الفلك وفق نموذج مركزية الأرض، وحافظ على انتشاره حتى بعد أن أحدثت الثورة الكوبرنيكية (نسبة إلى العالم كوبرنيكوس) تغييراً شاملاً في نظرتنا إلى الكون في القرن السادس عشر، والتي كانت قائمة على نموذج مركزية الأرض. 

اقرأ أيضاً: مورفيوس: برنامج مدعوم بالذكاء الاصطناعي يساعد في تحليل الصور الأولى لتلسكوب جيمس ويب الفضائي

كما أن هذه الدراسة تعد العنصر الأكثر أهمية في المجموعة المرقمنة المؤلفة من 359 كتاباً مرجعياً حول الفلك من الفترة الممتدة بين عامي 1472 و1650، التي تشمل 76,000 صفحة، بما فيها عشرات الآلاف من الرسومات التوضيحية العلمية، والجداول الفلكية. وفي مجموعة البيانات الشاملة تلك، رأى الأستاذ في معهد ماكس بلانك لتاريخ العلوم، ماتيو فاليرياني، فرصة سانحة لتتبع تطور المعرفة الأوروبية نحو رؤية علمية مشتركة للعالم. ولكنه أدرك أن كشف الأنماط يتطلب قدرات تتجاوز القدرات البشرية. وهكذا، لجأ فاليرياني مع فريق من الباحثين في معهد برلين لأسس التعلم والبيانات (بايفولد (BIFOLD) اختصاراً)، إلى التعلم الآلي.

واحتاج هذا العمل إلى تقسيم المجموعة إلى ثلاث فئات: الأجزاء النصية (أي النصوص المكتوبة حول موضوع معين، مع بداية ونهاية واضحتين)، والرسومات التوضيحية العلمية، التي ساعدت على توضيح بعض المفاهيم، مثل خسوف القمر، والجداول الرقمية، التي استُخدِمت لتعليم النواحي الرياضية في علم الفلك. 

ويؤول كل هذا إلى سؤال يجب أن يطرحه المؤرخون: إذا كانت الآلات ستقوم بدور أكبر في المستقبل فإلى أي درجة يجب أن نوكّل إليها مهمة تحليل الماضي؟

ومنذ بدء العمل، كما يقول فاليرياني، واجهت الخوارزميات عدة مشكلات في فهم النصوص. وعلى سبيل المثال، فقد كانت أشكال الأحرف متباينة إلى درجة كبيرة، حيث طوّرت محلات الطباعة الحديثة حروفاً فريدة بأشكال خاصة بها لطباعة كتبها، وغالباً ما كانت تتضمن ورشات أشغال معدنية ملحقة بها لسبك حروفها. وهذا يعني أن النموذج الذي يستخدم معالجة اللغة الطبيعية لقراءة النص سيحتاج إلى إعادة التدريب لقراءة كل كتاب. 

كما شكّلت اللغة مشكلة أخرى بحد ذاتها. ففي كثيرٍ من الأحيان كانت النصوص مكتوبة بلهجات لاتينية تعود إلى أقاليم معينة، وغالباً ما كانت مجهولة بالنسبة للآلات التي لم تحظَ بأي تدريب على اللغات التاريخية. يقول فاليرياني: "بشكلٍ عام، تمثّل هذه المسألة مشكلة كبيرة لمعالجة اللغات الطبيعية، حيث لا يوجد ما يكفي من المفردات للتدريب قبل بدء العمل". وهذا أحد الأسباب التي تجعل معالجة اللغات الطبيعية ناجحة في اللغات واسعة الانتشار، مثل الإنجليزية، وأقل فاعلية في اللغات القديمة، مثل العبرية. 

وبدلاً من ذلك، عمد الباحثون إلى استخلاص النصوص يدوياً من المواد المرجعية، وعملوا على تحديد صلات إفرادية بين مجموعات الوثائق، كما في حالة وجود نصوص مقلدة أو مترجمة في أكثر من كتاب واحد. وتم وضع هذه البيانات ضمن بيان (رسم مخطط مكون من عقد ووصلات فيما بينها (graph)) قام آلياً بتخزين هذه الصلات الإفرادية ضمن شبكة تحتوي على جميع السجلات، واستخدم الباحثون بعد ذلك بياناً لتدريب نموذج تعلم آلي يستطيع اقتراح الروابط القائمة بين النصوص. وبعد هذا، لم يبقَ سوى العناصر المرئية في النصوص. التي تتضمن 20,000 شكل توضيحي و10,000 جدول، والتي اعتمد الباحثون في دراستها على الشبكات العصبونية.  

اقرأ أيضاً: الشبكات العصبونية الاصطناعية تُعلّم نفسها شم الرائحة كخلايا الدماغ تماماً

الزمن الحاضر

تتعرض تكنولوجيا الرؤية الحاسوبية لدى استخدامها مع الصور التاريخية إلى مشكلات مماثلة لما تتعرض له معالجة اللغات الطبيعية، مثل التحيز للحاضر، وفقاً لتسمية الأستاذة المشاركة للعلوم الإنسانية الرقمية في جامعة ريتشموند، لورين تيلتون. فالعديد من نماذج الذكاء الاصطناعي مدرب على مجموعات بيانات تعود إلى السنوات الـ 15 الأخيرة، كما تقول تيلتون، ومن ثم فإن الأجسام التي تدربت على تصنيفها وكشفها تنتمي في أغلب الأحيان إلى الحياة المعاصرة، مثل الهواتف الخلوية والسيارات. إضافة إلى هذا، فإن الحواسيب تتعرف في أغلب الأحيان فقط على الأشكال المعاصرة من الأشياء التي تنتمي إلى فترات تاريخية أقدم، مثل التعرف على هواتف آيفون وسيارات تسلا بدلاً من لوحات التبديل الهاتفي وسيارات فورد موديل تي. وعلاوة على ذلك، فإن تدريب النماذج يعتمد عادة على صور ملونة عالية الدقة بدلاً من الصور القديمة بالأبيض والأسود ذات المظهر الحُبيبي (أو أوائل الصور العصرية للكون، التي تتميز بمظهر غير متسق، والتي تتردى مع مرور الوقت). وتؤدي كل هذه الأسباب إلى تراجع في دقة الرؤية الحاسوبية عند تطبيقها على الصور التاريخية.

اقرأ أيضاً: الشبكات العصبونية المدرّبة تماثل الأداء البشري في الاختبارات النفسية التقليدية

وتقول: "عند التواصل مع مختصي علم الحاسوب، يقولون لنا إنهم تمكّنوا من حل مشكلة كشف الأجسام. ونقول لهم إن استخدام هذه التكنولوجيا مع مجموعة من الصور التي تعود إلى ثلاثينيات القرن الماضي يبين أن هذه المشكلة لم يتم حلها جيداً كما تعتقدون". يمكن استخدام نماذج التعلم العميق في هذه الحالة، لأنها أكثر قدرة على التجريد، وتستطيع كشف الأنماط في مقادير ضخمة من البيانات. 

صفحة من تعليق نُشر عام 1531 لبروسدوسيمو دي بيلدوماندو على كتاب "الكرة الكونية" ليوهانس دي ساكروبوسكو. تُظهر الصفحة مقاطع من النص الأصلي والتعليق الذي يتضمن نقاشاً للمفاهيم الميكانيكية للكسوف الشمسي والخسوف القمري. المصدر: مكتبة معهد ماكس بلانك لتاريخ العلوم، برلين. 
جدول بقيم زاوية الصعود المائل محسوبة لارتفاع 48 درجة و40 دقيقة عن القطب السماوي الشمالي. ومن أجرى حساب هذه القيم هو الرياضي الملكي الفرنسي أورونس فيني. المصدر: مكتبة معهد ماكس بلانك لتاريخ العلوم، برلين.
 

وفي حالة مشروع كتاب الكرة الكونية، قام باحثو بايفولد بتدريب شبكة عصبونية على كشف الأشكال التوضيحية في النصوص العائدة إلى بدايات العصر الحديث وتصنيفها وتجميعها (وفقاً لتشابهها)، وحالياً، يمكن للمؤرخين الآخرين استخدام هذا النموذج عبر خدمة ويب متاحة للعموم تحمل اسم كورديب (CorDeep). كما اتخذوا نهجاً جديداً في تحليل بيانات أخرى. وعلى سبيل المثال، فقد تعذر إجراء مقارنة بين الجداول المتنوعة الموجودة ضمن المئات من الكتب في المجموعة من الناحية المرئية لأنه "يمكن طباعة الجدول نفسه بألف طريقة مختلفة"، على حد توضيح فاليرياني. ولهذا، طوّر الباحثون بنية شبكة عصبونية قادرة على كشف الجداول المتشابهة وتجميعها على أساس الأرقام التي تحتويها،
مع تجاهل شكل الجدول وتوزع مكوناته.

وحتى الآن، أدّى المشروع إلى بعض النتائج المفاجئة. وبفضل أحد الأنماط التي اكتشفها الباحثون في البيانات، استنتجوا أن المعرفة العلمية في أوروبا دخلت مرحلة من التماسك والترابط في الفترة التي كانت المنطقة تشهد فيها انقسامات دينية بعد الإصلاحات البروتستانتية. فالنصوص العلمية التي كانت تُطبع في أماكن مثل مدينة ويتينبيرغ البروتستانتية، والتي تحولت إلى مركز للإبداع الأكاديمي بفضل عمل الأكاديميين الإصلاحيين، كانت تُقَلّد في مراكز مثل باريس والبندقية، قبل الانتشار عبر أنحاء القارة كافة. ومع أن موضوع الإصلاح البروتستانتي نال ما يكفي من الدراسة، كما يقول فاليرياني، إلّا أن الدراسة باستخدام الآلات أتاحت للباحثين رؤية شيء جديد: "لم يكن هذا الأمر واضحاً على الإطلاق من قبل". فالنماذج التي طُبقت على الجداول والصور بدأت بكشف أنماط متماثلة.

إضافة إلى هذا، فإن الحواسيب تتعرف في أغلب الأحيان فقط على الأشكال المعاصرة من الأشياء التي تنتمي إلى فترات تاريخية أقدم، مثل التعرف على هواتف آيفون وسيارات تسلا بدلاً من لوحات التبديل الهاتفي وسيارات فورد موديل تي.

وتقدّم هذه الأدوات العديد من الإمكانات والاحتمالات الأكثر أهمية بكثير من مجرد تتبع 10,000 جدول، كما يقول فاليرياني. وبدلاً من هذا، تُتيح للباحثين التوصل إلى استنتاجات حول تطور المعرفة بالاعتماد على الأنماط في مجموعات السجلات، حتى لو اقتصر الباحثون في عمليات التدقيق الفعلية على مجموعة صغيرة من الوثائق وحسب. ويقول: "بمجرد النظر إلى جدولين اثنين، يمكنني أن أتوصل إلى استنتاجات ضخمة تعود إلى 200 سنة تقريباً".

تسهم الشبكات العصبونية العميقة أيضاً في دراسة التاريخ الأقدم حتى. فتفكيك رموز الكتابات (المعروفة باسم علم دراسة النقوش) واستعادة الشواهد التالفة مهام مضنية، لا سيما عندما تكون الأجسام التي تحمل الكتابات قد تعرضت للتحريك، أو تفتقر إلى الأدلة المتعلقة بالسياق. وحينها، يحتاج المؤرخون المختصون إلى التخمين اعتماداً على خبراتهم. وللمساعدة في هذا المجال، قام الباحث العلمي يانيس أسايل من شركة ديب مايند (DeepMind)، والزميلة في مرحلة ما بعد الدكتوراة في جامعة كافوسكاري في البندقية، ثيا سومرشيلد، بتطوير شبكة عصبونية تحمل اسم إيثاكا، وتستطيع هذه الشبكة إعادة تشكيل الأجزاء المفقودة من الكتابات، وتنسب التواريخ والبيانات إلى النصوص. ويقول الباحثون إن النهج الذي يعتمد على التعلم العميق -والذي يتضمن التدريب باستخدام مجموعة بيانات تتضمن أكثر من 78,000 كتابة منقوشة- هو الأول من نوعه من حيث التعامل مع عمليتي الاستعادة والنسب في الوقت نفسه، وذلك عبر التعلم باستخدام كميات ضخمة من البيانات.

وحتى الآن، وفقاً لأسايل وسومرشيلد، تمكنت هذه الطريقة من إلقاء الضوء على كتابات منقوشة لأحكام وقرارات تعود إلى فترة مهمة من الحقبة الكلاسيكية في أثينا، المنسوبة إلى 446-445 قبل الميلاد، وهو تاريخ لم يوافق عليه بعض المؤرخين. ولاختبار هذه الطريقة، قام الباحثون بتدريب النموذج على مجموعة بيانات لم تتضمن تلك الكتابات، ثم طلبوا بعد ذلك من النموذج تحليل نصوص هذه القرارات. وأعطت العملية تاريخاً مختلفاً. وقال الباحثان في رسالة بالبريد الإلكتروني: "يبلغ التاريخ الوسطي الذي تنبأت به إيثاكا لهذه القرارات 421 قبل الميلاد، وهو ما يتوافق مع أحدث الإنجازات في مجال تحديد التواريخ، ويبيّن المساهمة الكبيرة التي يمكن أن يقدّمها التعلم الآلي إلى الحوار حول إحدى أهم اللحظات في التاريخ اليوناني".

مصدر الصورة: بيث هوكل
مصدر الصورة: بيث هوكل

آلات الزمن

تقترح مشاريع أخرى استخدام التعلم الآلي للتوصل إلى استنتاجات أكثر شمولية حتى حول الماضي. ويمثّل هذا التوجه الحافز الذي أدّى إلى تأسيس آلة الزمن الخاصة بالبندقية، وهي واحدة من عدة "آلات زمن" محلية تم تأسيسها في أنحاء أوروبا كافة لإعادة تشكيل التاريخ المحلي بالاعتماد على السجلات المرقمنة. تغطي السجلات الحكومية في البندقية 1000 سنة من التاريخ، وتمتد على 80 كيلومتراً من الرفوف، ويسعى الباحثون إلى رقمنة هذه السجلات، التي لم يخضع الكثير منها إلى أي عملية تدقيق على يد المؤرخين المعاصرين. وسيستخدم الباحثون شبكات التعلم العميق لاستخلاص المعلومات، وتتبع الأسماء التي تظهر في الوثيقة نفسها عبر وثائق أخرى، وذلك لإعادة تشكيل الصلات التي كانت تربط سكان البندقية في الماضي. 

ويقول رئيس مؤسسة آلة الزمن، فريدريك كابلان، إن المشروع وصل في رقمنة الوثائق الإدارية للمدينة إلى مرحلة كافية لتشكيل تصور واضح حول بنية المدينة منذ قرون خلت، ما يجعل من الممكن تحديد العائلات التي كانت تعيش في كل مبنى من مباني المدينة في لحظات مختلفة من الزمن. 

يقول كابلان: "يجب رقمنة مئات الآلاف من الوثائق للوصول إلى هذا المستوى من المدينة. وهو أمر لم يحدث من قبل على الإطلاق". وعلى الرغم من هذا، فإن المؤرخين مثل يوهانس برايسر كابيلر، وهو أستاذ الأكاديمية النمساوية للعلوم الذي أجرى دراسة الأساقفة البيزنطيين، يقولون إن المشروع لم يتمكن من تحقيق هدفه الرئيسي بعد، والذي لا يقل عن محاكاة رقمية كاملة لمدينة البندقية في القرون الوسطى، وصولاً إلى مستوى الأحياء، وذلك عبر شبكات قام الذكاء الاصطناعي بإعادة تشكيلها، لأن النموذج لم يتمكن من تمييز الصلات المهمة عن غيرها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أيام الماضي المستقبلي: ثلاثة مشاريع رئيسية قيد التنفيذ في مجال العلوم الإنسانية الرقمية:

  • كورديب

    الجهة المنفذة: معهد ماكس بلانك لتاريخ العلوم.

    ماهية المشروع: تطبيق يعتمد على الويب لتصنيف محتوى الوثائق التاريخية التي تتضمن جداول عددية وعددية-حرفية. ويستطيع البرنامج تحديد العناصر المرئية المصنّفة ضمن فئات "رسومات توضيحية للمحتوى" و"توقيع بالأحرف الأولى" و"الزخارف" و"علامات مشغل الطباعة".

  • إيثاكا

    الجهة المنفذة: ديب مايند.

    ماهية المشروع: شبكة عصبونية عميقة مدربة لأداء مهام استعادة النصوص والإسناد الجغرافي والإسناد الزمني في الوقت نفسه، وهي مهام كان يقوم بها مختصو علم دراسة النقوش.

  • مشروع آلة الزمن لمدينة البندقية

    الجهة المنفذة: المعهد الفيدرالي للتكنولوجيا في لوزان، وجامعة كافوسكاري، ودائرة الأرشيفات الحكومية في البندقية.

    ماهية المشروع: مجموعة مرقمنة من الأرشيفات الحكومية في البندقية، التي تغطي 1,000 سنة من تاريخها. وما إن يتم استكمال هذا العمل، سيستخدم الباحثون التعلم العميق لإعادة تشكيل الشبكات الاجتماعية التاريخية.

وقد أجرى برايسر كابيلر تجربته الخاصة باستخدام الكشف الآلي لبناء الشبكات بالاعتماد على الوثائق، أي استخلاص معلومات الشبكات باستخدام خوارزمية، بدلاً من الاعتماد على خبير بشري لاستخلاص المعلومات التي يتم تلقيمها إلى الشبكات، كما حدث في عمله على الأساقفة، ويقول إن المشروع أدّى إلى إنتاج الكثير من "التعقيدات الاصطناعية"، ولكنها لا تتضمن أي شيء يمكن الاستفادة منه في إطار الاستنتاجات التاريخية. فلم تتمكن الخوارزمية من تمييز الحالات التي ظهر فيها اسما شخصين على القائمة نفسها من دافعي الضرائب عن الحالات التي ظهر فيها الاسمان على وثيقة زواج. ولهذا، "فإن هذه النتائج لا تحمل أي قيمة تفسيرية"، وفقاً لبرايسر كابيلر. لقد تحدث المؤرخون عن هذه المشكلة التي يعاني منها التعلم الآلي، بشكلٍ مماثل للمشكلة التي كشفها الناس في النماذج اللغوية الكبيرة مثل تشات جي بي تي: فالنماذج لا تفهم ما تقرؤه في نهاية المطاف، ولهذا، يمكن أن تتوصل إلى استنتاجات سخيفة. 

يقول كابلان إن المصادر المتوفرة حالياً تستوجب الاعتماد على التفسير البشري لتحديد السياق الصحيح، على الرغم من أنه يعتقد أن هذا يمكن أن يتغيّر حالما يصبح بإمكان الآلات قراءة عدد كافٍ من الوثائق التاريخية. 

ولكنه يتخيل تطبيقاً آخرَ للتعلم الآلي، قادراً على إحداث تغيرات جذرية أعمق، كما يمكن أن يكون أكثر إثارة للجدل. فمن الممكن استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي لوضع تنبؤات حول بعض الثغرات في السجلات التاريخية، مثل عدد المتدربين في مشغل لأحد الفنانين في البندقية، وذلك بالاعتماد على مجموعات كاملة من البيانات، لا على سجل واحد يمكن أن يكون ناقصاً أو غير دقيق. وقد يسمح هذا بتعزيز وجهة النظر للفئات غير النخبوية، ولكنه قد يتضارب مع الممارسات التاريخية المعتمدة، حيث يتم التوصل إلى الاستنتاجات بناء على الأدلة المتوفرة. 

ولكن، ثمة مصدر للقلق أكثر إلحاحاً يتمثل بالشبكات العصبونية التي يمكن أن تختلق سجلات مزيفة.  

اقرأ أيضاً: كيف تمكن طالب جامعي من خداع عشرات الآلاف عبر مدونة مزيفة مولَّدة بالذكاء الاصطناعي؟

أهي حقيقية؟ 

يمكن باستخدام يوتيوب (YouTube) مشاهدة ريتشارد نيكسون وهو يلقي خطاباً كُتِب في حال انتهى الهبوط على سطح القمر عام 1969 بكارثة، وهو خطاب لم يكن ضرورياً لحسن الحظ. وقد قام الباحثون بإنتاج هذا المقطع عميق التزييف لإثبات أثر الذكاء الاصطناعي في الإحساس الجمعي بالتاريخ. ففي ثوانٍ معدودة، يمكن لشخصٍ ما توليد صور مزيفة لأحداث تاريخية كبيرة، مثل نزول قوات الحلفاء على شاطئ النورماندي، كما ناقش دان كوهين - أستاذ التاريخ في جامعة نورث إيسترن- طلبته في إطار مادة دراسية مخصصة لدراسة تأثير الإعلام الرقمي والتكنولوجيا على الدراسات التاريخية، ويقول: "إن هذه الصور مقنِعة تماماً، ويمكنك ببساطة وضع مجموعة من الأشخاص على شاطئ مع دبابة ومدفع رشاش، وستبدو صورة مثالية".

ليس تزييف التاريخ بالأمر الجديد، وعلى سبيل المثال، يشير كوهين إلى أوامر ستالين بمحو أعدائه من كتب التاريخ، ولكن المواد عميقة التزييف قابلة للإنتاج بسرعة هائلة وعلى مستوى عالٍ من الانتشار، كما أن المشكلة في هذه الحالة لا تقتصر على الصور. فالذكاء الاصطناعي التوليدي قادر على كتابة نصوص تبدو شبيهة إلى درجة مقنعة بخطاب برلماني من العصر الفيكتوري، كما فعل كوهين مع طلبته. وبتوليد الكتابات اليدوية أو محارف الطباعة التاريخية، يمكن استخدامه أيضاً لبناء مواد مزيفة شبيهة على نحو مقنع للغاية بسجلات تاريخية مكتوبة. 

اقرأ أيضاً: شرح تكنولوجيا أوبن إيه آي لاستخدام الذكاء الاصطناعي في كتابة القصص الخيالية وتوليد الأخبار المزيفة

وفي هذه الأثناء، تُتيح بوتات الدردشة التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي، مثل كاراكتر أيه آي (Character.ai) وهيستوريكال فيغرز تشات (Historical Figures Chat)، محاكاة الحوار مع شخصيات تاريخية. وقد عبّر المؤرخون عن مخاوفهم من بوتات الدردشة هذه، والتي يمكنها، على سبيل المثال، تغيير صورة بعض الأفراد لجعلهم أقل عنصرية وأكثر تسامحاً. 

وبعبارة أخرى، فإن تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي، بدءاً ببوتات الدردشة التاريخية وصولاً إلى النماذج التي تنتج التنبؤات بناء على السجلات التاريخية، معرّضة لارتكاب أخطاء فادحة. لا يتجاوز بعض هذه الأخطاء المفارقات التاريخية الواضحة وغير المؤذية، فقد طُرِح سؤال على أرسطو باستخدام بوت الدردشة كاراكتر أيه آي حول رأيه بالنساء (اللواتي كان أرسطو يعتبرهن أقل مرتبة من الرجال)، وأجاب البوت بأن النساء يجب "ألّا يمتلكن أي وسائل تواصل اجتماعي". ولكن عدة أخطاء أخرى يمكن أن تكون أكثر خطورة، لا سيما عندما تُصبح جزءاً من مجموعة وثائق كبيرة إلى درجة لا يستطيع معها المؤرخ تدقيقها جميعاً، أو إذا تم نشرها من قِبل شخص منحاز إلى تفسير معين للتاريخ.

وحتى بعدم وجود محاولة خداع متعمدة، فإن بعض الأكاديميين يشعرون بمخاوف من استخدام المؤرخين أدوات لم يتدربوا على فهمها. يقول أستاذ التاريخ في جامعة تكساس في سان أنتونيو، أبراهام غيبسون: "أعتقد أن هذا الأمر ينطوي على مخاطرة كبيرة، لأننا بوصفنا مختصي تاريخ أو علوم إنسانية نقوم عملياً بإسناد عملنا التحليلي إلى حقل آخر، أو ربما حتى إلى آلة". يقول غيبسون إن زملاءه المؤرخين الذين كان يتواصل معهم لم يروا، حتى فترة قريبة للغاية، أي فائدة للذكاء الاصطناعي في عملهم، ولكنهم كانوا قد بدؤوا يدركون احتمال إسناد جزء من عملية تفسير التاريخ إلى نظام ذي آليات مجهولة، أو ما يُسمى "الصندوق الأسود".

ولا تقتصر مشكلة "الصندوق الأسود" هذه على التاريخ، فحتى مطورو أنظمة التعلم الآلي أنفسهم يواجهون صعوبة في استيعاب كيفية عملها. ومن حسن الحظ، فإن بعض الطرق المخصصة للمؤرخين مصمم لتوفير درجة أعلى من الشفافية. فإيثاكا تنتج مجموعة من الفرضيات المصنّفة حسب احتمال صحتها، ويعمل باحثو بايفولد على تفسير نماذجهم باستخدام أنظمة ذكاء اصطناعي قابلة للشرح والاستيعاب، ما يعني الكشف عن المدخلات الأكثر مساهمة في التنبؤات الناتجة. ويقول المؤرخون إنهم يعملون بأنفسهم على تعزيز الشفافية بتشجيع الناس على النظر إلى التعلم الآلي وفق نظرة حيادية ونقدية، واعتباره مجرد أداة مفيدة ولكنها معرّضة للخطأ، شأنها شأن البشر تماماً. 

اقرأ أيضاً: مؤسس آبل المشارك ستيف وزنياك يحذّر من تسهيل الذكاء الاصطناعي لعمليات الاحتيال

مؤرخو المستقبل

على الرغم من أن الشكوك المحيطة بهذه التكنولوجيا الجديدة ما زالت موجودة، فإن هذا المجال بدأ بتقبلها ببطء، ويعتقد فاليرياني أن عدد المؤرخين الرافضين للطرق الحاسوبية سيتضاءل مع مرور الوقت. ويقول إن مخاوف الأكاديميين حول أخلاقيات الذكاء الاصطناعي لا تمثّل سبباً للامتناع عن استخدام التعلم الآلي بقدر ما تمثّل فرصة لمختصي العلوم الإنسانية للمساهمة في تطويره.  

وكما كتب المؤرخ الفرنسي إيمانويل دي روي لادوري في 1968، معلّقاً على عمل المؤرخين الذين بدؤوا بإجراء التجارب على الأساليب الحاسوبية لدراسة بعض الأسئلة مثل أنماط التصويت في البرلمان البريطاني في أربعينيات القرن التاسع عشر: "سيكون مؤرخ المستقبل برنامجاً حاسوبياً، أو لن يكون موجوداً على الإطلاق". 

المحتوى محمي